سجلوا عندكم

لبنان بين فلسفة شارل مالك ودستور ميشال شيحا

Views: 6

المحامي معوض رياض الحجل

 

في تاريخ الاوطان كما في تاريخ القضايا الوطنية الكبيرة، تبرزُ قامات فكرية كبيرة جبارة يُغطي بعضا من جوانبها تاريخ الأوطان. وقد شَهدَ لبنان بكل فخر بروز أسماء لامعة ورائدة  كتبت بأحرفٍ من ذهب على صفحات التاريخ.

 على عكس العديد من الدراسات والابحاث التي تبحث حصراً عن نقاط التلاقي بينهما، سنحاول كشف وجهي التباين والتلاقي بين مدرستي الدكتور شارل مالك (1906-1987) والاستاذ ميشال شيحا (1891-1954)، بين المدرسة النظرية الفلسفية التي أنطلقَ منها الدكتور مالك، والمدرسة الواقعية التي عاشها ومارسها ميشال شيحا بحكم قربهِ من الرئيس الراحل بشاره الخوري (شقيق زوجته لور شيحا)، وموقفهما المُتباين في سياسة فن الواقع والمثالية وأنعكاسات المدرستين على الواقع اللبناني، بخاصةٍ في مطلع الاستقلال عام 1943 وأبان ثورة العام 1958 الدموية.

 

شارل مالك صاحب فكر شمولي وروح مسكونية

في الحقيقة، كانَ الدكتور الراحل شارل مالك يتحلى بصفةٍ نادرة، الا وهي قدرتهُ على المزج بين النظرة الكاملة والنظرة الخاصة للاشياء المزج بين النظرة الروحية الوطنية الخاصة والنظرة المسكونية الشاملة للكون وللكنيسة.

وطنياً، حاولَ الدكتور شارل مالك رفع موقع لبنان المُستقل حديثاً في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين إلى أعلى المُستويات دولياً. وقد أثبتَ هذا الأمر بجدارة إن في عملهِ في سفارة لبنان في واشنطن وإن في الامم المُتحدة، الأمر الذي دَفعَ المرحوم ميشال شيحا آنذاك إلى مُطالبة رئيس الجمهورية الشيخ بشاره الخوري بالتمسك بهِ في منصبهِ في الامم المُتحدة كلما حاولَ مُحبي الوظائف الحلول مكانه، حسبما روى الرئيس الراحل شارل حلو الذي عَاصرَ هذه الفترة عن كثب. 

كان دكتور مالك العربي الوحيد الذي شَاركَ في صياغة وإعداد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في كانون الاول 1948 بصفتهِ رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة.

تنكرَ البعض لدورهِ الرائد دولياً وأعتبروه مسؤولاً  بطريقة أو باخرى عن الانشقاق الذي حَصلَ بين اللبنانيين وأدى إلى أندلاع ثورة 1958 الدموية نتيجة سياستهِ الخارجية في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون بمنحاها الغربي.

أما ميشال شيحا فمن المُتعارف عليه كعراب للصيغة اللبنانية في مراحل وضع الدستور اللبناني في العام 1926 بالتعاون مع بترو طراد وعمر الداعوق. لا تزال أفكارهُ السياسية والفلسفية تؤثر على مسيرة لبنان الاقتصادية والسياسية. كتب ميشال شيحا في ثلاث قضايا كبرى: لبنان، فلسطين، وحالة العالم في زمنه.

بيدهِ خط ميشال شيحا الكثير من مواد الدستور والتعديلات، وشَددَ على ضرورة قراءة دستور لبنان وفهم روحهِ لا نصهِ وحسب. بدقةٍ وبُعد نظر مُنقطع النظير، وَضعَ صيغة النظام المُتفردة، وهدفهُ الأسمى بناء نظام ليبرالي حر، لأن الحرية لا تتجزأ، فهي تتجاوز حقلي الدين والسياسة إلى الاقتصاد، حيث يُصبح العمل والتجارة وأنتقال الأشخاص والرساميل، عملاً ثقافيًا في الحوار بين لبنان والعالم، من دون تمييز بين شرق وغرب.

يكفي إيمانُ ميشال شيحا بالأمةِ اللبنانيةِ نَصُّه الدستوريُّ الذي أَوجَبَ على رؤساءِ الجمهوريةِ المُنتَخَبين، بأن يُردِّدوا وهم يُقسمون يمينَ الولاء: “أحلفُ باللهِ العظيمِ أن أحترمَ دستورَ الأمةِ اللبنانيةِ وقوانينَها، وأحفظُ استقلالَ الوطنِ اللبنانيِّ وسلامةَ أراضيه”.

الدكتور شارل مالك لم يكن مُطلقاً بعيداً عن تفكير ميشال شيحا. فشيحا كان أحد داعمي فكرة الوفاق الوطني، أو فن المُمكن، ولكنهُ كانَ يطمح أيضاً في نقاطٍ هامة إلى تركيز لبنان على أسسٍ متينة في علاقاتهِ الدولية. الدكتور مالك كان الشخص الوحيد القادر بفضلِ شبكة علاقاتهِ الدولية من رفع لبنان إلى هذا المُستوى، من خلال منبر الامم المُتحدة. لقد دافعَ مالك بشراسة ومن دون تردد عن كل القضايا العربية والعالمية. غير أنهُ مُني بخيبة أمل لقصر أنفاسهم لأن قسما كبيرا منهم ومن اللبنانيين حاول دون تبوئهِ الامانة العامة للامم المُتحدة عندما شغرت بعد مرحلة همرشولد ويوثانت وقبل أنتخاب كورت فالدهايم. بالنتيجة كان عمل ميشال شيحا موجهاً اكثر نحو الداخل اللبناني وطريقة تنظيمهِ وادارتهِ بينما نشاط الدكتور مالك كان دولياً، أي موجهاً في مُعظمهِ نحو تثبيت موقع لبنان بين الدول المُتقدمة.

 

التلاقي بين شارل مالك وميشال شيحا

يلتقي الرجلان في توخيهما ارساء لبنان المُستقل دولياً. ومما لا شك فيه أن خيارهما المُشترك والوحيد كان تثبيت علاقة لبنان المُستقل بمحيطهِ العربي والشرق أوسطي أولاً، وبالحضارة العالمية التي يغلبُ عليها الفكر الغربي ثانياً.

شارل مالك عمل كثيراً وبجهد لنصرة قضايا العرب المُحقة ولقضية فلسطين بنوعٍ خاص. ولكنهُ واجهَ صداما بعض الاحيان عندما كان العرب بقصدٍ أو بغير قصد لا يُشجعون فكرة استقلال لبنان. فأول الاولويات عند الدكتور مالك هو لبنان وسيادته وأستقلاله. (https://www.language-museum.com/)  

شارل مالك في مواقفهِ السياسية كان يُعتبر مُتطرفاً إلى حدٍ ما من خلال طلبهِ الكمال ولم يطالب بالحلول المًمكنة أو أنصاف الحلول، علماً أنهُ مارسَ السياسىة عملياً.

شارل مالك لم يدخل عالم السياسة من الباب الوطني أو التجاري مثل ميشال شيحا، بل من الفكر والفلسفة، من الكماليات والنظريات الشاملة الكاملة. 

كان ميشال شيحا رجل أقتصاد وصاحب مصرف (بنك فرعون وشيحا الذي تأسس في العام 1876). بينما الدكتور شارل مالك كان أستاذ فلسفة وقد انطلقَ بصفتهِ فيلسوفا من أرسطو وأفلاطون ولم يكن مُتعصبا دينياً، بل كان هَمهُ البحث عن الحقيقة.

مارونية شارل مالك

كان الدكتور مالك أرثوذكسياً عريقاً مُتجذراً ومؤمناً بفعلِ روحانيتهِ المشرقية الموروثة. كما كان كاثوليكياً صارماً بفعل نظاميتهِ الفكرية الاغريقية الرومانية. كما كان مُسكونياً ومُحاوراً عميق التفهم للغير. كان عظيم التأثر بمشكلات الانسان كأنها من خصوصياتهِ الغيرية بفعل جدليته العقلانية. ولكنهُ– كان مُقدراً كل التقدير للدور التاريخي الماروني وللخيار الحياتي الجريء الذي أتخذوه بالنسبة للبنان وطناً للانسان يؤمن بالتعددية طريقاً للتطور الحر.

ولكن لا المارونية ولا الكثلكة ولا حتى الارثوذكسية كان يسمح لها أن تحجب وجه المسيح. كان يعرف أن يغوص إلى الاعماق في كل شيء يذهب رأساً إلى لب الاشياء وجوهرها. هذه الصفات جعلت منهُ مسكونياً مُحاوراً من الطراز الاول. 

 

لبنان هو بلد الحلم والواقع معاً

كان ميشال شيحا يطلُ كل يوم بافتتاحية في جريدة “لوجور” الصادرة باللغة الفرنسية، تتناول مُختلف الأحداث فيكون لقولهِ الكلمة الفصل في تطوراتها. ولكن فكرهُ الوطني الشامل تجلّى في مُحاضراته في “الندوة اللبنانية” وقد جمعها مؤسس الندوة الاستاذ ميشال أسمر وعرَّبها ونشرها في كتاب بعنوان “لبنان في شخصيته وحضوره” أحتفل بصدوره عام 1962 في قصر هنري فرعون، وقدمهُ وزير الخارجية آنذاك فيليب تقلا بقولهِ: “ليس من السهل الحديث عن ميشال شيحا الذي جَمعَ في شخصهِ من المؤهلات والكفاءات المنوّعة إلى حدّ التناقض، ولكنه بقدرتهِ العجيبة نَجحَ في التوفيق بينها، وجعلها روافد نهر واحد لهدف واحد هو لبنان”… وأضاف: “استطاع ميشال شيحا المثالي الواقعي في آن أن يُقيمَ، بفضل ذكائه الرحب، جسوراً بين عبقرية الحُلم وعبقرية الواقع، وهو القائل “إن لبنان هو بلدُ الحُلم والواقع معًا”.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *