مرّة أخرى..في مسألة الإصلاح ودَور المثقّف

Views: 55

حسن الزواوي*

يُعتبر إصلاح المُجتمعات العربيّة وعصْرَنَتها إشكالاً بنيويّاً يرتبط بشروطٍ تاريخيّةٍ وسوسيو ثقافيّة عدّة، أَسهمت إلى حدٍّ ما في تعمُّق قضيّة تخلُّف هذه المجتمعات وتراكُم أسباب تأخُّرها الحضاري. وتبدو مناقشة هذا الموضوع كلاسيكيّة لكونه قد شكَّل دوماً مركزَ اهتمام الباحثين، وخصوصاً منذ الحقبة الاستعماريّة، التي أدَّت إلى ارتفاع منسوب الوعي الشقيّ المُلازِم لجلّ الكتابات المهتمّة بمسألة النهضة. فسؤال شكيب أرسلان لماذا تقدَّم الغرب وتأخَّر العرب؟ تَرْجَمَ أهميّة الإصلاح السياسيّ والاجتماعيّ في العالَم العربي، مثلما فَتَحَ الطريق أمام جملة من التحليلات التي ظلّ هاجسُها متمثّلًا في البحث عن الحلول القادرة على إخراج هذه المُجتمعات من الركود الحضاريّ وولوج الحداثة وفق شروطٍ اختلفت طبيعتها بحسب تصوُّر الباحثين.

كما أنّ التساؤلات المتكرّرة حول أسباب التخلُّف تَختزل في حمولتها المعرفيّة بُعداً سيكولوجيّاً يُحدِّده محمّد عابد الجابري في تأثير حالة “الانشطار” – التي تطبع الواقع العربي – على شخصيّة الباحث العربي، لأنّه يُقاوِم التوتُّر والقلق اللّذَيْن يغذّيهما في الوعي الشعورُ بصعوبة تقديم حلولٍ ملموسة تُفكِّك عناصر إشكال الأصالة والمُعاصرة، ومسألة العلاقة بين العرب والغرب في عصر التقانة (محمّد عابد الجابري، 2012).

فبقدر ما تتعمّق أزمة الإصلاح والتحديث في العالَم العربي، يتضاعَف معها في الوقت نفسه إغراء الخوض في تفاصيل الخصوصيّة الثقافيّة العربيّة/ الإسلاميّة وعلاقتها بتقدُّم المُجتمعات؛ ذلك لأنّ جزءاً كبيراً من الفكر السياسي العربي ظلَّ سجين رؤيةٍ ماضويّة تبحث في الماضي الثقافي والسياسي العربي الإسلامي عن شروط النهضة. وفي إطار التوجُّه الماضوي، بَرزت أهميّة الإصلاح، بحسب مرجعيّة توفيقيّة تُحاوِل المزْجَ بين المُكتسبات التاريخيّة للمُجتمعات العربيّة والانفتاح الحَذِر على الإنجازات الماديّة للحضارة الغربيّة خشية المساس بروح الهويّة الثقافيّة لهذه المُجتمعات. وهذا التصوُّر ليس وليد اليوم، بل إنّه شكَّلَ جوهر أفكار التيّار السلفي منذ القرن التاسع عشر مع كلٍّ من محمّد عبده والأفغاني.

لقد مثَّلت تصوّرات هؤلاء المفكّرين مَورداً فكريّاً غذّى التمثُّلات السياسيّة للحركات الإسلاميّة المُعتدلة ونذكر منها على سبيل المثال: حركة النهضة التونسيّة وحزب العدالة والتنمية المغربي، حيث تميَّزت مواقفهما الإيديولوجيّة بالدّفاع عن حداثةٍ إسلاميّة تُراعي احترام المُرتكزات الدينيّة، وفي الوقت نفسه تستقي من التجارب الحضاريّة الأخرى كلّ ما من شأنه تدعيم هذه الحداثة. وإذا استحضرنا أفكارَ المفكّر الإسلامي محمّد عمارة، نجد أنّها توضح معالِم هذا التفاعُل الحضاري وحدوده في كلّ “ما يضيف به الجديد، ويتجاوز به غير المُلائم من مواريثه، وفق المعايير التي هي ثوابته.. وأصالته.. وهويّته.. إنّها الهويّة المتميّزة” (محمّد عمارة، 1990).

احتلّ الخطابُ الديني مكانةً محوريّة في تأسيس مرجعيّة إصلاحيّة تدفع بالحلّ الإسلامي إلى إعادة ترميم آثار الانشطار الهويّاتي والتخلُّف الحضاري عبر كتابةِ سرديّةٍ حداثيّةٍ جديدة، تُحدِّد كيفيّة التأقلُم مع إكراهات الحداثة مع الالتزام بالثوابت القيَميّة للمرجعيّة الإسلاميّة.

مُقابل هذا التصوُّر ظَهرت أفكارٌ أخرى تُطالِب بإعادة قراءة الموروث الديني بشكلٍ نقدي وعلمي يَضع حدّاً للاستعمالات الإيديولوجيّة للدين، والتي لم تُسهِم منذ حُكم الأمويّين وانقسام المُسلمين إلى فِرقٍ مذهبيّة، إلّا في تزكية الاستبداد السياسي الذي يتولَّد بحسب تحليل عبد الرّحمن الكواكبي من الاستبداد الديني، لأنّهما “مقارنة لا تنفكّ متى وُجد أحدهما في أمّة جرَّ الآخر إليه أو متى زال، زال رفيقه، وإن صَلُحَ أي ضَعُفَ أحدُهما، صَلُحَ أي ضَعُفَ الثاني” (عبد الرّحمن الكواكبي، 2017). تندرج في هذا السياق تحليلات محمد أركون التي تطالب بضرورة إعادة تفكيك الخطاب الديني، وفكّ شفراته بشكلٍ موضوعي يؤسِّس لمنهجٍ تفكيكي وجدلي بغية حلّ معادلة الأصالة والمُعاصَرة في العالَم العربي (محمّد أركون، 2014).

لذا، ظلّ المعطى الإسلامي حاضراً بقوّة عند الحديث عن عمليّة التحديث والإصلاح في العالَم العربي، إذ لا يُمكن استحضار مسألة التخلّف الاجتماعي والتسلُّط السياسي إلّا وتمَّت مُساءَلة المرجعيّة الدينيّة عن دَورها التاريخي والثقافي في تعميق أزمات المجتمعات العربيّة. وتذهب في هذا التوجُّه كتاباتُ وآراءُ أدونيس التي تشترط حلّ الأزمة الحضاريّة للمُجتمعات العربيّة بإعادة النَّظر في وظيفة الدّين، وذلك عبر تأسيس مرجعيّة قيميّة بديلة تحدّ من تأثير المرجعيّة الدينيّة، وتَفتح الباب أمام نموذجٍ علماني قادر على رفع تحدّيات الحداثة ومُواجَهة تبعات التخلُّف (أدونيس، 2016).

سؤال شكيب إرسلان بلا جواب

لا يُمكن الجزم بأنّ الحسْمَ مع التخلُّف الحضاري للمُجتمعات العربيّة بالأمر الهيِّن، بسبب الالتباس الذي يحوم حول طبيعة النموذج الحداثي الذي يتوافق مع الخصوصيّة الثقافيّة لهذه المُجتمعات، والتي كلّما زادت درجة استهلاكها المادّي لمنتوجات الحضارة الغربيّة، اتَّضحت مُفارقات عصرَنَتِها وتشرذمها القيمي بسبب محدوديّة نضجها الفكري في استيعاب القيمة الفعليّة لهذه المنتوجات، ناهيك بتعطّل ميكانيزمات مرجعيّتها الثقافيّة في ضبْطِ طُرق التعاطي مع مُخرجات ثقافة الاستهلاك، باعتبارها أحد رموز السلطة الثقافيّة والاقتصاديّة للحضارة الغربيّة اللّيبراليّة.

وفي سياق زمن العولمة الجارفة وضعف المقاومة الثقافيّة للمجتمعات العربيّة، تبرز أهميّة الجدل الثقافي حول الإجابة عن السؤال التاريخي الذي لا زال يشغل بال الباحثين والمهتمّين بإشكالِ التخلُّف، وذلك بحُكم عمق هذا الأخير وتشعُّب أبعاده وتمظهراته الماديّة والقيميّة.

يوضح هذا الأمر أنّ الإجابةَ علن سؤال شكيب أرسلان في مطلع القرن العشرين ما زالت بلا جواب محدَّد. فعلى الرّغم من وفرة الدراسات التي حاولت تشخيص واقع تخلّف المجتمعات العربيّة، إلّا أنّ تنزيل الحلول اصطدم بواقعٍ سياسي واجتماعي جسّدته طبيعة الذهنيّات المتحكّمة في القرار السياسي والواقع الثقافي للإنسان العربي، الذي حاول كلٌّ من مصطفى حجازي وهشام شرابي ملامسة أسباب تخلّفه عبر تسليط الضوء على هَدْرِ حقوقه الطبيعيّة كإنسان وتحكُّم المنطق الأبوي/ السلطوي في نشأته الاجتماعيّة (مصطفى حجازي 2005، هشام شرابي 1993). أمّا في ما يخصّ أصحاب القرار السياسي، فيعكس أسلوبُهم في الحُكم استمراريّةَ ثقافةٍ سياسيّة تستقي مرجعيّتها القيميّة من تأويل إيديولوجي للدّين تُبرِّر بموجبه الطبقاتُ الحاكمةُ استحواذَها على السلطة السياسيّة والموَارِد الاقتصاديّة، وذلك على حساب مبادئ الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة.

ويبدو أنّ الحديث عن مسألة التخلُّف في العالَم العربي اليوم تُسائِل من جديد المثقّفَ الذي من المُفترض فيه إعادة بناء تصوّره لهذه المسألة من منطلقٍ نقديّ يُمكّنه من بلْورةٍ منهجيّة علميّة تهتمّ أساساً بمكانة الخصوصيّة الثقافيّة ودَورها في مسار تقدُّم المجتمع. كما تنفتح بشكلٍ كبير على مُقاربات عِلم النَّفس الثقافي لتحليل كيفيّة تأثير العامل الثقافي على الأداء الاجتماعي للأفراد. وهذا الأمر لا يغدو مُمكناً إلّا عندما تتطوّر آليّات التحليل التي تُفكِّك هذه الخصوصيّة، وذلك بفهْمِ مسؤوليّتها التاريخيّة في تأخُّر المُجتمعات العربيّة، لأنّ الموروث الثقافي ظلَّ يُستغلّ بشكلٍ يُسهِم سواء في تقوية دعائم الأنظمة السلطويّة أم السلطات الاجتماعيّة الرّادعة لحريّة التفكير. فلا يُمكن بناء نموذج حضاري يُواكِب التقدُّم الحاصل ويُمكِّن من الإجابة عن سؤال شكيب إرسلان في غياب الحريّة والنقد الذاتي، الذي قد يخلِّصنا من الأوهام المؤسِّسة للأنا العربيّة في وضعها الحالي.

يبقى تحقيق هذا الهدف مُرتبطاً بالقطع مع تردُّد المثقّف العربي الذي يعيش، بحسب تعبير عبد الله العروي، حياةً بائسة، لأنّ مجتمعه يعيش برتابةٍ تحت التاريخ (عبد الله العروي، 1978). بيد أنّ المُجتمعات العربيّة لا توجد تحت التاريخ فقط، بل تسافر فيه من دون تذكرة، لأنّها عاجزة عن التأثير في مجرياته، ولعلّ هذا الوضع يتطلَّب إعادة النّظر في الالتزام الاجتماعي للمثقّف حتّى يستمرّ في نضاله من أجل قضايا مُجتمعه ومُقاوِماً لكلّ أشكال تخلّفه.

***

*باحث في العلوم السياسيّة من المغرب

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

(Valium)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *