في ظِلالِ الشّخْرُوب!
مُورِيس وَدِيع النَجَّار
(مَقالَةٌ تَعُودُ لِزَمَنٍ طَوِيلٍ، كَتَبتُها بَعدَ نَهارٍ طَيِّبٍ في ضِيافَةِ الصَّدِيقِ الدّكتُور أَنطوان سَيْف في مَنزِلِهِ الصَّيفِيِّ في بَسكِنْتا. أَعُودُ إِلَيها لِأَتَمَزَّزَ رَحِيقَ ذِكرَياتٍ بَعِيدَة)
في قَيْظِ تَمُّوزَ اللَّافِحِ، والسَّابِلَةُ أَقعَدَها الهَجِيرُ، قَصَدنا بَسكِنْتا، بِرُفْقَةِ الصَّدِيقِ الشَّاعِرِ نَظمِي أَيُّوب، تَلبِيَةً لِدَعوَةٍ كَرِيمَةٍ مِنَ المُفَكِّرِ الصَّدِيقِ، الدّكتُور أَنطوان سَيْف، وزَوجَتِهِ الحَسَنَةِ البِشْرِ، لِقَضاءِ نَهارٍ في رُبُوعِها الخَضراءِ، الغَنَّاءِ، والتَّعَرُّفِ، عَن قُرْبٍ، على «شُخْرُوبِ» أَدِيبِنا الكَبِيرِ مِيخَائِيل نُعَيْمَة.
وما أَدراكَ ما الشُّخْرُوب…
إِنَّهُ عَبْقَرُ «نُعَيْمَة، وكَعبَتُهُ، ومِحرابُه. إِنَّهُ الكَنَفُ الَّذِي تَنَفَّسَتْ فِيهِ عَبقَرِيَّتُهُ، وانتَشَى قَلَمُهُ، فعَطَّرَ أَرجاءَنا بِأَطيَبَ مِنَ المِسْك؛ ومِنهُ شَعَّت أَنوارُهُ، فَأَضاءَت سَماءَنا بالوَهَجِ العَجِيبِ، يَفتِنُكَ بَرِيقُهُ أَنَّى وُجِدتَ في زَوايا الكُرَةِ الأَرْبَع…
«الشُّخْرُوب»، ناحِيَةٌ مِنْ جِوارِ بَسْكِنتا، صَخرِيَّةٌ، كَثيرَةُ الأَشجارِ، تَهجَعُ في صَمتٍ وهَناءَةٍ، لم تُدَنِّسْهُما ضَوضاءُ الإِنسانِ، في حِضْنِ جَبَلِ صنِّينَ المَهِيْب.
عادَ إِلَيها «نُعَيْمَة» مِن مُغتَرَبِهِ في أَمِيركَا بَعدَ أَنْ َاقَ ذَرْعًا بِالمَدَنِيَّةِ وهَواجِسِها، وأَثقالِها وَوَساوِسِها. عادَ يَنشُدُ الطَّبِيعَةَ البِكْرَ، الَّتِي طالمَا حَلَمَ بِها مع رِفاقِهِ، شُعَراءِ وأُدَباءِ المَهجَرِ الأَمِيركِّيِّ الشَّمالِيّ. عادَ لِيَقضِيَ بَقِيَّةَ العُمرِ بَينَ الدَّوْحَةِ والخَمِيلَة. يُداعِبُ الزَّهرَةَ، ويُناجِي الأَطيار. يَستَفِيقُ مع الفَجرِ، يَملَأُ صَدرَهُ بِأَنسامِه. يَجُولُ، بِنَشوَةٍ، بَينَ الأَثلامِ الطَّرِيَّةِ، يَشتَمُّ رائِحَةَ التُّرابِ المُنَدَّى بِالمَطْرَةِ الأُولَى. يَشْتارُ شَهْدَ البَرارِي، ويَتَأَمَّلُ انبِثاقَ الثِّمارِ مِن البَراعِمِ الحُبْلَى…
وبَعدَ ساعاتٍ طَيِّبَةٍ لا تُنتَسَى في ضِيافَةِ الأَصدِقاءِ الكِرامِ، قَصَدنا «الشُّخْرُوبَ»، وفي جَوارِحِنا نَهَمٌ ما استطاعَتْ حَفاوَةُ مُضِيفِينا، وطَيِّباتُهُم، أَن تُلَطِّفَ مِن غُلوائِه. كَيفَ لا، َهو يَعتَمِلُ في حَنايانا مُذْ كُنَّا في مُقتَبَلِ العُمرِ، نُغْنِي حافِظَتَنا، ونُهَذِّبُ أَقلامَنا الفَتِيَّةَ، بِالأَرَجِ الزَّاكِي مِنْ أَدَبِ «نُعَيْمَة» وَ«جُبران» وَ«أَبِي ماضِي»، وأَضرابِهِم المُبدِعِين.
وكُنَّا كُلَّما اقتَرَبنا مِنَ المَكانِ، يَتَجَلَّى دَبِيْبُ الدِّفْءِ في ذاكِرَتِنا، أَنشَطَ وأَقوَى، وتَنتَعِشُ مُخَيِّلَتُنا راسِمَةً، في الخَيالِ، صُورَةَ الكُوْخِ – الصَّوْمَعَةِ الَّذِي اتَّخَذَهُ «نُعَيْمَة» عُشًّا لَهُ في كَنَفِ صَخْرَةٍ دُهْرِيَّةٍ، والَّذِي قَضَى فِيهِ السَّنَواتِ الطِّوالَ، في صُحْبَةِ الأَرضِ ونَداها، والنَّسِيمِ وشَذاهُ، وفَيْءِ صنِّيْنَ وجَلالِه، وكُلِّ عُصفُورٍ طَلِيقٍ، وحَشَرَةٍ ساعِيَةٍ قَرَأَ فِيها أَدِيبُنا النَّاسِكُ أَسرارَ الحَياةِ، وخَفايا الوُجُود.
ولقد ظَنَنَّا، بِصَفاءِ مَنْ يَعشَقُونَ المُثُلَ والجَمالَ، ويُقَدِّسُونَ الفِكْرَ والكَلِمَةَ، أَنَّنا سَنَجِدُ تَرتِيباتٍ قامَت بِها دَولَتُنا المالِكَةُ سَعِيدًا، لِتَحفَظَ إِرْثَ مَن أَعلَى اسمَها ورَفَعَ لِواءَها، ذَخِيرَةً لِلوَطَنِ، وتَجعَلَ صَومَعَتَهُ مَزارًا لِمَن لا يَزالُ يَحْيا بِالحَرفِ، ويَسكَرُ بِالكَلِمة…
ولكِنْ، والمُفاجَأَةُ مُحزِنَةٌ، لم نَجِدْ أَنَّ أَصابِعَ القَيِّمِينَ قد مَرَّت هُناكَ، لِتُبَلسِمَ الأَرضَ الثَّكْلَى، والرَّبْعَ المَهجُور. ولَولا مُبادَرَةٌ مَشكُورَةٌ مِن الأُستاذ نَدِيم نُعَيْمَة، ابْنِ أَخِ نابِغَتِنا، لَتَعَذَّرَ على الزَّائِرِ أَن يَرَى، أَو يَتَعَرَّفَ، ولو على واحِدَةٍ مِن بَصَماتِ النُّعَيْمِيِّ الخالِد. وهُنا نُشِيرُ، وَنَرفَعُ الكَأْسَ تَحِيَّةً وتَقدِيرًا، إِلى أَنَّ الأُستاذَ نَدِيم، وبِتَنفِيذٍ عَبقَرِيٍّ مِن فَنَّانَيْنِ لُبنانِيَّيْنِ مِن آلِ عَسَّافَ، قد شَكَّلَ مِنَ الصَّخْرِ الشَّامِخِ، حَيثُ كانَ يَطِيْبُ لِأَدِيبِنا الكَبِيرِ الاختِلاءُ والتَّأَمُّلُ، تِمثالًا رَأْسِيًّا، وقَبرًا مُتَواضِعًا حَنُونًا لِلعَظِيمِ الرَّاحِل.
وشِئْنَا، بَعدَ وُقُوفٍ مُتَأَمِّلٍ في حَضرَةِ المَثِيلِ الأَصَمِّ، أَن نَزُورَ الصَّوْمَعَةَ الَّتِي شَهِدَت أَحلامَ الأَدِيبِ وآمالَهُ، قَلَقَهُ وتَشَظِّيَهُ، فَفُوجِئنا بِلَوحَةٍ صَفِيقَةٍ، غَبِيَّةٍ، تَقُول: «مَنزِلٌ خاصٌّ، يُمنَعُ الدُّخُول». وعَرَفنا، بِحَسرَةٍ، وأَلَمٍ، أَنَّ ثَمَّةَ أُناسًا يِعِيشُونَ فيهِ، يَدِبُّوْنَ، ويَزرَعُونَ، ويَتَناسَلُونَ، ولا مَنْ يَحزَنُون! (mclaneedgers.com)
وعادَت بِيَ الذَّاكِرَةُ لِسَنَواتٍ خَلَت، زُرْتُ فِيها قَلْعَةَ بَعْلَبَكَّ، حَيثُ فُوجِئتُ، في أَحَدِ مَمَرَّاتِها الخارِجِيَّةِ، بِتِمَالٍ مُلْقًى، بِإِهمالٍ شَدِيدٍ، بِجانِبِ حائِطٍ، وقد أَصبَحَ، ويا لَلْعارِ، نَزِيْلَ نُفاياتٍ، ومَوْضِعًا مَقصُودًا لِقَضاءِ حاجاتِ «المَزْنُوقِيْن»… ولم يَكُنْ إِلَّا تِمثالَ شاعِرِ القُطْرَينِ، خَليل مُطران، مَفْخَرَةِ الأَقطارِ والأَمصارِ، وَمُعجِزَةِ الصِّناعَتَينِ، والعَمُودِ السَّابِعِ لِبَعْلَبَكَّ، ولُبنان…
وبَكَيتُ، ولو لم تَنهَمِرْ دُمُوعِي، والبُكاءُ الجافُّ أَمَرُّ، وأَقسَى، مِنْ قَرِينِهِ البَلِيل. وتَمَنَّيتُ، ساعَتَئِذٍ، أَن لا يَمُرَّ سائِحٌ، هُناكَ، أَبَدًا، فَيَرَى ما يَندَى لَهُ الجَبِينُ، وتَخجَلُ النَّفْس…
وانتَصَبَت، في ذاكِرَتِي، وفي مُخَيِّلَتِي المَطعُونَةِ، مَقُولَةٌ شَهِيرَةٌ يُرَدِّدُها، بِفَخْرٍ، واعتِزازٍ، كُلُّ إِنكلِيزِيّ: «نتَخَلَّى عَنِ الهِنْدِ ولا نَتَخَلَّى عَنْ شَكسبِير»، والَّتِي كانَ يُدَندِنُها رَئِيسُ وُزَرائِهِم الأَشهَرُ، تشرشِل، كَالآتِي: «تَتَخَلَّى بَرِيطانيا عن نَهْرِ التَّايمز ولا تَتَخَلَّى عن شَكسبِير»!
في أَثناءِ اجتِماعِ مَجلِسِ الوُزَراءِ الفَرَنسِيِّ، بِحُضُورِ الرَّئِيسِ جُورج بُومبِيدُو، دَخَلَ مُدِيرُ مَكتَبِ الرَّئِيسِ وأَخبَرَهُ أَنَّ الفَيلَسُوفَ جان بُول سَارتر قد مات. حِينَها عَلَّقَ الرَّئِيسُ الاجتِماع!
وجَلجَلَ في أُذُنَيَّ المُنهَكَتَينِ بِأَلفِ نَشازٍ، حُداؤُنا المُخزِي: «بارِيْز مَرْبَط خَيْلنَا»…
وناجَيتُ نَفسِيَ الكَئِيبَةَ: سُحْقًا لَنا، ولِخَيلِنا، ولِبُطُولاتِنا «الدُّونْكِيْخُوتِيَّة» الَّتِي لا «تُسْمِنُ ولا تُغْنِي مِنْ جُوْع»، ولإِهمالِنا، وجَهلِنا، الَّذِي سَيُودِي بِنا إِلى يَومٍ لَنْ نَجِدَ، فِيهِ، لَنا، مَكانًا لائِقًا تَحتَ الشَّمْس!
فَيا شُعَراءَ وأُدَباءَ لُبنانَ، هُبُّوا إِلى أَقلامِكُم، واجعَلُوها تَنفُثُ سَعِيرًا في وُجُوهٍ صَفِيقَةٍ، بارِدَةٍ، لا تَأبَهُ لِلإِبداعِ مُلْقًى تَحتَ «أَرجُلِ الخَنازِيْر». فَلَسَوفَ تَأتِي أَجيالٌ «لَن يَقُولُوا: كانَتِ الأَزمِنَةُ رَدِيئَةً، بَل سَيَقُولُونَ: لِماذا سَكَتَ الشُّعَراء»، كما قالَها، يَومًا، الشَّاعِرُ الأَلمانِيُّ بِرتُولد برِيشت!
قالَ فَيلَسُوفٌ، ونِعْمَ ما قال: «لا تارِيخَ لِأُمَّةٍ إِلَّا بِفَنِّها». والتَّارِيخُ هو الحَضارَةُ، وحَضارَتُنا أَنَّ «في كُلِّ بَيتٍ بارُودَةٌ ولَيسَ في كُلِّ بَيتٍ مَكتَبَةٌ»، كما قالَ أَدِيبُنا الكَبِيرُ سَعِيد تَقِيِّ الدِّين!
فَيا «وَطَنَ النُّجُوم»…
حَدِّقْ بَعِيدًا، وتَبَصَّرْ مَدِيدًا… فَنُجُومُكَ هُنا، في «مرْداد»، وَ «النَّبِي»، وَ «كِتاب خالِد»، وَ «كِتاب عَبدَالله»، ويَنابِيعُكَ هُناك، في غَزَّارَةِ أَمِين نَخلَة، ويَراعَةِ سَعِيد عَقْل، ورِقَّةِ الأَخطَلِ الصَّغِيرِ، وتَأَمُّلاتِ الرَّيحانِي، ونَفَثاتِ أَبِي ماضِي، وبُولُس سَلامَة، والشُّعَراءِ المَعالِفَة، وسُهُولُكَ الفِيْحُ هُنالِكَ، في صَحائِفِ سَعِيد َخَليل تَقِيّ الدِّين، وَوَهَجِ حَسَنْ كامِل الصَّبَّاح، ورِياضُكَ الخُضْرُ في رِيشَةِ مُصطَفَى فَرُّوْخ، وقَيْصَر الجمَيِّل، وصَلِيبا الدُّوَيهِي، وأَلوانُكَ في إِبداعاتِ فُؤَاد سُلَيْمان ومارُون عَبُّود، واليازِجِيَّيْن، وأَحمَد فارِس الشّدياق، وقِمَمُكَ في أَعْطِياتِ أَمِيْن مَعلُوف، وشارل عَشِّي، ومايكِل دَبَغِي، والكَثِيرِينَ مِنْ أَمثالِهِم. وتَطُولُ السّلْسِلَةُ، وتَطُولُ، ويَبقَى مُبدِعُونا، ولو تَقاعَسَ المُمسِكُونَ بِالقِيادِ، مَناراتٍ لَن تَطْفَأ!
ولْنَقرَأْ ما قالَهُ عَمِيدُ الأَدَبِ العَرَبِيِّ، طَهَ حُسَيْن، يَومًا، عَن لُبنانِنا الَّذِي نَأبَى أَنْ يَتَبَدَّل: «إِنَّ مَنْ يَزعُمُ مِنْ أُدَباءِ الشَّرقِ العَرَبِيِّ المُعاصِرِينَ أَنَّهُ لَيسَ مَدِينًا لِلُبنانَ بِشَيْءٍ مِنْ أَدَبِهِ فهو مُنْكِرٌ لِلحَقِّ كافِرٌ بِالنِّعمَةِ جاحِدٌ لِلجَمِيل»*!
«ومَنْ لَهُ أَذُنانِ سامِعَتانِ فَلْيَسْمَع»!
وعُدنا، في المَساءِ، وغُصَصٌ في حُلُوقِنا، لِنَرَى أَنَّ الطُرُقاتِ، وَ«الزَّوارِيْبَ»، وكُلَّ ثابِتٍ ومُتَحَرِّكٍ، تَعِجُّ بِصُوَرِ المُرَشَّحِينَ لِلاِنتِخاباتِ النِّيابِيَّةِ، مِنْ كُلِّ صَنْفٍ ولَوْنٍ، وبِبَياناتِهِم الَّتِي تَعِدُ النَّاخِبِينَ الأَبرارَ بِجَنَّاتٍ وعُيُونٍ، يَرفُلُونَ، فِيها ويَهنَأُون… وبِئْسَ ما يَعِدُوْن!
***
* طَهَ حُسَيْن ـــــ مَجَلَّةُ المَكشُوف، السَّنَةُ العاشِرَةُ، العَدَدُ 386، صَفحَة 1