في التخييل واستراتيجيّات بناء سيرة الهويّة الأنثويّة

Views: 274

د. سوسن ناجي*

تتعدّد دوافع الذّات الكاتبة لكتابة سيرة الذّات بقدر ما تتعدّد تصوّرات الأنا لنفسها. وكلّما تغيَّر تصوُّر “الأنا” لذاتها، تبدَّلت دوافع كتابة هذه “الأنا” لسيرتها. والذّات الأنثويّة حين تدوِّن سيرتها الذاتيّة أو يوميّاتها، أو مذكّراتها، أو حين تكتب رسائلها بلسان الأنا تُصبح هي نفسها موضوع الحديث ومادّته، بما يمثِّل تجربة الإنسان أمام المرآة.

لكنّ تجربة المرأة – هذه – لا تخلو من المُراوَغة في إطار وعيها بأزمة الذّات في اشتباكها مع المُجتمع، أضف إلى أنّ هذه الذّات عندما تكتب نفسها، لا تكتب لنا ما جرى، وإنّما ما خبرت أنّه جرى، وأحياناً ما توهَّمت أنّه جرى، وكلّما اختفى الشهود، أو أَوْهَنَ الزمنُ ذاكرةَ الأحداث، أَطلقتْ لنفسها العنان؛ فنحن هنا بإزاء نَوعٍ من الإبداع الأدبيّ الذي يخضع لموضوعات الكتابة من تخييلٍ وإيهام.

وإذا كانت كلّ كتابة وثيقة الصلة بوضْعِ مَن يكتبها في المُجتمع، فإنّ كاتبات السيرة الذاتيّة من النساء كثيراً ما يتحدّثْنَ باسم النساء عن همومٍ وهواجسَ مُرتبطة بهنّ. فضلاً عن أنّهنّ يخشين أن يستعرضْنَ حياتهنّ على الملأ بطريقةٍ مباشرة، فالمرأة في رأي البعض ينبغي ألّا تكشف حياتها الخاصّة على العامّة، وأنّ ما تكتبه لدى حديثها عن نفسها بالتالي، ليس إلّا خَرقاً للتقاليد، وبصورة أكثر تحديداً للممنوع، ومن الصعب في رأيهم السماح لها بالاعتراف في سيرتها الذاتيّة، بخاصّة إذا تمَّ نشْرها؛ لذا لجأت نساءٌ كثيرات إلى أسماءٍ مستعارة للتخفّي وراءها… فهذا العرض للأنا لا يتمّ بسهولة.

ربّما لهذا السبب يندر قيام “فنّ السيرة الذاتيّة” على مستوى الكتابات النسائيّة الحرّة، بحيث يلجأ عددٌ من الكاتبات إلى نصّ روائي ربّما يحتوي في مضمونه على سيرتهنّ الذاتيّة. فالرواية، إذا ما توافَرَ لكاتِبتها شيئٌ من الصدق الفنّي، تُعَدّ من أكثر الفنون التي يُمكن من خلالها الكتابة من منطقة مباشرة تسمح بنشوء القصّ الذاتي، الذي يخفت فيه صوت الراوي ويَرتفع صوت الشخصيّة.

تحاول “نوال السعداوي” – على سبيل المثال – أن ترصد هذا المزج في سيرتها الذاتيّة والتي عنْوَنَتْها بـ “أوراقي… حياتي”، حيث تحدَّثت فيها عن قيمة الكتابة في حياتها وكيف أنّ التوقُّف عن الكتابة هو بالنسبة إليها توقُّفٌ عن الحياة؛ ثمّ إنّ ما كان يؤرقها – ليس التهديدات الإرهابيّة – كما في “مذكّراتي في سجن النساء” – بل التوقُّف عن إكمال الرواية التي تكتبها، لأنّ موتها هو مقدّمة لموت كتاباتها. كما تحكي عن شخصيّات رواياتها، بوصفها نماذج حيّة قريبة منها، أَلهمتها صفاتها وتجسَّدت مرّة أخرى في رواياتها. وتكرار هذا الملمح بين السيرة والرواية لديها يؤكِّد على انصهار الكاتبة في شخصيّات رواياتها الرئيسة، كما يؤكّد على جماليّات المنظور الذاتي الذي تسير به أحداث مُجمل رواياتها. تقول في سيرتها: “كان الحزن مَنبعاً من منابع الإلهام.. أَيقظ حاسّتي الأدبيّة وجَعلني أكتب الخادمة شلبيّة، أهي بطلة روايتي “أغنية الأطفال الدائريّة”؟، خالي يحيى أهو ذلك الرجل العجوز في قصّة “ليست عذراء؟”، ربّما “طنط فهيمة” هي تلك الضابطة أو الناظرة، و”طنط” نعمات هي تلك المقهورة في إحدى رواياتي…”.

بهذا تنفي السعداوي وجود تطابُقٍ كامل بين الشخصيّات التي تواكب حياتها في السيرة الذاتيّة، وإنْ تواتَرَ وجوده في الروايات بصورٍ مُتباينة. ففي روايتها “امرأتان في امرأة تقدِّم الكاتبة الكثير من ملامحها الشخصيّة التي تنعكس على صورة البطلة، وتكشف فيها عن الكثير ممّا عانت منه الكاتبة في طفولتها، بدايةً من مرحلة المُراهَقة حتّى مرحلة الشباب. ينعكس ذلك على ملامح البطلة “بهيّة شاهين” ومع الكثير من ملامح الطبيبة في “مذكّرات طبيبة”.

وعلى الرّغم من أنّ المؤلِّفة لم تُفصح عن الاسم الحقيقي للطبيبة، كما لم تصرِّح في المقدّمة عن أنّ ما تكتبه هو ترجمة ذاتيّة أو مذكّرات خاصّة بها، إلّا أنّها تُفصح عن نفسها في كلّ جزء من أجزاء هذا العمل، موهِمةً إيّانا أنّها صوَّرت تاريخ أو سيرة حياتها الحقيقيّة، سواء من حيث اختيارها اسم مذكّرات لنصّها الأدبي، أم من حيث اختيارها الأسلوب المباشر في مُواجَهة الذّات أو (ضمير المتكلّم)، والإفصاح عن مكنوناتها وتجاربها. لكنّ إخفاء أسماء الأماكن والأشخاص والتواريخ، من ضمن القالب الروائي الذي عمدت الكاتبة إلى تقديم الأحداث من خلاله، لا يسمح بالقول إنّ ما كتبته هو ترجمة ذاتيّة فنيّة بالمعنى الفنّي المُحدِّد لهذا النَّوع الأدبي. وبالتالي، تبدو “مذكّرات طبيبة” نصّاً سَلَكَ سبيلاً وسطاً بين الترجمة الذاتيّة الفنيّة، وبين الرواية الفنيّة المُعتمِدة على الحياة الشخصيّة؛ فالكاتبة لم تكتب ترجمةً ذاتيّة في قالب روائي تُراعى فيه تلك الشروط التي توافرت في الترجمة الذاتيّة الفنيّة، ولم تَكتب روايةً بالمعنى الفنّي الخالِص، بل سَلكت سلوكاً وسطاً بين هذه وتلك.

هكذا يفرز حديث “الأنا” موروثاً سرديّاً ثريّاً يتنوَّع بقدر تنوُّع بصمة الذّات؛ وهذا التنوُّع يضفي بظلاله التخييليّة تنوُّعاً على السيرة الذاتيّة للكاتبات، فنَجِدُ جوانب من السيرة الذاتيّة في ذكرياتٍ أو يوميّاتٍ أو شذراتٍ مُعاشة، أو شهاداتٍ، أو مقابلاتٍ كاشفة أو رسائل أو قصائد، وقد تُفصح الكاتبة عن التطابُق مع الشخصيّة الرئيسة أو يتمّ إخفاء الذّات، وذلك بإعطاء الشخصيّة الروائيّة اسماً مُغايِراً، أو ترْكها من دون اسم.

تبدو ترجمةُ الذّات في معناها الدقيق المحدَّد مُمثَّلةً لدى نوال السعداوي في نصّ “مذكّراتي في سجن النساء”. فالكاتبة منذ السطور الأولى كشفت عن الغاية من وراء كتابتها لهذه المذكّرات، وهي أنّ ما تكتبه هو ترجمة لتجربتها الشخصيّة في السجن. وفي هذه المذكّرات اختارت ضمير المتكلّم للكلام على فترة محدودة من فترات حياتها (فترة السجن)؛ لكنّها على الرّغم من ذلك، نراها وقد استرجعَت الكثير من جذور طفولتها والكثير من أحلام المُراهَقة والشباب.

وأسلوب “مذكّراتي في سجن النساء”، بحسب ما رأينا من وصفها للملامح والأشخاص والمكان، هو أسلوب تحليليّ تصويريّ يستمدّ عناصره من الفنّ الروائي، كالحوار الأدبي الموجَز مع الاستعانة بقدرٍ ضئيل من الخيال لربط أجزاء الحقائق للتعبير عن الحياة الشخصيّة والحياة السياسيّة في آن واحد؛ ما جعَلَه أسلوباً روائيّاً مُلتزِماً التزاماً أميناً بتصوير الحقيقة المعبِّرة عن الواقع الذاتي للكاتبة. ونوال السعداوي – بهذه الترجمة الذاتيّة الفنيّة – استطاعت أن تضفي نوعاً من الصدق التاريخي والذّاتي والفنّي على مذكّراتٍ تُعَدّ ترجمةً ذاتيّةً بمعناها الفنّي الحديث. وعلى الرّغم من كلّ العقبات التي وقفت حائلاً بين الكاتبة وذاتها، إلّا أنّها لم تحول بين الكاتبة وتحقيق الذّات.. تقول: “سأظلّ إذن اكتب. سأكتب وإن دفنوني في قبر. سأكتب وإن أخذوا القلم والورق، سأكتب على الجدار، على الأرض، على قرص الشمس ووجه القمر.. لا شيء اسمه مستحيل في حياتي.. في حياتي كلّها لم أرد شيئاً بكلّ جزء من كياني إلّا وأخذته..”.

تبدو السيرة الذاتيّة إذن مكاناً واسعاً للاستيهام، ومَن يكتبها ليس مُلزَماً البتّة بأن يكون دقيقاً في نقْل الأحداث، كما هو الشأن في المذكّرات، أو بأن يقول الحقيقة المُطلَقة كما هو الشأن في الاعترافات، وهكذا تُصبح السيرة الذاتيّة نوعاً قابلاً لاحتضان نصوصٍ عدّة.

أدبُ المُقاوَمة

ومن الأنواع الأدبيّة البديلة للترجمة الذاتيّة أو الناتجة عن تقاطعات هذا النَّوع مع الأنواع الأخرى: أدب المقاومة أو (مذكّرات السجن النسائيّة)، باعتباره نَوعاً أدبيّاً خارجاً على القانون، يقوم بتحطيم أدبيّات النّخبة/ مُمارِسا ً– بلغويّاته – ضغطاً على حدود الأنواع الأدبيّة الأخرى المُتعارَف عليها، باعتباره خارج السيرة الذاتيّة السائدة أو مُعارِضاً لها لكونه يتناول تجربة السجن. ويُمكن التعرُّف على شكل التقويض هذا مُمثلَّاً في عمليّة تفكيك المؤلِّفة لطيفة الزيات، على سبيل المثال، في نصّها “حملة تفتيش” الذي لم تكتب فيه سيرتها بالطريقة الأدبيّة التقليديّة مثل رصد تفاصيل حياتها التي لا تفيد الصراع، لكونها لا تسعى إلى تسجيل أحداث حياتها، وإنّما إلى تشكيل رؤيتها لمَسار هذه الحياة، بحيث اعتمدت الكاتبة على حريّة اختيار التفاصيل، وهو شكل فنّي يعكس التطوُّر والتحوُّل الذي طرأ على الشخصيّة مواكَبةً مع التطوُّر السياسي والاجتماعي في المجتمع؛ لذا تمثِّل هذه الكتابات مراحل ومشاهد أو لقطات من الحياة الشخصيّة والسياسيّة للمؤلِّفة في آن، فضلاً عن نقدها الذات الأدبيّة، حيث أقدمت في هذه السيرة على تقديم سيرتها وسيرة كِتاباتها في إطار مسارها الحياتي وما عَكَسَهُ هذا المَسار من تحوّلات وتطوّرات في الشخصيّة والكتابة.

تبقى الكتابة أحد أهمّ العوامل لتحرير الذّات والخروج من دوائر القهر إلى دنيا الخلاص والالتحام بالجماهير العريضة، تقول: “أجلس لأكتب، أدفع الموت عنّي في ما يبدو أنّه سيرة ذاتيّة..”. وبهذا تستمدّ الكاتبة قوّتها من الكتابة، للخروج من محبسها في سجن القناطر في العام 1981.

لكن تبقى السيرة الذاتيّة هي أساس الكتابة الأنثويّة العربيّة بصفة عامّة، حيث كانت حياة الكاتبة/ الذّات مادّة الكاتبة الأولى، فجاءت غالبيّة هذه الكتابات سِيَراً ذاتيّة روائيّة أو متخيَّلة. لكن سواء أكانت السِّيِر الذاتيّة روائيّة أم غير روائيّة، فإنّها تنبع كلّها من الرّغبة في سرد الذّات وعرْض الأنا. وكم كان صائباً هنا قول “جورج جوزدورف” (Georges Gusdorf): “إنّ كلّ كتابة أدبيّة في حركتها الأولى هي كتابة الأنا”.

***

* كاتبة وناقدة من مصر

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *