فصل من رواية “المصيدة” لـ عبد المجيد زراقط

Views: 259

فهيم التايه

 

* “المصيدة”، رواية جديدة لعبد المجيد زراقط، تصدر قريباً عن دار البيان العربي.

 

 

 

في ذلك اليوم، لم نكن قد بدأنا بإعداد الصفحة الثقافية. كان لديَّ وقت، تصفَّحت الجريدة اليومية، ليس فيها جديد، تراشق بالرصاص والمدفعية، بين الميليشيات، على خطوط التماس، خطف وقتل وتفاوض، “تشليح وتشبيح”، وعنتريات أمراء الحرب…، كما في كلِّ يوم. قلَّبت الصفحات بسرعة، وصلت الى حيث أريد. الكلمات المتقاطعة بغيتي، هوايتي…

أجد متعةً في وصل هذه الكلمات التي أحزرها أنا، وأكتبها أنا. وضعت رأس قلمي على الرقم واحد أفقي. ونظرت الى الأسفل، وقرأت: “شاعر عباسي، كان الشاعر بشار بن برد يدفع له جزيةً كي لا يهجوه… “.  من هو هذا الشاعر المؤلَّف اسمه من عشرة أحرف؟ لم أعرفه. انتقلت الى الأرقام العمودية، لأستعين بها. في الرقم السادس: “الاسم الأول لشاعر لبناني مهجري، زحلاويُّ الأصل”. اسمه مؤلَّف من أربعة أحرف. لم أعرفه. الشعراء الزحلاويون كُثر. رميت القلم والجريدة على الطاولة أمامي، وطلبت قهوتي المرَّة. 

جئتُ مبكِّراً في ذلك اليوم، كثرت، في البيت، طلبات الأولاد وأمُّهم، فخرجت  الى مكتبي في الجريدة، ومزاجي عكرٌ، وأنا أسأل: كيف ألبِّي مايطلبه ثلاثة أولاد وأمُّهم، وراتبي لا يكفي أجرة البيت والأقساط المتتابعة: السيارة والأثاث والمدارس و….

جاءت القهوة. رحت أحتسيها بشغف، وخطر لي: هل يأتي يوم، ويجلس هاوٍ حلَّ الكلمات المتقاطعة، ويقرأ: صحافي، لا، قاصٌّ، لا، شاعر، لا، مثقف كبير، مسؤول القسم الثقافي في…

كأنِّي سمعت: مرحبا. عدت أمسك قلمي، ووقف بي القلم المطواع عند الرقم السابع عمودي: “اسم الشهرة لرائد كتابة القصة القصيرة، في مصر” . عدت أسمع: مرحبا. الصوت عالٍ هذه المرَّة. رفعت رأسي. شابٌّ معتدل القامة، نحيل،  أسمر…، يحمل مغلَّفاً أصفر بيده. أعجبني قميصه الزيتوني المنسدل فوق بنطاله البنِّي. كان يقف قرب الباب. يبتسم، وينظر اليَّ  بتمعُّن. لا أعرفه. قلت في نفسي:  ربما أخطأ في المكتب الذي يريده، وعدت الى كلماتي. وسمعت: قلنا مرحبا. تباطأت في رفع رأسي. ولمَّا رفعته، ونظرت اليه، وقد صار أمام مكتبي، قال: واذا حُيِّيتم بتحيةٍ…. كدت أقول له: فردُّوها، لكني قلت: من أنت؟ قال: كاتب قصة. ابتسمت، وقلت: تشرَّفنا…، الاسم الثلاثي لو سمحت. قال: اسمي نبيل عامل، وأكتب القصة القصيرة. قلت : ان كنت صادقاً تستطيع الاجابة عن هذا السؤال: ما هو الاسم الأوَّل لرائد كتابة القصة القصيرة، في مصر؟ قال: أنا صادق من دون أن أجيب عن سؤالك. قلت: أصدِّقك ان عرفت الاسم. سأل: أنت تعرفه؟ أجبت: أنا من يسأل هنا. قال: هل نحن في مخفر!؟  أنا لا أجيب العسكر. قلت له: لا وقت عندي لأضيِّعه معك، أخطأت في العنوان، وعدت الى كلماتي، وواصلت التنقُّل بين الأرقام، ولم أدر الَّا، وأنا أقول: كأنَّه  مختصٌّ بالأدب العربي! سمعت: كيف عرفت!؟ صحيح أنا مختصٌّ بالأدب العربي. رفعت رأسي. ما زال يقف أمام مكتبي. قلت له: من جديد، أصدِّقك ان أجبت عن هذا السؤال. قال، وهو ينحني، وينظر الى صفحة الجريدة: يبدو أنك لاتعرف حلَّ الكلمات المتقاطعة. اعتدلت، في جلستي، وقلت: أنا لا أعرف!؟ أنا أمتحنك. قال: مرة في مخفر، ومرة في قاعة امتحان. هذه نقبلها.  هات السؤال. قلت: شاعر كان يأخذ جزيةً من الشاعر بشار بن برد. جلس على الكرسي، الموضوع أمامي، ومدَّ يده الى الجريدة، وقال: سؤال هيِّن. أساعدك، وتساعدني٠  

أبعدت الجريدة، وقلت: أنت! تساعدني أنا!؟ قال: يبدو أنّك لاتحبُّ صباح. سألته: من صباح!؟ أجاب: الشحرورة.  ضحكت بصوت مسموع، وقلت: أنت أهبل أو مهبول!؟ ما علاقة الشحرورة صباح بما نحن فيه؟  قال: أنت لاثقافة فنية عندك.  تغنِّي الشحرورة لأمثالك: 

  • لا تستهزئ بيحدا من الناس… الحرش بيولِّعو عود الثقاب….
  • قلت: وما جئت تولِّع هنا؟ قال: هذا هو السؤال الذي أنتظره منك.

وضع المغلف الأصفر الذي كان يحمله على الطاولة، وقال: أنا أكتب القصة القصيرة…. قاطعته: هل تعرف اسم رائد كتابتها المصري؟ قال: محمود تيمور. قلت: صحيح. كيف غاب عن بالي؟ أنا صرت أنسى الأسماء. قال: نصيحتي لك بأن تداوم على حلِّ الكلمات المتقاطعة، فهي تنقذك من المرض الملعون. كتبت أحرف اسم محمود في المربَّعات الخمسة، وقلت: ولكن كيف لي أن أعرف اسم شاعر عباسي، الحرف السابع من اسمه ميم، وكان بشار الكبير، يدفع له جزية؟ قال: أساعدك، وأجري على الله، وان ساعدتني أكون شاكراً لك. قلت: اذاً، قل لي ماهو الاسم الأول لشاعر مهجري، أصله زحلاوي، من أربعة أحرف؟ قال: المعالفة شفيق وفوزي ورياض، اختر واحداً منهم. قلت: كيف أختار؟ قال: عندما تعرف اسم ذلك الشاعر، فتعرف الحرف الأول…. صرخت به: وأنت “تتلأمن” عليَّ، ولا تريد أن تنطق بالجوهرة التي تخبئها تحت لسانك؟ قال: ما رأيك في أن أهجوك فيخلد اسمك، كما خلد اسم ذلك الشاعر؟ قلت: أنت تهجوني أنا!؟ قال: لو أردت هجاءك لاستعرت ما قاله ذلك الشاعر في هجاء بشار. قلت: أنت تهجوني، وأنا كاتب العمود اليومي الذي يخشاه كلُّ كاتب بقلم في هذا البلد!؟ قال: أنا أقرأ مقالاتك، يكثر فيها الافتراء، والحذلقة والانشاء…. قلت: لايهمُّني رأيك، ولا أخشى هجاءك. انطق بالجوهرة، وأرني عرض أكتافك. قال: هل أغنّي لك ما يردِّده الكتَّاب عنك؟ لم أردّ، فغنَّى:  هلِّلينه، هلِّلينه/ طعن قوَّالٍ لزينه/ انَّ فهَّام بن تيهٍ…. 

صرخت به: لا، لاتكمل، ولا تكون ملقِّناً للكتَّاب ماذا تريد؟ وقف. مدَّ يده الى المغلَّف، وفتحه، وأخرج منه أوراقاً، وقال: هذه قصص قصيرة كتبتها، أنا أكتب القصة القصيرة منذ سنوات، وأضع ما أكتبه في “الجارور”. قرأ المشرف على اعداد رسالة الماجستير التي أكتبها هذه القصص، وقال: قصص جيدة. تستحق النشر. ونصحني بتقديمها لك لتنشرها. هذه هي….

ناولني الأوراق، وجلس. لمعت في ذهني فكرة. تمتمت: جاءت رزقة. قلت له: انتظر. أقرأ قصة من قصصك هذه، وأقول لك رأيي…. بدأت القراءة. كنت أقرأ، وأنظر اليه، وعلى لساني سؤال: هل أنت من كتب هذه القصة؟ أنهيت قراءة القصة، حكايتها تقول: 

  • طائر كسولٌ يزهو بريشه الناعم الطويل الجميل.السلطان يأرق. يصف له الطبيب مخدَّة محشوَّةً بريش ناعم طويل…. يعطي تاجرٌ الطائرَ الكسول حقل قمح كبير، ويأخذ مقابله ريشه، ويعطيه للسلطان. ينام السلطان، ولا يستطيع الطائر الوصول الى حقل القمح الكبير، فلا ينام، بعد أن فقد قدرته على الطيران… 

سألته: أنت كتبت هذه القصة!؟ وقف. وقال بهدوء: لا. أنت. هات القصص، يا فهَّام بن تيهٍ. قلت: اجلس، ودعنا نتفاهم. جلس، وقال: نتفاهم، وأنت الفهيم. قلت: أنا أراسل عدداً من صحف الخليج. أرسل لصفحاتها الثقافية مقالات وقصصاً. أنت تريد أن تنشر هذه القصص، لايهمك أين…، صح؟ قال: صح. أضفت: أنت كاتب غير معروف، واخشى ألا يصدقوا، في الصحيفة التي أراسلها،  أنك كاتب هذه القصص…، مارأيك في…. 

رأيته يتحفز، ويكوِّر قبضته . سكتّ. قال: أكمل. أكملت: مارأيك في أن ننشرها باسم مستعار معروف، تأخذ أنت نسبة من المكافأة، وهو نسبة؟ قال: قلت اسم مستعار، فكيف يكون معروفاً؟  والاسم المستعار كيف يأخذ نسبةً؟ قلت: أنا أنشر، هناك، في مثل هذه الحال، باسم، نبيه العايق، مارأيك في أن تكون أنت العايق هذه المرة، أو نغيِّر، فنكتب الفايق و…. قاطعني: تريد أن أكون مثل ذلك الطائر، أبيع ريشي !؟. قلت: لا، هذه بداية كلِّ كاتب مبتدئ، وعندما تُعرف بذلك الاسم نكشف الاسم الحقيقي، أو يبقى الاسم اسمك الأدبي.  قال: اسمع. أنا أريد نشر هذه القصص، هنا، وفي صحيفة من صحف بيروت. هات القصص. ومدَّ يده ليأخذها. أبعدتها، وقلت: هذه القصص يجب أن تُنشر. ليكن، ننشرها، هنا، في جريدتنا، كما تريد. قال: أكيد؟ قلت: أكيد. قال: احلف بشرفك. قلت: بشرفي. 

قبل أن يخرج، قلت له: لم تقل لي اسم ذلك الشاعر. قال: أبو الشمقمق. قلت: اَه…  كان اسمه على لساني…، اطمئن القصص في يدي الأمينة. قال: احذرك من اللعب معي. 

لعبت معه…، ولعب معي، وصار زملائي  يترنَّمون عندما يلتقون بي ب: 

  • هلِّلينه، هلِّلينه / طعن سرَّاق لزينه / انَّ فهَّام بن تيهٍ /لَلْشبِّيحُ في جُرينه….

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *