لماذا لا تأخذ اللّغة العربيّة مكانتها في التداوُل العالَميّ؟

Views: 111

د. بسّام بركة*

على الرّغم من أنّ اللّغة العربيّة تُعَدُّ من اللّغات العالَميّة المُعتمَدة رسميّاً في الأُمم المتّحدة، وعلى الرّغم من أنّها لغة التواصل بين مئات الملايين من العرب، ولغة العبادات الدينيّة لدى ما يقارب مليارَيْ مُسلمٍ في العالَم، وعلى الرّغم كذلك من أنّها كانت طوال قرونٍ عدّة، لغة العِلم والعلماء في غرب آسيا وشمال إفريقيا وأوروبا، فإنّها لا تتمتّع في أيّامنا هذه بالمكانة التي تستحقّها في الأوساط الفكريّة والدبلوماسيّة والجامعيّة في العالَم.

سنحاول في ما يلي الإحاطة سريعاً بوضع اللّغة العربيّة وأسباب تأخُّرها عن اللّحاق بركب اللّغات العالَميّة الأخرى، مع اقتراح بعض الحلول التي يُمكن أن تجعلها تتبوّأ المكانة التي تستحقّها في التيّارات الفكريّة والعلميّة والثقافيّة السائدة في العالَم المُعاصِر.

هناك مَن يقول إنّ العربيّة لغة آدم، وبها يتكلَّم أهل الجنّة. لا نريد أن نُثبت هذا القول، ولا أن ننفيه، فهذا من أمر الله، وهو سبحانه وتعالى وحده عالِم الغَيب، ماضيه ومستقبله. لكن ما يُمكن أن نؤكّده، هو أنّ العربيّة لغة القرآن الكريم وبرهان إعجازه. أضف إلى ذلك أنّها اللّغة التي سيطرت على معارف الدنيا لقرونٍ طويلة، في الفلسفة كما في سائر مندرجات الفكر البشري، من الطبّ والصيدلة إلى الشِّعر والرواية، ومن الفَلَك والرياضيّات إلى الجغرافيا والكيمياء، … كما أنّها اللّغة التي اعتمدت عليها النهضةُ الأوروبيّة في انطلاقتها في العصور الوسطى، والتي منها نَهَلَ الأوروبيّون العلومَ على أنواعها، فترجموا منها إلى اللّاتينيّة، ثمّ إلى لغاتهم الأخرى.

الوضع الحالي

لكنّ لغة الضادّ توقَّفت منذ زمنٍ بعيد عن ريادة الفكر البشري، ولم تَعُد تنقل المفاهيم الجديدة التي يبتدعها الإنسانُ المعاصر. فهي تخلَّت عن دورها الحضاري القديم وتراجعت عن أن تكون السند اللّغوي لكلِّ اكتشافٍ جديد أو رؤيةٍ إبداعيّة. ذلك على الرّغم من كونها قادرة على ذلك، كما يُثبت تاريخها الفكري والعلمي والأدبي الذي دامَ لقرونٍ طويلة. وإذا كانت الإنكليزيّةُ اللّغةَ المُهَيْمِنَة في عصرنا الحالي، فإنّ العربيّة اضْطلعت بهذا الدَّور العالَمي في القرون الوسطى، من الصين إلى شواطئ المحيط الأطلسي، وكذلك فعلتِ اللّغةُ الفرنسيّة التي سادت في الأوساط الثقافيّة، في القرن التّاسع عشر، من باريس إلى بلاط القياصرة في روسيا.

لماذا إذن تقبع اللّغة العربيّة في هذا الوضع المُتراجِع؟ هل بسبب سيطرة الإنكليزيّة التي تعتلي مَوجة العَولمة؟ أم بسبب انبهار العرب بهذه اللّغة الكونيّة، وتخلّيهم عن تراثهم من أجل تبنّي اللّغة الأقوى؟ أم من جرّاء ضعفٍ أصاب قدراتهم الذهنيّة، فلم يعودوا يستطيعون اللّحاق برِكاب الفكر المُعاصِر والمُشارَكة في التجديد فيه؟

الأسباب

السبب كلّ هذا وبعض ذاك. لكنّ أخطر عاملٍ أدّى إلى هذا التقهقر، هو التخلّي عن مُمارسة الفكر والحياة الإبداعيّة بالعربيّة. فاللّغة، أيّاً كانت، تعيش باستعمال أبنائها لها، وتموت بهجرانهم لها، وبتراجُع أعداد النصوص الجديدة التي تحمل دلالاتها وتؤدّي مهمّة توصيل مضامينها. واللّغة لا توجد إذا لم يكُن هناك فكرٌ تُعبِّر عنه وتبادلٌ يُفعِّلها في عمليّات التواصل. كما أنّه ليس هناك من فكر أو أفكار، إن لم يكُن هناك نظامٌ من الرموز، أي النظام اللّغوي، يُعبِّر عنها وينقلها من شخصٍ إلى آخر. فالعلاقة بين إعمال الفكر وتطوُّر اللّغة التي تُعبِّر عنه هي علاقة تأثُّر وتأثير عميقَيْن.

وإذا تطلَّعنا إلى المشهد الجامعي والعلمي بوجهٍ عامّ في العالَم العربي، لرأينا أنّ معظم الجامعات، إن لم يكُن كلّها، تخلَّت عن تدريس العلوم بلغة الضادّ (الطبّ، الصيدلة، الرياضيّات، الكيمياء…إلخ) لمصلحة اللّغات غير العربيّة، وخصوصاً الإنكليزيّة ثمّ الفرنسيّة. كما أنّ الأساتذة والباحثين فيها ينشرون نتاج أبحاثهم بغَير العربيّة. قد يقول قائل إنّ ذلك دليل رقيٍّ ومعرفة، كما أنّه يؤدّي إلى سعة الانتشار وتوطيد سمعة الباحث في الأوساط العلميّة. ثمّ، أليس هذا ما تفعله معظم الجامعات الراقية في العالَم حاليّاً؟ هذا صحيح. لقد أضحت اللّغةُ الإنكليزيّة لغةَ النشر العلمي في معظم أنحاء العالَم. لكنّ الجامعات الكبرى التي تتبع هذه السياسة لا تتخلّى بتاتاً عن لغتها الأمّ، ولا هي تُطوِّر لغةَ العَوْلَمة على حساب إرثها التاريخي كما يفعل أبناءُ العربيّة الذين يلتفتون إلى اللّغات الأجنبيّة ويتبنّونها لا بالتوازي مع لغتهم الأصليّة، بل كي تحلّ محلَّها. وقد تفاقَمَ هذا الوضع لدرجة أنّ الإبداع الأدبي، حتّى في الرواية كما في الشعر، قد بات لدى بعض أبناء العالَم العربي يُولَد ويُنشَر بغير العربيّة.

نهضة الترجمة إلى العربيّة

قد يقول قائل إنّنا نشهد اليوم ما شهدته الحضارة العربيّة في عهد المأمون، أي ظهور أعمال ترجمة مُتسارعة ومتعدّدة مثل تلك التي عرفها هذا العهد، والتي أدَّت إلى سيطرة العرب ولغتهم على الفكر البشري لقرونٍ عديدة. هذا صحيح. فأوضاع الترجمة إلى العربيّة منذ بداية القرن الحادي والعشرين جيّدة إجمالاً، ويكفي أن نذكر بروز المراكز والمنظّمات التي تُعنى بنقل الأعمال الفكريّة والعلميّة والأدبيّة إلى العربيّة، وتوزيع الجوائز السخيّة على المُترجمين، وتأسيس المعاهد التي تُدرِّس الترجمة، والمؤتمرات التي تُخصَّص لدراسة موضوع النقل بين اللّغات، وغير ذلك. وهذا يعني أنّ هناك الآن ما يشبه ما كان في السابق من ازدهار حركة الترجمة والسخاء في مكافأة الكُتب المُترجَمة، وظهور المراكز التي تضمّ كبار المُترجمين وتدرِّب النّاشئين منهم. لكن…

لم تقتصر الحركة الفكريّة في عهد المأمون ومَن جاء بعده من بغداد إلى الأندلس على الترجمة وعلى مكافأة أعمالهم. فهذا العمل لم يكُن سوى حلقة صغيرة في سلسلة متواصلة من الأعمال الأخرى: بالإضافة إلى النقل كان هناك التفكير والتجديد. فابن سينا والفارابي، وكذلك ابن خلدون وابن رشد، وغيرهم كثير، لم يكتفوا بقراءة الكُتب المُترجَمة، أو حتّى تفسيرها، بل ذهبوا إلى تفنيد مضامينها، ونقْد جدليّاتها، والانطلاق منها لوضْعِ منظوماتٍ فكريّة خاصّة بهم. كما أنّهم تجاوزوها ليُضارع بعضُهم بعضاً وليتناقشوا في أفكارٍ جديدة انطلقت بالفعل من الترجمة، ولكنّها سبقتها إلى أبعد الحدود وأسَّست لفكرٍ جديد عالَمي طبعَ بخصائصه ما يُدعى باسم “الحضارة العربيّة الإسلاميّة”. هذا في مجال الفلسفة والأفكار التجريديّة. أمّا في مجال العلوم كافّة، فقد قاموا، بعد دراسة الأعمال المُترجَمة، بإجراء الملاحظات والتجارب والعمليّات الحسابيّة؛ حتّى أنّ الأفكار النّاتجة عن دراسة الكُتب الفلسفيّة المُترجَمة ومناقشتها والكتابة في ما يتعدّاها قد ظهرت في طيّات الأدب العربي، وخصوصاً في كتابات الجاحظ وقصائد المتنبّي وأبي العلاء المعرّي. كلّ ذلك حَصَلَ أوّلاً، وخصوصاً باللّغة العربيّة.

هذه أمور لم يشهدها العالَم العربي بعدُ في أيّامنا هذه؛ فنحن لم نتعدَّ الآن مرحلة الترجمة التي هي باب ونقطة انطلاق، ويُخشى أن نبقى عندها ولا نتجاوزها أبداً مثلما تجاوزها المفكّرون في عصر المأمون وأمراء الأندلس، وذلك لأنّنا، وللأسف، لم نعُد نفكِّر بلغتنا، ولا نتناقش بها، ولا نعتمدها في كتاباتنا وأبحاثنا.

الباحث العربيّ

خير دليل على ذلك وضع الباحث العربي. فهو إمّا طائر أضاع سربه، فهو يغرّد لوحده بسبب انعدام سياسة البرامج العلميّة الكبرى التي تُقرِّرها الدولةُ في أعلى مستوياتها، وبسبب غياب فِرَقٍ بحثيّة تعمل في ضوء هذه البرامج في الجامعات العربيّة والمراكز العلميّة، وإمّا التحق هذا الباحث بسربٍ آخر يؤمِّن له الإطارَ العلمي الذي يحتضنه، لكنّ هذا الإطار أجنبي ولا ينتمي إلى المَسار العربي. إذن، هناك باحثون عرب لا فِرَق بحثيّة، ناهيك بغياب التيّارات الفكريّة التي تَجمع تحت لوائها كلّ هذه الفِرَق. (https://www.newsoftwares.net) هذا بالإضافة إلى غياب تخطيطٍ بحثي تضعه الإدارات العليا في الدولة، وهذا صلب المشكلة.

الحلول

انطلاقاً ممّا سبق، يُمكننا القول إنّ السبيل إلى النهوض باللّغة العربيّة يمرّ عبر التواصل بها، أي بتفعيل البحث العلمي وغير العلمي بالعربيّة، وتشجيع المؤتمرات النّاطقة بها في مختلف مجالات المعرفة، وإلزاميّة استعمالها في التعليم في جميع المراحل، بالإضافة إلى لزوم أن يُتقن كلُّ طالِب لغةً أجنبيّة واحدة على الأقلّ. كذلك، لا بدّ من تشجيع البرامج الإذاعيّة والتلفزيونيّة على استعمال العربيّة الفصحى وتقديم برامج ذات مستوىً فكريٍّ راقٍ. كذلك الأمر بالنسبة إلى تبادُل المدوّنات في شبكات التواصل الاجتماعي. أمّا دُور النشر، فلا بدّ من مساعدتها على أن تَنشر بلغةٍ عربيّة قويمة، وكذلك على تنظيم الندوات الفكريّة لمناقشة منشوراتها بالعربيّة أيضاً. من ناحية أخرى، يجب الالتفات إلى خارج الإطار العربي وتشجيع الجامعات في العالَم على تأسيسِ أقسامٍ تدرِّس العربيّة وبالعربيّة، وعلى تأمين شروط التوأمة والتشارك بينها وبين الجامعات العربيّة.

كلّ هذه الأمور أشبه بسعف شجرة النخيل، وقرار الدولة أشبه برأسها. فإذا غابَ رأس النخلة أو انقطع عن أغصانها، ماتت الشجرة بكاملها.

الخلاصة أنّه يمكننا القول إنّ القرار السياسي الصادر عن رأس الدولة، والذي يوجّه هرميّاً كلّ المجالات والأعمال التي ذكرناها، ويسهر على تنفيذها هو الضمانة الأولى والأخيرة للنهوض باللّغة العربيّة ودفعها لمواكبة الحضارة العالميّة وتأمين المستقبل الباهر لها.

***

*باحث وأستاذ جامعي من لبنان

أمين عامّ اتّحاد المُترجمين العرب

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *