موازنات الزمن الجميل… عجز وفقر وغلاء معيشة

Views: 425

المحامي معوض رياض الحجل

مرت الجمهورية اللبنانية، التي احتفلنا مؤخراً بالذكرى الـــــ 79 لاستقلالها عن الانتداب الفرنسي بعدة مراحل تاريخية ومفصلية، ابرزها: من العام 1943 لغاية العام 1958 وصولاً إلى العام 1975 المشؤوم. 1990 لغاية 2005 ثم 2005 لغاية تاريخهِ، أي العام 2022.

سنكتفي كمرحلة أولى بدراسة ومُناقشة ما يُسمى بمرحلة “الزمن الجميل“، أو “زمن البحبوحة“، أو “لبنان سويسرا الشرق“، أي زمن المشاريع الاعمارية والمؤسسات الادارية الحديثة وزمن النظام وتطبيق القانون والعيش الكريم. 

اكتشفنا من خلال أبحاثنا أنهُ لا توجد مرحلة تُسمى بـــ “الزمن جميل“، بل كل ما قيل ويقالُ حولها في كتب التاريخ وفي الافلام الوثائقية هو مجرد سراب، وهم أو نوستالجيا. لشرح حقيقة ما نقول وجديته، يكفي قراءة ودراسة وتحليل محاضر مجلس النواب اللبناني، وبالتحديد محضر مجلس النواب تاريخ الثامن عشر من كانون الثاني 1962 المُخصص لمُناقشة الموازنة العامة. حينها كان رئيس مجلس الوزراء رشيد كرامي ورئيس مجلس النواب الرئيس صبري حماده. 

 

ومن أبرز الكلمات المُدوية والمطالبة بالاصلاحات البنوية والمحورية، تلكَ العائدة للنائب الراحل نهاد بويز وللنائب الدكتور البير مخيبر وللنائب لويس أبو شرف.

 نتركُ للقارئ قراءة وتحليل أبرز ما وردَ في هذه الكلمات حول الوضع العام في البلاد في تلك المرحلة والخطوات المطلوبة لتحسين المعيشة وزيادة ايرادات الدولة، وسيكتشف بنفسه أن ما نعيشهُ اليوم من أزمات وتحديات اقتصادية ومعيشية ليس بجديد بل من الموروثات التي تعودُإلى عقود وعقود من وهم “الزمن الجميل”. المشاكل نفسها والمطالبات نفسها والتوصيات نفسها. نرددُ ما قالهُ سيدنا يسوع المسيح لمرتا: “مَرْتا، مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة، وَتَضْطَرِبِين! إِنَّمَا المَطْلُوبُ وَاحِد!”

 

اليكم أبرز ما جاء في كلمة النائب الراحل نهاد بويز (1908-1990):

…وإذا انتقلنا من هذه المُقدمة إلى بحث الموازنة نر أن الموازنة ترتكز على أعمدة ثلاثة:

أولاً – أن تكون هنالك ضرائب عادلة، وأن تكون تلك الضرائب خفيفة الوطأة على المواطن الذي يدفع، وقد أعطينا في الماضي وعداً بأن تكون هذه الموازنة موازنة مثالية مبنية على الطريقة العلمية السليمة، وعلى المعطيات التي ينصُ عنها الفن والعلم في المال والاقتصاد، وأن يكون الانشراح والفرفشة بمتناول اللبناني، ولكن بئس ما وجدنا، فقد وجدنا أن هذه الموازنة هي صورة طبق الأصل عن موازناتٍ مضت عليها عشرات السنين. ونرى أن هذه الأطروحة التي بين أيدينا هي نفس المُجلد الذي تسلمناه منذ سنتين أو ثلاث أو أربع سنوات بصفحاتهِ الخضر والحمر والبيض والصفر.

ثانياً- من مقومات الموازنة أن تكون الحركة النقابية في لبنان سائرة في ركب الحضارة والثقافة والتقدم الاقتصادي. وأن لا يُعتبر العامل دائماً أجيراً، بل يجب أن نعتبرهُ كما أعتبرته الشقيقة سوريا وكما أعتبرته دول الأميركيتين مُساهماً في رأس المال وفي المشروع الإنشائي الذي يُحققهُ رب العمل.

هذه الفكرة ليست ببدعة، فبعض المؤسسات الصحافية والمؤسسات الصناعية في لبنان بدأت تفهم العامل أن عليه أن يشعر بالمسؤوليات المُترتبة على رب العمل وشعوره بهذه المسؤولية يجعلهُ مساهماً في رأس المال ولكن ليس بنفس النسبة التي يساهم فيها رب العمل. وهذه الفكرة تحققت في بعض البلدان الغربية وسوف تتحقق، بإذن الله، في لبنان.

 

وأنتقل إلى موضوع تعديل قانون العمل وقد يكون هذا القانون موضع تعديل الآن، لأن في قانون العمل نصوصاً تؤثر تأثيراً مباشراً أو غير مباشر على الاقتصاد الوطني. وأعطي على ذلك مثلاً: يحق لصاحب العمل أن يصرف العامل بعد أن يدفع لهُ التعويضات القانونية التي ينصُ عليها قانون العمل.

وعملاً بهذا النص فإن صاحب العمل يصرفُ العامل القديم ويدفع لهُ تعويضهُ ثم يأخذُ مكانهُ عاملاً جديداً يدفع لهُ نصف الأجرة التي كان يدفعها للعامل القديم المصروف. فتكون النتيجة إن العامل القديم الذي يكون قد مضى عليه خدمة صاحب العمل طيلة نصف قرن، يُصبحُ كبيراً في السن فلا يستخدمهُ أحد، ولا يجد عملاً في مصنع آخر، وهكذا يبقى عاطلاً عن العمل، ويُصبحُ عالة على المجتمع بعد أن يصرف التعويض الذي قبضه.

ثم، لنا ملاحظة ثانية تتعلق بغلاء المعيشة في لبنان، طالبنا، بموجب سؤال تقدمنا به إلى هذه الحكومة بمعالجة غلاء الرسوم المدرسية، وطالبنا بسؤال ثان بتخفيض أسعار اللوازم والأدوات المدرسية، وطالبنا بسؤال ثالث بتخفيض أسعار البنزين بعد إلغاء سيارات المازوت. وإذا كنا نطالب بكل هذه الأمور، لا حباً بفئة من اللبنانيين، بل غيرة منا على الاقتصاد اللبناني لأننا نعتبر أن لا أقتصاد دون تأمين النقل والمواصلات. وعلمت أن في نية أصحاب السيارات رفع أسعار النقل. ومتى أرتفعت أسعار النقليات شلت الحركة بين المواطنين، وبين البلدان. ولغاية هذا التاريخ لم نتلقَ جواباً على هذه الأسئلة، فهل بوسع الحكومة الكريمة أن تعلمنا عما تنوي عمله في هذه المواضيع؟ وهل في نيتها أن تعلمنا عن نتائج مفاوضاتها مع شركات البترول بعد انتهائها، وقد عرفنا أن المفاوضات ستبدأ بعد قليل.

وبهذه المناسبة ألفت النظر إلى أن لدى إحدى شركات النفط ثلاثمئة سيارة لم تدفع الرسوم المتوجبة منذ خمس سنوات تقريباً. فهل هذا صحيح؟ فإذا كان هذا الأمر صحيحاً فعليكم أن تستوفوا هذه الرسوم. وليست هذه هي المرة الأولى التي أثير فيها هذا الموضوع، فلقد سبق وأثرته عدة مرات. وأتمنى أن يكون هذا الأمر غير صحيح حتى لا يقال بأننا نغرق في المعاملة بين المواطنين والشركات.

 

وهذا ما يدفعني إلى ترداد القول بأن الشركات الأجنبية لا تلقى في البلاد العربية، نفس المعاملة ونفس الامتيازات التي تلقاها في لبنان.

وأنهي كلمتي ببعض الاقتراحات التي أرجو أن يتسع لها صدرك يا دولة الرئيس.

أولاً: أرجو وأتمنى أن تخصص جميع واردات اليانصيب الوطني والقمار والسباق لمشروع الضمان الاجتماعي، وبذلك نقلب الضرر الناتج عن المقامرة وسباق الخيل إلى غايةٍ إنسانية.

وبهذه المناسبة أذكر أن هناك نية في إعفاء المؤسسة التي ترتكز على ألعاب القمار من ضريبة الدخل، ولا أصدق أن الدولة بما تعلمهُ عن الحالة الاقتصادية والمالية في البلاد أن تعفي هذه المؤسسة التي لا يقل مدخولها السنوي عن الستة ملايين ليرة أي نصف رأسمالها الأساسي.

ثانياً: تشجيع الصناعات الخفيفة. وهي الصناعات التي توافق المزاج اللبناني. فنشجع صناعة الأواني الفضية في جزين ونشجع صناعة الأجراس في بيت شباب. ونشجع صناعة التطريز الحريري في الذوق. ونشجع صناعة السكاكر والصابون في طرابلس.

ثالثاً:التعليم، يجب أن يكون هنالك مدارس حكومية مجانية في القرى النائية وخاصة المدارس المهنية التي تمكن القروي أن يبقى في قريته وأن يعيش من نتاج قريته.

رابعاً: قضية القروض وقد تكلمت عنها في غير مكان لذلك فأنتقل إلى غيرها.

 

 

لقد وعدت بأن أقول ما قاله الرئيس كندي في بيانه. قال: إنني أعنى عناية خاصة بالمساعدات الاقتصادية والمالية بما في ذلك نفقات برنامج التحالف من أجل التقدم. وقد قال «برنامج التحالف» ولم يقل المساعدات. والرئيس كندي كما يعرفه العالم عميق الفكرة ودقيق العبارة.

وتبقى إحدى النقاط الأخيرة وهي السياحة: فالسياحة في لبنان يا سيدي تكاد تكون معدومة. لقد وهبنا الله هذا الرأسمال المتكون من المناخ الطيب والهواء العليل ومن طيبة قلوب اللبنانيين وحسن وفادتهم وكرم ضيافتهم العربية القديمة المعروفة. فهذه المزايا هي مميزات هذا البلد اللبناني الجميل، ولكن الجهود الرسمية من أجل تحسين السياحة مفقودة، وقد تسنى لك يا سيدي الرئيس أن تسافر وتطلع على المجهود الذي تبذله الحكومات من أجل تحسين السياحة، وقد رأيت الملايين التي تؤم إيطاليا كل سنة وتقصد الشواطىء اللازوردية في فرنسا وشواطىء الأميركيتين. ولا يقصد لبنان إلا نفر قليل بالرغم من أن الله حباه من الجمال والمميزات ما بخل به على تلك البلدان. فنرجو أن تتنبه الحكومة إلى هذه الناحية فترسل البعثات إلى الخارج ولا تبخل على هذه البعثات بالأموال اللازمة للدعاية، وأتمنى على الحكومة أن تسعى إلى تجهيز البلاد بما يضمن راحة السواح وتلبية رغباتهم.

ثم لا بد من التعليق على التعديات الحاصلة على أملاك الدولة، وقد ورد هذا في هذه الموازنة.

وقد أطلعت مؤخراً على قرار صادر من محكمة الاستئناف لبناء المساكن الشعبية فعاد المالك بعد سنتين واستعاد ملكه، لأن القانون يبيح له ذلك. إذ يحتم القانون على الدولة أن تبدأ بالعمل في الأملاك التي استملكتها بخلال سنتين وإلا فيحق لصاحب الملك أن يستعيد ملكه وعلى الدولة أن تدفع له مبلغاً من المال كعطل وضرر.

إننا هنا أيضاً لنراقب مثل هذه الأمور التي تتعلق بأملاك الدولة واستملاكاتها التي هي بمثابة احتياطي في موازنتها.

وكذلك فقد سمعت رئيس اللجنة المالية يقول إن للدولة أربعين مليوناً في ذمة الأهلين. إننا نريد أن نعرف من هم هؤلاء، هل هم من فئات الشعب الفقيرة التي يلح عليها الجابي، أم أنهم من الفئات المتنفذة التي لها مراجع بعيدة الأطراف وواسعة الآفاق وتتهرب من دفع ما يتوجب عليها؟ وإذا صح هذا تكون هذه المبالغ مستحقة على الأغنياء وليس على الفقراء.

وأناشدكم أن تعملوا على تحصيل هذا المبلغ وإن لم تتمكنوا من تحصيله كله فنصفه على الأقل لأنه مبلغ يساعد على شق طريق وإيصال مياه وإشعاع نور في لبنان.

 

وأنهي كلمتي بتمن أخير يتعلق بالعشرة ملايين ليرة المحصلة من ضريبة التعمير وأتمنى أن تخصص هذه المبالغ للمشاريع والإنشاءات المذكورة في روزنامتكم.

ولقد قرأت يوماً هذا المقطع في كتاب جديد يبحث في الاقتصاد: «إذا كان من المستحب إعلان برنامج وتحقيق سياسة اقتصادية بالصورة النهائية ضمن نظام ديموقراطي. إن هذا البرنامج وتلك السياسة المحددة هما مرآة صادقة للرجال المكلفين بتطبيقهما تطبيقاً عملياً».

كلمة النائب الراحل الدكتور البير مخيبر(1912-2002):

” …وهناك سبب آخر لعدم الدخول في مُناقشة هذه الميزانية بالتفصيل، وهذا السبب هو أن المناقشة التي ناقش بها الزملاء موازنة العام الفائت والملاحظات التي أوردوها بشأنها يومئذٍ لم نر لها أثراً في هذه الموازنة. فلو تصفحنا موازنة هذا العام لوجدنا أن لا توجيه فيها. وأقصد بالتوجيه، أن الحكومة عندما تتقدم من المجلس بميزانية ما، يشعرُ النائب أن الحكومة ساعية وراء هدف معين، فتقول أوجه بهذه الميزانية أهتمامي إلى الحقل الزراعي، أو إلى الحقل الصناعي، أو إلى الحقل التجاري، وإذا بهذه الميزانية خلو من التوجيه ومن التصميم ومن التخطيط. وأزيد على ذلك، أن الحكومة تكلفت حتى الآن، أكثر من مليون ليرة على بعثة ايرفد، وإذا تصفحنا، بكل بساطة، التقرير الأولي للأب لوبريه نجد أنهُ يقول: «بالرغم من جميع الظواهر، خمسون بالمئة من الشعب اللبناني يعيش من الزراعة». وإذا بنا نجد الحكومة تتجمد، منذ سنوات، في الحقل الزراعي فلا ترصد في موازنة وزارة الزراعة سوى مبلغ لا يزيد عن السبعة عشر مليون ليرة. فأنا أتساءل، ماذا ينفع الخبراء، ولماذا نستقدم الخبراء، وما الفائدة من وراء متابعة الأب لوبريه دروسه؟ إذا كنا لا نجد لهذه الدروس انعكاساً في الميزانية؟ وأنا أسأل دولة رئيس الحكومة الذي بإمكانهِ أن يجيب أن هذه الميزانية ليست من وضعهِ. ولكنني كنائب اعتبر أن الحكومات تتابع وكلها إمداد لبعضها البعض ولست أرى فرقاً بين هذه الحكومة والحكومة التي كانت تحكم بالأمس، ولهذا فإني أسأل دولة رئيس مجلس الوزراء. لماذا تبقى موازنة الزراعة على هذا القدر الهزيل بعد أن ثبت من تقارير الخبراء أن خمسين بالمئة من اللبنانيين يعيشون من الزراعة؟

هنالك، يا دولة الرئيس، أربع مشاكل في بلادنا، طرحتها الحكومة جانباً.

المشكلة الأولى ـ مُستقبل رأس المال.
والمشكلة الثانية ـ الاشتراكية.
والمشكلة الثالثة ـ البطالة.
والمشكلة الرابعة ـ الإنتاج.

ففي حقل البطالة لم تعمل الحكومة شيئاً يحدُ من البطالة. وفي حقل الإنتاج، كان المجلس واللجنة الخارجية طلب من الحكومة في العام الفائت، وكنت يا سيدي الرئيس، رئيساً للجنة الخارجية، أن تتدبر الحكومة أمر مشروع يعمر قسماً من الجنوب وأعني به مشروع نهر الحاصباني لم نجد أثراً لهذا المشروع في الميزانية.

وأما في حقل التجارة الخارجية، فميزان التجارة اللبنانية لا يزال في عجزِ بين الصادرات والواردات. وكان هذا المجلس واللجان المُختصة قد درست مشاريع هامة، خاصة فيما يتعلق بتجارتنا مع إفريقا. وحتى الآن لم نر مشروعاً واحداً تقدمت به الحكومة على الأقل للمحافظة على التجارة التي يقوم بها الأفراد اللبنانيون في البلدان الإفريقية.

كذلك قانون العمل، وغيره من المشاريع التي تتطلب اهتماماً جدياً، خصوصاً فيما يتعلق بالمشاكل التي أوردتها على مسامعكم يا دولة الرئيس، وبنوع خاص ما يتعلق بالإنتاج والبطالة. وقد كان بإمكان رئيس الحكومة وهو صاحب مشروع نهر الحاصباني أن يتقدم إلى المجلس بالاعتمادات المالية اللازمة للقيام بهذا المشروع.

وآمل أن تقوم الحكومة، في العام المقبل، بتنسيق الموازنة وتقديم حلول لهذه المشاكل كي لا يفوتها القطار.”

كلمة النائب لويس ابو شرف (1914-1989):

” ….فأول ملاحظة أو مطلب، يا دولة الرئيس، هو: ما ضر لو كانت الحكومة كل سنة تتقدم ببيان مفصل تفصيلاً دقيقاً، لا بياناً موجزاً كما تفعل. ليتمكن المجلس من معرفة طرق الإنفاق، وليدرك الموظفون الذين يضعون موازنات لوزاراتهم، أن هنالك رقابة حقيقية فعلية. إذ ذاك يتوفر لنا من هذه المراقبة الفعلية، الوفر الذي أشار إليه رئيس اللجنة المالية الأستاذ شادر بما لا يقل عن خمسة عشر بالمئة من مجموع الموازنة أي ما يبلغ خمسون مليون ليرة تتوفر لنا ونحيلها إلى تنفيذ المشاريع المنتجة.

ودونكم مثلاً من أمثال: في الموازنة التي بين أيدينا، وفي البنود 14، 15، 26، 28، 31، 33، 41. بنود مخصصة للمساعدات والتعويضات والمكافآت والتجهيزات وصيانة التجهيزات. أسارع فأقول إنني لست ضد المكافآت ولا ضد التعويضات، ولكننا جميعاً، على ما أعتقد، جازماً أننا ضد الإنفاق الاعتباطي، وضد انعدام الرقابة الفعلية.

ما ضر، يا دولة الرئيس، لو أننا كل سنة، نقدم بياناً مفصلاً بأسماء الموظفين الذين هبطت عليهم نعمة التعويضات والمكافآت. إذن، لامتنع القيل والقال وتلاشت النقمة والحسد، ولزالت من أذهان الكثيرين فكرة المحسوبية وسياسة الإرضاء والاسترضاء.

وأعود إلى التجهيزات، وصيانة التجهيزات. ما ضر لو وضع كل سنة بيان مفصل بهذه التجهيزات الجديدة وصيانتها التي تبلغ سبعة عشر مليوناً.

وأنتقل إلى إيجارات مباني الدولة التي لو راقبنا ما أنفق عليها منذ عهد الاستقلال حتى اليوم لفاق ما دفعت الدولة إيجارات للمباني أكلاف المدينة الحكومية التي يطالب بها معالي الشيخ بيار الجميل منذ زمن.

أنتقل إلى وزارة الزراعة. وهي من الموضوعات الجديرة بالبحث والاهتمام والعناية. تريدون بقاء هذا البلد، حافظوا على قريتهِ، حافظوا على تربتهِ، ولا تجعلوا ترابه يزحف كسكانه من أعلى الجبل إلى الساحل، وإلا انتقم هذا الجبل بكثرة السيول التي تهدم المدن والمنازل وتخرب المزارع. وأنا أعني ما أقول يا دولة الرئيس.

 

أمنوا لأبناء القرى والجبال مورداً من العيش كريماً، عندئذ لا ينزحون من القرية إلى المدينة، أو إلى دنيا المجهول، حيث يسفحون ماء الوجه وعزة الجبين كسباً لدريهمات تؤمنها لهم أرضهم ساعة تؤمن الدولة ماء الري لهذه الأرض. دونكم الري، دونكم السدود، التي تحيا بها الأرض وتخصب الغلات. وليس هذا بالكثير أن تروى الأرض اللبنانية ما دامت هناك قد بدأت سدود القرعون وغيرها من البحيرات الجبلية.

وليسمح لنا معالي وزير الزراعة أن نسأله السؤال الذي سبقني إليه الزميل الأستاذ جرمانوس التفاح يملأ البرادات، هل هنالك من يفكر بإيجاد الأسواق للتصدير؟ أم أن هنالك سياسة زراعية، عند الحكومة، تحاول بها الحد من انتشار زراعة التفاح كي لا يصيبهُ ما أصابَ موسم التوت؟ أم هل تفكر وزارة الزراعة بتخفيض غلاء المواد الكيميائية كالأسمدة والرش التي كادت تثقل كاهل الفلاح والمزارع اللبناني.

أنتقل إلى الإصلاح الإداري والتفتيش المركزي كلنا شكونا الفساد في الأجهزة الإدارية. وشكونا طويلاً وكثيراً. وكلنا شكا خضوع الإدارة للمؤثرات السياسية المفسدة، وطالما هللنا وكبرنا لانتقاد الإدارة مما نكبت به، وهللنا وكبرنا للمقالات تذيعها السلطات عن ضرورة الإصلاح الإداري والتفتيش المركزي، وهما حلم كل محب للخير والإصلاح في هذا البلد.

إننا لو سألنا، ما هي الغاية التي وصلت إليها الحكومة من وراء هذا الإصلاح وهذا التفتيش لقلنا، ما دامت عقلية الموظف إياها لم تتبدل ولم تتغير فعبثاً ننشد الإصلاح.

يا سيدي دولة الرئيس، في كل قضاء قاض وقائمقام وضابط، بهم قوام العدل والأمن وتسيير الإدارة، ففتشوا في هذه العهد الإصلاحي الجديد الذي يجب أن يكون فيه جسم الدولة كرأسها نزاهة وتجرداً وإخلاصاً. إن رقعة الثوب البالية في الثوب الجديد تنسخ جدة الثوب كلها. فتشوا عن الموظفين الأكفاء المُتجردين المُخلصين، ونقوا جسم الدولة من قائمقام غلام لا هيبة له ولا شخصية نقوا جسم الدولة من قاض يضطرب العدل في يديه اضطراب ضميره. نقوا جسم الدولة كي تصبح الدولة اللبنانية صحيحة كما يريدها العهد وسيد العهد، من ضابط يكفر الناس والمواطنين بحزبيته الخرقاء وسياسته الحمقاء. والذي أقوله لا يتخذ حجة أو سلاحاً في يد المعارضة بل إن ما أقول هو من قبيل زيادة الحرص على هذه الدولة اللبنانية المثالية التي نريدها مثالية بكل معنى الكلمة.

أنتقل يا دولة الرئيس وزير المالية، إلى التخمينات والمكاتب الفنية في الملحقات.

تقضي الأنظمة القائمة على كل من يريد تشييد بناء أن يستحصل على رخصة من المكتب الفني موقعة من مهندس وهذا التوقيع يكلف صاحب العلاقة لا أقل من مئتين إلى ثلاثمئة ليرة. فيا سيدي، هذا الفلاح المسكين الذي جمع قليلاً من المال درهماً فوق درهم، ليبني له كوخاً يسميه بيتاً يأوي إليه، مؤلفاً من غرفة أو غرفتين له ولماشيته، يجمع حجارته على ظهره، ويحفر أساساته في ساعات راحته. أيجوز أن نفرض عليه بعض الرسوم بينما نيتك متجهة يا سيدي الرئيس وزير المالية، أن تعفي هذه الأملاك المبنية للفقراء من الضرائب الرسوم. فما ضر لو أننا حصرنا هذا النوع من الرخص بالبلديات أو بالقائمقاميات.

أما قضية التخمينات فإن اللجنة تأتي لتكشف على البيت، فيبرز لها المُستأجر صك الإيجار. وتأبى لجنة التخمين أن تقر به وحجتها أن هذا الصك المُسجل في دوائر البلدية الرسمية غير صحيح. فإذا كان صك الإيجار المسجّل لدى الدوائر البلدية لا قيمة قانونية له فأية قيمة تبقى بعدئذ لكثير من المعاملات.

أنتقل إلى وزارة التربية. هذه الوزارة التي كما نصت بنود الموازنة، تكلف خمسين مليون ليرة هذه السنة. يتبادر إلينا أول ما يتبادر ضعف التربية الوطنية في معاهدنا ومدارسنا الحكومية. وزارة التربية التي يغذيها المكلف اللبناني بأكثر من خمسين مليون ليرة، فلا أقل من أن تعلم النشء اللبناني حب لبنان والإيمان به، كي لا نرى في الغداة جيلاً جديداً يوقعنا فيما نحن واقعون فيه اليوم.

وزارة التربية، هل راقبت الكتاب المدرسي؟ وأنقذتهُ من سماسرة المؤلفين والتجار؟ هل راقبت غلاءه؟ وهل لوزارة التربية الوطنية أن تُحقق التعليم الابتدائي المجاني الشامل بمعزل عن أي أعتبار أو تيار؟ وهل لوزارة التربية أن تحقق التعليم المهني على أوسع نطاق في كل المناطق؟ كي نخفف من دفق التلاميذ على البكالوريا اللبنانية التي أصبحت عاتقاً يمنعهم من العمل في عصر المهنة والتخصص.

وهل لوزارة التربية أن تُخصص، ولو قسماً ضئيلاً، يا دولة الرئيس من هذه الموازنة الضخمة لإنشاء مدارس لأبناء المغتربين حيث يقيمون، لكي تظل بيننا وبينهم رابطة التفاهم إلى جانب رابطة القربى والإيمان والعاطفة والمحبة، اللغة العربية التي بها يعتزون وينتشرون تحت كل كوكب وسماء.

أنتقل أخيراً إلى المصالح المستقلة. هذه المصالح التي لا ذكر لها في الموازنة.

المصالح المُستقلة في لبنان اليوم، أربع عشرة مصلحة مستقلة للمياه والكهرباء، كلفت الدولة منذ سنة 1951 إلى اليوم مئة واثنتين وثمانين مليون ليرة.

فيا سيدي، هل بإمكان الحكومة أن تسترجع شيئاً من هذه المبالغ الضخمة التي تُنفق على مصالح يذهب من مداخيلها من 46 إلى 81 بالمئة نفقات إدارية. وهذا يعني أن الدولة سترى نفسها مضطرة إلى إعادة الإنشاءات ثانية، بعد خمس سنوات أو عشر على الأكثر، بعد أن تكون الدولة قد خسرت في ثماني سنوات مئة واثنتي وثمانين ليرة.

فما ضر يا سيدي، وفي شرعي، إما أن تلغى هذه المصالح المُستقلة، وإما أن تُدمج عدة مصالح في مصلحة واحدة لكل محافظة، وعليها مجلس إداري واحد، إذ ذاك يتوفر على خزينة الدولة مال كثير يعود إلى الإنشاءات والصيانة والتجهيزات.

أضرب لكم مثلاً يا سادة: في كسروان مصلحة مياه كلفت الدولة ثمانية ملايين وثمانمئة ألف ليرة. ونفقاتها الإدارية السنوية مئة وخمسة وثلاثون ألف ليرة. ومدخولها السنوي مئة وأربعة وثمانون ألف ليرة. فتكون هذه المصلحة تعطي صندوق الدولة تسعة وثلاثين ألف ليرة ربحاً غير صاف. فهل بإمكان الدولة أن تسترد الثمانية ملايين وثمانمئة ألف ليرة، وفي ظرف كم سنة من السنوات يمكنها أن تسترجع هذا المبلغ؟

والمجالس الإدارية، هي التي تثقل كاهل الخزينة بكثير من الأموال التي تذهب هدراً.

وماذا يصنع أعضاء هذه المجالس الإدارية؟ إنهم يجتمعون مرة كل أسبوع لساعتين أو لثلاث، حيث يدرسون ما أعده لهم المدراء، وربما لفتوا نظر المدراء إلى بعض قضايا تهمهم أو تفيدهم في كل مشروع يحضر ليقرر.

أعضاء المجالس الإدارية هؤلاء، يشترط فيهم، كما نصت المراسيم الاشتراعية أن يكونوا من أصحاب الخبرة الاقتصادية والمالية والإدارية والقانونية. فكيف يجوز أن يعين رئيس مجلس إدارة أو مدير لمصلحة ممن لا يحملون شهادة السرتيفيكا، وممن لا اختصاص لهم ولا فن، أو من المحكومين قضائياً…”

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *