فضائل معرفيّة مُهَاجِرة عبر فنّ التراسُل

Views: 320

المهدي مستقيم*

ينظر “روجِه بويفِه” إلى الفضيلة الأخلاقيّة بوصفها موقفاً يتمّ تشييده على أساس قدرةٍ طبيعيّة، قد تجعل الشخص متفوّقاً من الناحية الفكريّة. بيد أنّها تحفِّزه على البحث عن الحقيقة، إذ تصبح المسؤوليّة المعرفيّة La responsabilité épistémique شأناً تربويّاً، وليست إعادة نظر جذريّة في الاعتقادات وبحثاً عن أساس مطلق (?Roger Pouivet, Qu’est-ce que croire).إنّ الفضائل الفكريّة أو الإبّيستِمولوجيّة هي إذاً قدرات إنسانيّة وسمات تخصّ الطبع، وتضمن على قدر الإمكان – أي بشكلٍ يقبل الوقوع في الخطأ – القيمة المعرفيّة لاعتقاداتنا. ومن بين أهمّها نجد، بحسب ما وَردَ في كتاب بويفِه:

  • الحياد الفكريّ: الانفتاح على جميع الأفكار وإبداء الرغبة في الإنصات لها من أجل فهمها، واحترام الاختلافات الفكريّة التي تنجرُّ عنها. ويقابلها التحيُّز الفكريّ/ الوحدة الفكريّة.
  • الرصانة الفكريّة: تَوخِّي الحذر تجاه الأفكار الشديدة الحماس، واحترام السلطة الفكريّة لذوي الكفاءة العلميّة.
  • الشجاعة العلميّة: فحص الأفكار المُتداوَلة الشائعة وإخضاعها لمحكّ النقد والعقل. ويقابلها الكسل الفكريّ والشلل الفكريّ.
  • الانسجام الفكريّ: القدرة على إيجاد الوسيلة المُناسبة للبحث من أجل الوصول إلى الحقيقة. ويقابلها التشتّت الفكريّ.

وتكشف مراسلات “سبينوزا” – الصادرة ترجمتها حديثاً عن دار الرافدين (2022) بعنوان “المُراسلات” وبتوقيع الباحث والمُترجِم الأنيق باسل الزّين – عن حرصه الشديد على التشبُّث بالفضائل تلك. الأمر الذي يبدو واضحاً أشدّ الوضوح من خلال تمسّكه بأوليّات المنهج العقلاني المطبوع بعِلم الرياضيّات، بما هو المصدر الذي تنهل منه شتّى المعارف الحسيّة المجرّدة، وبما هو المدخل الرحب المؤدّي صوبَ خلاص الإنسان وسعادته. يقول هنري أولدنبرغ Henri Oldenburg واصفاً حال “سبينوزا” في رسالة خطَّها له بتاريخ 16 – 26 آب/ أغسطس1661: “إنَّ علم الأمور الجديّة، الذي يجتمع مع اللّطف والتهذيب (كلّ تلك الخصال الحميدة التي منحك إيّاها الفنّ والطبيعة)، ينطوي في ذاته على عناصرِ جذْبٍ كثيرة تجعله محبوباً من كلّ إنسان نزيه تلقّى تعليماً حرّاً”.

ومن ثمّ مأتى الحاجة إلى نقلِ “المراسلات” هذه إلى اللِّسان العربي، ولاسيّما أنّها تمكِّن من:

  • الوقوف عند بعض مناحي اللَّبس والالتباس في الجهاز المفاهيمي المُرَكَّب الذي يَنْظُمُ تأليف “سبينوزا”، قصد توضيحه ورفْع ما يعتوره من غموض، وذلك بالنّظر إلى قيمة الأسئلة والتوضيحات والمناقشات والانتقادات التي تلقّاها “سبينوزا” من مُجايليه، سواء كانوا فلاسفة أم مفكّرين أم علماء، إذ تبيَّنوا كما يقول الباحث والمُترجم “باسل الزين”: “مواضع الالتباس في فلسفته، ووقفوا على بعض مُتناقضاتها، بالحجّة والبرهان، إلى حدٍّ يُمكن القول معه إنَّ “المُراسلات” هذه تشمل إضاءات لا غنىً عنها لـ (سبينوزا) أوّلاً، ولقارئه ثانياً، ذلك أنَّ النقد البنّاء يتيح للفيلسوف فرصةَ إعادة صياغة ما التبس وتوضيح ما احتجب من فلسفته”.
  • ترسيخ الفضائل المعرفيّة التي تحلَّى بها “سبينوزا” في عصره: الفهْم، والتقصّي، والرصانة الفكريّة، والتدبُّر المنطقي، والهدوء الفلسفي…إلخ ومن ثمّ، نبْذ الرذائل المعرفيّة المتمثّلة في: الجهل، والتعصُّب، وضيق الأُفق…إلخ.
  • الاطّلاع على موسوعيّة فكر “سبينوزا” (الفلسفة، اللّاهوت، الفيزياء، الرياضيّات، الفلك…إلخ) من جهة أولى، وعلى سعة صدره ورحابته من جهة ثانية، إذ تنطوي مُراسلاته على أبعادٍ إنسانيّة نادرة قوامها: العلاقات الوجدانيّة، والصداقات الرصينة. في رسالته إلى السيّد “وليم فان بلينبيرغ” Willem Van Bluenbergh بتاريخ 5 كانون الثاني/ يناير 1665، يقول “سبينوزا”:

“في الواقع من بين الأشياء التي لا تقع في مجال قدرتي، هو شرف تكوين علاقات صداقة مع الأشخاص الذين يطلبون الحقيقة بمحبّة وصدق، مع كلّ ما تحظى به هذه العلاقات من أهميّة. إذ أعتقد أنّه لا يوجد في العالَم بأسره شيء ما يُمكن أن نحبّه بثقة، من بين الأشياء التي تتجاوز قدرتنا، سوى هؤلاء الأشخاص. في الواقع، من المحال أن يختفي الحبّ الذي يُكنّونه لبعضهم البعض، ذلك أنّه يتأسَّس على الحبّ الذي يحمله كلُّ واحدٍ منهم للحقيقة، مع العلم أنّهم لا يعتنقون هذه الحقيقة نفسها متى أمكن لهم تبنّيها. وأكثر يتعلّق الأمر بالحبّ الأكثر سموّاً والأكثر مُلاءمةً الذي يُمكن أن نجده في الأشياء التي تتجاوز قدرتنا. إذ ما من شيء آخر، بما في ذلك الحقيقة، قادر على توحيد الآراء والمشاعر المُتباينة. وعليه، لن أقول شيئاً عن الفوائد الجمّة التي تنجم عنها، كي لا أشغلك كثيراً بأمورٍ تعرفها جيّداً من دون شكّ. ومع ذلك، إذا ما عرضت لها حتّى الآن، فذلك كي أظهر لك بوضوح كم يروقني، وسيروقني في المستقبل، ان أحظى بفرصة أن أضع نفسي في خدمتك”.

فيمَ يفيد استقبال مُراسلات “سبينوزا” عربيّاً؟

من نافلة القول، إنَّ فنّ المُراسلات يُسهم إسهاماً حميداً في تيسير سُبُل صوغ دليلٍ خاصّ بفلسفة كلّ فيلسوف، إذ يُسلّط الضوء على جهازه المفاهيمي، ويكشف عن اللّبس التي يعتور بعض مناحيه المُستعصيَة على الفهْم، ومن أجل ذلك، كتَبَ الباحثُ والمُترجِمُ “باسل الزّين” قائلاً: ” تندرج مُراسلات (سبينوزا) في هذا السياق، إذ إنّها توفِّر للقارئ العربي دليلاً خطَّه (سبينوزا) نفسه، ومجايلوه الأكثر تفقُّهاً وتعلُّماً. في هذا السياق، من البديهي القول إنّ فلسفة (سبينوزا) عصيّة في بعض مواضيعها على الفهْم من جرّاء تعمُّد الفيلسوف حجْب بعض أفكاره، أو تمويهها بالنّظر إلى البيئة المتشدّدة التي كان يحيا فيها… وخَوفاً من مزيدٍ من الاضْطهاد. بهذا المعنى، تأتي هذه المُراسلات، التي تعهَّد أصحابُها بالمحافظة على سريّتها، لتوضح ما احتُجب وتَكشف ما استتر”.

ليس تَزَيُّداً في القول، إنّ  التقابُس والتحاوُر مع الآخر هو الشكل الفلسفي الممتاز (Souriau. E: L’Avenir de la philosophie,1982)، على أنّ الأفكار أكثر ما تكون فلسفيّة عندما يستطيع مَن يفكِّر فيها من الداخل أن يبحثَ عن وجهها الخارجي. وليس هناك ما يُساعد على هذا القلب أكثر من الحوار والتقابُس. فالحوار كما يقول المفكّر “جابر عصفور” “– دائماً – لغة الأكفّاء، الواثقين بأنفسهم، الرّاغبين في تطوير أنفسهم، الطّامحين إلى توسيع آفاق معرفتهم، المؤمنين أنّهم لا يمتلكون المعرفة المطلقة أو اليقينيّة بل المعرفة النسبيّة التي تغتني – دائماً – بالتّفاعل. وثقة المُحاوِر بنفسه لا تعني أنّه المالك الوحيد للحقيقة، أو صاحب العِلم اللَّدُني الذي لا يدانيه أحد، أو العارف الأوحد الذي لا بدَّ أن يتعلّم منه الآخرون الذين لا بدّ أن يكونوا أدنى منه، كأنَّه الصورة المقلوبة للملتحي الذي يقذف من حوله بصفاتِ الكفر أو الإيمان. إنّ ثقة المُحاوِر بنفسه تعني ثقته بغيره، كما تعني أنّه لا يمتلك القدرة – وحده – على صنْعِ المعرفة، فالمعرفة نِتاجٌ مُشترَك يتجاوز الفرد، والفرد لا يتعرَّف شيئاً إلّا في فعلٍ جدليّ، تتجاوز فيه الأنا نفسها إلى غيرها، حيث يقع الآخر الذي يُسهم في صنْع معرفة الأنا. هذا الفعل الجدلي يبدأ بحوار الفرد مع نفسه، ويمتدّ إلى حواره مع غيره” (جابر عصفور، هوامش على دفتر التنوير، 1994).يَحدُّ الحوارُ بما هو فعلٌ مُستمرٌّ في الزمن – أو بما هو فعلٌ لا يعرف انقطاعاتٍ وتوقّفات – من سطوة النهايات المُغلقة، وعنف الإجابات الجاهزة، وسقم المسلّمات المُطلقة، إنّه فعلٌ حيويّ لا يكفّ عن تحويل الأجوبة إلى أسئلة جديدة، تتصدّى لمُناورات الذين يسعون إلى تأبيد قدسيَّتهم الساحقة، بتكريس ثقافة الخنوع والعبوديّة، والإذعان والتصديق، والسكون والتقليد، فنحن نتحاور لكي نغذّي شكوكنا لا لكي نزيد من وطأة يقينيّاتنا (Ali Benmakhlouf,La conversation commemanière de vivre,2016)، فمن البديهيّ كما يقول جابر عصفور: “لا حوار دون حريّة، أعني الحريّة التي يتجاوب فيها الفرد مع المُجتمع، وتحكم العلاقة بين المُبدع والمُتلقّي، وأشكال الخطاب بين المفَكِّر والمفكَّر، الحريّة التي تنتقل من خارج الفرد إلى داخله، والتي تختفي معها كلّ القيود السِّياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة والإبداعيّة. إنَّ منطق الحوار يبدأ من المنطقة التي لا تنطوي على تسليمٍ بشيءٍ سوى حقّ العقل في أن يختار لنفسه فعلَ معرفته، وأن يصوغ مدى هذا الفعل بملء إرادته، وأن يؤسِّس معرفته – أن يصنعها وينتجها – بنفسه وبقدرته التي هي علامةُ خلْقِه وشعارُ إبداعِه، فلا معرفة خارج صنع الإنسان واختيارِه. واختيار المعرفة يعني اختيارَ غايتِها وقيمتِها التي لا تفارق الوعي المتجدِّد بضرورة الانتقال بالإنسان من مستوى الضَّرورة، حيث لا حوار، إلى مستوى الحريّة، حيث الحوار ولوازمه الإبداعيّة… وبقدر غياب الحريّة في المُجتمع يغيب الحوار، وتسود لغةُ الصوت الواحد التي هي المقدّمة الطبيعيّة للغةِ الإرهاب. وإذا كان الإرهابُ إلغاءً لوجود الآخر، ونَفياً لحضور العقل، أو فعل اختيار المعرفة، فإنّه يبدأ من حيث ينقطع الحوار، ومن حيث تشيع مخدّرات التسليم والتصديق، ومسكّنات الإذعان والاستسلام، ومبرِّرات بطريركيّة الفكر أو مطريكيّة الثقافة. إنّ الإرهاب يتولَّد من رفْضِ لغة الحوار وشروطه، أي من تسلّطيّة الصوت الواحد، من الإيمان بأنّ ما تقوله وحدكَ هو الحقّ، وأنَّ الحقَّ ملكٌ خاصّ لك، ومن التسليم بأنّ فرداً ما، فكراً ما، زعيماً ما، يمتلك ما يَجعل منه الأعلى ويهبط بالآخرين إلى الدرك الأدنى، كأنّنا إزاء مجلى النبي المُلهم، أو الصورة البشريّة للحقيقة الكليّة”.

***

*أستاذ/ باحث من المغرب

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *