“حدثني ميخائيل نعيمة” لـ اسكندر داغر… أحاديث في محطات العمر مع ناسك الشخروب 

Views: 18

وفيق غريزي

رأى الأديب والناقد اسكندر داغر، في كتابه “حدثني ميخائيل نعيمة”، أن ناسك الشخروب المفكر الكبير يستحق مسح غبار النسيان عن صورته بين الحين والآخر، للتذكير بأن ذكره مخلّد في وجدان اللبنانيين والعرب، هامة كما صنين، وايقونة في وجدان اجيال تخطفها مبتكرات الحداثة وخطفتها الى ضفاف غريبة عن مدار المعرفة الخلاقة التي تستطيب التعاطي مع النكهات المخدرة المفصولة عن جذورها، فكان لابد من استرجاعها ففعل اسكندر داغر حسب رأي الاديب جورج شامي.

 

شيخوخة هادئة ومريحة

كرّس الأديب الكبير ميخائيل نعيمة حياته للقلم، وقال: “ولولاه لما كان التعرف بيننا، فالقلم هو صلة الوصل بيني وبين الكثير ممن يأتوني لشتى المناسبات”. 

وقد كرّس نعيمة قلمه، من اجل المعرفة، ومن اجل الحقيقة ومن اجل لبنان، الذي يريده واحة جمال وسلام، لا صحراء للعصبيات والتقاتل الطائفي الذميم. وينقل المحاور داغر عنه قوله “احببت لبنان منذ حداثتي، ولا ازال احبه بكل جارحة من جوارحي، وهذه الشهادة اؤديها في لبنان، لا يجرحها كون ترابي من ترابه، وكون النفس الذي في صدري من انفاسه، فلبنان بما حباه الله من جمال حقيق بمحبتي، ومحبة كل من تعشق الجمال”. وليته ما زال حيًا ليرى بعينه كيف هذه الطغمة الفاسدة حوّلت جنة لبنان الى جحيم يصلي شعبه بالكبريت والنار. ويتساءل داغر: “ترى، هل باستطاعتنا القول، إن نعيمة، الذي مارس مختلف الفنون الادبية، قد قال كل شيء، قبل أن يجف المداد في الدواة؟” 

لقد اعطى نعيمة، في كل ما كتبه، خلاصة تفكيره في الانسان، وفي تطوره، وفي العالم الذي هو بعض منه. اما اليوم، أي في التسعينيّات من القرن الماضي، فقد بات من حق نعيمة أن يستريح. ويقول داغر: “ميخائيل نعيمة، لم يترك وطنه، في اتجاه الاوطان الاخرى سعيًا وراء كسب مادي ولكي يحتفظ في خزانته بالسجلات العقارية، ولكي ينعم بمظاهر الحياة الفانية، ولكي يتشاوف على بني قومه بامكانياته المادية”. نعيمة اقتحم اسوار العالم بحثا عن المعرفة والمثل العليا، وبحثا عن الافكار الجديدة، والتطلعات الانسانية، والعوامل التحريضية التي من شأنها أن تبعث الحياة في الثقافة العربية المعاصرة، وبحثا عن الحقيقة والحرية والتطور والمجهول.

ويشير داغر الى أن “منذ اطلالة نعيمة الاولى في ميادين الشعر والادب والنقد، حمل قلمه المبدع، او بالاحرى مبضعه الاسطوري، وبدأ من وراء البحار، في معالجة الأدب المريض، والاقلام المحنطة، والنفوس السقيمة، مبشرا بانبثاق الفجر الجديد بعد ليل طال امده، وعندما عاد الى بلده اثر وفاة صديقه جبران خليل جبران، تابع مسيرته الطويلة في اتجاه الاهداف المنشودة، وفي سبيل الأدب المعافى، والانسان الافضل”. ويقول داغر: “انطلاقا من هذه الزاوية بالذات، لم يعد نعيمة الانسان الذي يعالج شوون الادب والناس فحسب، بل اصبح مرجعا لاهل القلم في لبنان وغير لبنان. وصارت رسائله الثمينة الى الكتّاب هي الشهادة التي لابد منها للتدليل على مدى نجاح او فشل الاعمال الثقافية التي تبرز الى حيز الوجود من حين الى اخر”. 

 

حرية قشور لا جذور

أين تبدأ حرية الأديب وأين تنتهي؟ يجيب نعيمة بقوله: “كنت اتمنى أن يكون المجتمع الذي يعيش فيه الأديب مجتمعا منفتحًا الى حد أن يسمح للأديب أن يقول ما يجول في خاطره، ولكننا نعيش في مجتمعات لا تزال تقيد القلم بالكثير من القيود”. في شرقنا لا يستطيع الكاتب أن يتعرض بحرية تامة لأشياء قدستها التقاليد من زمان وفي مقدمتها الدين، ولأن الكثير من حياتنا حسب اعتقاد نعيمة، يقوم على الدين وتقاليده وطقوسه، فمن الحيف أن نصونه بقداسة لا يستطيع الكاتب أن يتعرض لها. ومعنى ذلك يقول نعيمة: “ذلك أنه يباح لنا أن نتلهى من حياتنا بالقشور ولا يباح لنا أن نبلغ الجذور”. ويشير نعيمة الى أن هنالك دول تعد في مقدمة القافلة البشرية ونراها، مع ذلك، تحظر على الادباء الخوض في مواضيع تتناول الأسس التي يقوم عليها نظامها الاقتصادي والاجتماعي، أما عن مدى علاقة الأديب بالحياة، فيرى نعيمة أن لا حياة للأدب الا من الحياة، فهي له بمثابة الماء والهواء والغذاء للجسد، الأدب الذي لا يستمد قواه من الحياة، اذا جاز أن نتخيل مثل ذلك الأدب، هو أدب جهيض.

 

الحياة الأدبية في لبنان

يؤكد نعيمة، في حواره  مع اسكندر داغر، أن الفترة التي يمر بها لبنان الآن، وباقي البلدان العربية تبدو وكأنها فترة ركود في دنيا الأدب، ويقول: “لعل مرد ذلك الى المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يعانيها العالم العربي اليوم. ولكن لا مجال لليأس كلما بدا لنا وكأننا لا نسير في خط تصاعدي. فالمهم أن نسير وأن نعمل”.

والأدب الذي ندعوه عالميا هو الأدب الذي استطاع أن يتخطى حدوده الاقليمية، ومن هذا القبيل يقول نعيمه: “نرى أن الشعوب الغربية على الاجمال، قد سبقتنا في هذا المضمار، لأنها تملك تراثا ادبيا متشابها يعود الى ايام الاغريق. في حين أن الأدب العربي قد انقطع عن تراثه العالمي منذ زمان بعيد … وهذه الفجوة الواسعة من الزمان قد اخرتنا كثيرا عن اللحاق بالشعوب الغربية “. ولهذا فنحن العرب لم نبدأ بسد هذه الثغرة الواسعة بيننا وبين الأدب العالمي إلا منذ بداية نهضتنا الحديثة التي لم يتجاوز عمرها القرن او نصف القرن.

ويعرب نعيمة عن اعتقاده بأنه كان علينا في هذه الفترة القصيرة ان نقتبس الكثير من الأساليب الغربية التي لم يكن لنا عهد بها: كالقصة القصيرة، والرواية، والمسرحية والملحمة، والشعر الذي لا يحصر همه في الاوزان والقوافي وفي الصياغة اللفظية وفي تقليد الأقدمين، لا يتجاوز ذلك الى جميع ما يخالج النفس البشرية من اشواق الى الانطلاق في عوالم لا حدود لها، ولا تخضع لمقاييس نبتدعها ثم نحافظ عليها كما لو كانت غير قابلة للتغيير والتطور، رأي نعيمة هذا جاء في العام 1967، وبالتأكيد تحقق ما كان ينشده في اقتباس الأساليب الغربية المتعددة، وعرف العالم العربي عامة ولبنان خاصة، القصة القصيرة، والرواية، والمسرحية، والملحمة والشعر الحر وشعر النثر، في حياته. 

والازمات التي يشهدها العالم العربي، ومدى انعكاساتها على الحركة الأدبية في لبنان، يؤكد نعيمة، ان الذي وقع اخيرا في العالم العربي كان بمثابة زلزال، ومن شأن الذين ضرب الزلزال ارضهم أن ينصرفوا الى بلواهم والى تعمير ما خربه الزلزال، ورد الأمور الى مجراها العادي قدر المستطاع قبل ان يتسنى لهم الانصراف الى امور اخري تبدو وكأنها ثانوية بالنسبة الى المصيبة.

 

قاهر الشيخوخة

يقول ميخائيل نعيمة: “امهلني قليلا وترتاح مني، وارتاح منك، وفي السراج ما تزال بقية من

مداد”. وتعليقا على هذا القول، يقول اسكندر داغر “ترى، عندما كان قلمه يتلاعب بتلك الكلمات، هل كان يدرك في أن قلمه المبدع سوف يتوقف عن الحركة قبل أن ينضب الزيت في سراجه، وقبل أن تنضب المواد في دواته؟”. في اواخر ستينيات القرن الماضي انقطع نعيمة عن الكتابة، لأن يده بدأت ترتجف قليلا، فلا تطاوعه في الكتابة، وأخذ يقضي اكثر اوقاته بالمطالعة، وما يتبقى من الوقت يصرفه بين استقبال الزوار او الاستسلام الى التأمل. وبنظرة رؤيوية ينظر نعيمة الى عالم الغد، او المستقبل، فيقول: “لن يكون عالم المستقبل غير امتداد لعالم اليوم، وهذا يعني أن المستقبل لن ياتينا بالعجائب، ولن يغير كثيرا في انماط معيشتنا كما نعرفها اليوم. الأنسان يتطور، ولن يكون تطوره بطيئا، لذلك لا اتوقع أن يختلف انسان المستقبل، عن انسان اليوم، الا اختلافا طفيفا جدا، وهو اختلاف في الظواهر لا في البواطن”. 

إن ناسك الشخروب يكره الحرب، ولو كانت سياسة العالم في يده لنفى الحرب من قاموس البشر، واحل محلها السلام، وبحسب اعتقاده، فالحرب تقوم بالدرجة الأولى على البغض، في حين أن المحبة هي التي ينبغي أن تقود سلوك الناس بين بعضهم ومع سائر الكائنات حواليهم، ويقول: “نحن عندما نكون في حالة سلم نستطيع ان نحب العالم الذي حوالينا بكل ما فيه. والمحبة في النهاية، هي اقوى من البغض الذي لولاه لما كانت 

حروب في الارض”. ويتمنى لو نستطيع ان نعيش بناموس المحبة بدلا من ناموس الكراهية والبغضاء الذي يفرقنا، ولا يترك مجالا لنبصر الجميل، والدائم، لبعضنا البعض، وفي سائر الكائنات. 

 

لا بداية ولا نهاية 

في حوار اجراه اسكندر داغر مع نعيمة، قال نعيمة: “اعيش في هذا البيت (في الزلقا) مع ابنة اخي مي، وابنتها سهى، هي سلوتي الكبرى، اداعبها والاعبها واطالع ما تكتبه”، ويعلن انه انقطع عن التأليف منذ سنتين، وهذا الحوار جرى عام 1984، ولكنه لم ينقطع عن المطالعة، وهو من عشاق الطبيعة، ولأنه عاش في الجبل (بسكنتا) مسقط رأسه، فهو يعشق الجبال بكل مظاهرها، ولأنه يسكن حاليا قريبًا من البحر، يسحره مداه اللامتناهي، ويثبته في فكرته بأن ما في الكون لا بداية ولا نهاية، فهو لا يعرف اين يبدأ هذا الكون وأين ينتهي، ولأن البشر بعض منه، فهم لا يعرفون لانفسهم بداية ولا نهاية. ويقول في هذا الصدد: “نحن نخدع انفسنا كلما افتكرنا اننا بدأنا نعيش ساعة خرجنا من بطون امهاتنا، اما الحقيقة التي لا مفر منها فهي أن حياتنا تتصل بالأزل من جانب، وبالأبد من جانب آخر، فلا بداية ولا نهاية … أما الأعمار التي نحياها على الأرض فليست سوى مراحل قصيرة في مسيرتنا الطويلة”. وردًا على سؤال ماذا علّمته الحياة بعد هذا العمر الطويل؟، اجاب: ” لعل الرسالة الكبرى التي علمتني الحياة اياها ان اتقبلها على علاتها، لعلني افهمها وافهم القصد من وجودي على هذه الأرض خلال هذه الفترة من حياتي”. 

وميخائيل نعيمة من القائلين، بان حياة الانسان لا تبتديء بالمهد ولا تنتهي باللحد بل تمتد من الأزل الى الابد”،  ونحن على اتصال دائم بكل ما كان وما هو كائن وما سيكون… ومن العار علينا أن نعيش كما لو أن حياتنا ابتدأت في المهد وستنتهي في اللحد. هناك قوة يدعونها الله ونرددها باستمرار ولا نعرف ما هي، ولكننا نقول إانها ازلية – ابدية، ولأننا منها وفيها ونحن كذلك ازليون – ابديون، من العار علينا أن نجعل لحياتنا بداية ونهاية.

وعن نزعة التملك والتسلط، المتأصلة في غريزة الانسان، يرى نعيمة أن هذه النزعة جاءت الانسان من طيش الطفولة، وجهلها المطبق، فالطفل يلهو بالدمية غير مبال من اين جاءت، ومن الذي صنعها، وكيف صنعها، وما هو ثمنها، وذلك لعمري يقول نعيمة: “إنها دميته وكفى. وهو يتصرف بها على هواه، وذلك هو عنوان التملك والتسلط. (primedentistry.net) ولا يندر أن يفقد الطفل دميته، أو أن يسلبه اياها طفل آخر اقوى منه، وإذا فقدها فاجعة وأي فاجعة، مثلما لا يندر أن يختصم طفلان على تملك دمية، وإذا الأيدي والأرجل والأسنان تشترك في الخصام، وإذا الصراخ والعويل والبكاء حتى يتخيّل الينا أن الطفلين يكادان يختنقان”. والذي يبدو لنعيمة، ان الناس، ما خلا افردا لا يعدون بالمئات ولا بالعشرات، لا تزال ذهنيتهم، ذهنية الطفل تجاه نزعة التملك والتسلط، فهم ينقادون الى النزعة واهمين أنهم كلما ازداد ما يملكونه وما يتسلطون عليه ازداد تعليمهم وقل بؤسهم”.

 

إن فهم التملك لا يشبع، ولا يمكن أن يشبع، ما دام في الأرض شيء لا نملكه، بل أننا لو تملكنا الأرض، وفرضنا سلطاننا على كل ما فيها، لما هدأ بالنا، واطمأنت قلوبنا ما دامت الارض ذاتها لا تخضع لنا في تكوينها وفي حركاتها، وما دامت بعضا من كل هائل هو الكون الذي لا نعرف له بداية ولا نهاية. ويقول نعيمة: “إذا أنت اردت أن تُشبع نهمك في التملك فقد ترتب عليك أن تمتلك الكون، وذلك غير ميسور لك بالطرق الانسانية المألوفة، فالكون لا يمكن تسجيله باسمك بأي دائرة ون دوائر الدولة، ولا أنت تملك القدرة على التصرّف به حسب هواك، والدفاع عنه ضد الطامعين فيه”. من هنا محنة التملك والتسلط، باعتقاد نعيمة، فالذي لا يملك من الأرض شبرا ومن حطامها نقيرا يسعى، بالحلال او الحرام، ليمتلك منها الأميال ومن حكامها القناطر، ومن ليس له سلطان حتى على نفسه يعمل بغير انقطاع لبسط سلطانه على الالوف، ان طالب الملك والسلطان لا يشبع، وشارب الماء الاجاج لا يرتوي…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *