“ديب الوهم” للشاعر جان السمراني بين مطرقة ابن المقفع وسندان لافونتين

Views: 244

د. جوزاف ياغي الجميل

 

“ديب الوهم” قصة شعرية بالمحكية للشاعر  الفنان جان السمراني.

تقرأها. تقرأك. لا فرق، ما دامت الحروف تنساب إليك، كما الموسيقى، من خلال ظلال الحلم والتخيلات الخضراء، بلون غلاف الكتاب.

صورة الغلاف تعيدنا إلى الحضارة الفرعونية: رجل يحمل رأس ذئب. وفي أسفل اللوحة وجه ذئب حقيقي تضيء عيناه في الظلام.

إنه الإنسان الذئب، أو المستذئب، على الرغم من أناقته في اللباس.

عنوان الكتاب ينسجم مع اللوحة الفنية، وبالمحكية التي هي أقرب إلى القارئ: ديب الوهم. ويسأل القارئ: أيكون هناك ذئبان، في هذه الحياة. ذئب حقيقيّ،. وذئب وهميّ؟

ديب الوهم عنوان يقودنا إلى مسرحية “بياع المفاتيح”, للأخوين رحباني. وكأن ذئب الوهم هو راجح. وهْم يعتدي على الناس، ويفرض عليهم الخوف والرهبة.

أما اللون الأخضر، في غلاف الكتاب وصفحاته، فهو دلالة على خصب الخيال، أو على الكورة الخضراء، ومنتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحاده، الذي كانت طباعة الكتاب برعايته.

 

ديب الوهم قصة من صميم الأدب الشعبيّ اللبناني المعاصر أراد الشاعر جان السمراني أن يحوّلها إلى سمفونية غنائية تطرب الذاكرة الثقافية العربية. ولعلّ الوهم المقصود فيها هو ذئب المدنيّة المتوحّشة، بل ذئب السلطة التي تدجّن المواطن كي تجعله عبداً مطيعا لها، تماماً كما ورد في نص ترويض النمور للكاتب زكريا تامر. وفي كلا الكتابين اعتمد المدجّن الترغيب والترهيب، كي يحقق مراده. وإذا تمّ ترويض النمر، في قصة الأديب تامر، كي يأكل العشب كالحمار، فإن الشاعر السمراني احتجز الخروف في “صيرة” وربطه بحبل، قبل أن يبيعه للحّام. والمشترك بين العملين هو أسلوب الحوار، ما يضفي عليهما صبغة واقعيّة. أما المفارقة في القصة الشعريّة السمرانيّة فهي أنها أكملت الحوار، بعد موت الخروف، فازدادت بذلك عمقاً فلسفيّاً لافتاً.

أمر آخر جدير بالملاحظة هو البعد النفسيّ في تصرّف شخصيّات القصة، فبدا الخروف ساذجا، يثق بالآخرين، ويصدّق كل ما يقولون. إنه مثال الشعب الذي تروّضه السلطة حتى تقضي على حريته، وعلى حياته.

وبدا الراعي شخصيّة خبيثة، ميكيافيليّة الصفات، فاستطاع مستفيداً من سذاجة الخروف أن يسيطر عليه ، وأن يذبحه.

بين قصة الشاعر جان السمراني وجان دي لا فونتين تشابه كبير في الشكل والجوهر. أما في الشكل فالقصتان تٍّروَيان بأسلوب شعري. ولكن الفارق بينهما أن قصة السمراني هي قصة واحدة تمتد في أرجاء الديوان كلّه. أما كتاب الخرافات للشاعر الفرنسي لا فونتين فهو مجموعة قصص تروى بأسلوب شعريّ، ولا رابط بين قصصها، إلا في الموضوع العام.

أما في الجوهر فالقصتان ترويان على لسان الحيوانات التي غدت أقنعة لرموز إنسانية والجامع المشترك الثاني بين الخرافات وديب الوهم، هو اعتماد الحوار . والحوار يهدف إلى أمرين: كشف صفات الشخصيات، وتسريع أحداث القصة.

في خرافات لافونتين حيوانات ترمز إلى شخصيات إنسانيّة، أما في ديب الوهم للشاعر السمراني فهناك لقاء بين عالمي الإنسان والحيوان. وهما عالمان متضادان في القيم والأخلاق، تماما كما التناقض بين عالمي الإنسان والغاب، في الفكر الجبراني، وفي قصيدة المواكب لجبران خليل جبران.

عبر كثيرة تحملها القصّة الشعرية السمرانيّة ديب الوهم. ولو قيض لها مَن يحوّلها إلى عمل مسرحيّ لكان لها شأن ومكانة. بيد أننا نخشى على صاحبها أن يصيبه ما أصاب ابن المقفع، في كتابه كليلة ودمنة، حيث فهم الحاكم فحواها السياسيّ، فأودى بحياته.

صديقي الفنان والشاعر جان السمراني، ديب وهمك غدا حقيقة، في عصرنا هذا. والحاكم/الراعي غدا جلّادا يستنزف الشعب ويروّضه مستعملا أسلوبَي الترغيب والترهيب. وأخشى أن نبعد أكثر في التأويل فيصبح الراعي مثالا للدول الكبرى التي تستنزف خيرات الدول الصغرى، وتودي بها إلى الهلاك.

ديب الوهم عمل شعريّ راق يؤكّد من جديد، بعد أعمال الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، أن الأدب الشعبي، بشكل عام، والشعر باللغة المحكية، بشكل خاص، لا يزالان بخير، وأنهما قادران على الوصول إلى العالميّة.

قد تكون قصة ديب الوهم الوجه الآخر لقصة  الكاتب الفرنسي ألفونس دوديه،  la chèvre de Mr. Seguin ، تلك العنزة التي حاول صاحبها أن يمنعها من الذهاب إلى الجبل، خوفاً من الذئب، ففضّلت الانطلاق، والموت، على البقاء أسيرة “صيرتها”، ووهم الخوف.

جان السمراني، مبارك إبداعك الشعري. مبارك دفاعك عن الحقيقة، وإعلانها بجرأة. ولكننا كنا بحاجة إلى بعض الإيجابية، وإلى الكثير من الثورة، لجعل الضحية تنتصر على الجلّاد. وهذا ما حقّقته، في قصتك الشعريّة، ديب الوهم، فجعلت الخروف ينتصر على الوهم،، بعدما واجه الحقيقة، ولكن في فعل يحاكي  عملية الفداء.

هي مقاربة أولى لمسرحية الواقع المأساة، واقع البحث عن الهوية الإنسانيّة التي حوّلت الأديب إلى شاهد وشهيد، شاهد للصراع بين الوهم والحقيقة، وشهيد التزامه العملي قضايا الإنسان والحياة.

جان السمراني، ديب وهمك هو نحن، بكل ما تحمله أنا الجماعة من آمال وآلام. فمتى نستيقظ من وهمنا المزمن، ونعلن انتصار الحق، وانبعاث طائر الفينيق؟

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *