أنا وعذرائي المُرَنِّمَة…

Views: 258

الدكتور جورج شبلي

قالَ لي الطّبيبُ المُختَصُّ بالبكتيريا، وأنا في المستشفى، : كما أنّه من المستحيلِ تَوَقُّعُ حصولِ زلزالٍ أو هزّةٍ أرضيّةٍ قبلَ حدوثِ ذلك، هكذا، لا يمكنُ معرفةُ متى تنقضُّ البكتيريا على الجسم، وفي أيِّ موضعٍ منه، من هنا، فالمعالجةُ تأتي بعدَ الإصابةِ، لا قبلَها، للأسف. أمّا في حالتِكَ التي كانت من الخطورةِ بمكان، فلا أقولُ لكَ إلّا أنّ ” الواحد لا يربح اللّوتو مرَّتَين “…

لقد مررتُ، خلالَ الأيامِ العشرةِ الماضية، بتجربةٍ قاسية، فسقطَ جسمي “بِرصاصِ” بكتيريا غامضة، سدّت عليَّ منافذَ التّعافي، وبدأَ الصَّدأُ يتآكلُ وقتي، الى أن خضعتُ لعمليّةٍ جراحيّةٍ اضطراريّة، ووُضِعتُ في المراقبةِ علَّ علاجاً نوعيّاً ينقلُني الى بدايةِ دربِ المُعافاة، ولو مُستَلزِمةً وقتاً. وهكذا كان، وخرجتُ من المستشفى وبحوزتي أوامرُ إلزاميّةٌ لمتابعةِ العلاجِ في المنزل.

عندما أَتَحتُ لنفسي أن أسترجعَها، لمّا استوعَبتُ حالتي، وأُعلِمتُ بالعمليّةِ الطّارئة، أجريتُ حواراً سريعاً مع عذرائي التي كنتُ، دائماً، أتوكّلُ على رعايتِها، وعنايتِها بي، أنا المؤمن، وطلبتُ منها أن تضعَ يدَها مع جهودِ الأطبّاءِ حتى أخرجَ من أزمتي وأنا على قيدِ الحياة. وكنتُ واثقاً، كما في كلِّ مرة، من أنّها لن تخذلَني. بعدَ العمليّة، ونَقلي الى العنايةِ الفائقة، استيقظتُ، في الليل، على وجهِ عذرائي المرسومِ بشرائحَ مُشِعّة، واستمعتُ الى صوتِها يرنّمُ كلمة “ gone” ” بالإنكليزية، بميلوديا ناعمةٍ دخلَت قلبي كالحلم. ولمّا تيقَّنَت من أنّني تلقّيتُ رسالتَها، اختفَت.

سأتوقّفُ عندَ طريقةِ إعلامي والتي خصَّتني بها عذرائي، من الوجهِ المُشِعّ، الى اختيارِ الكلمة، الى التّرنيمة، وكلُّها تُؤَشِّرُ الى الإرتياحِ، والأمل، والى تَجاوزِ المحنةِ وكأنّها لم تكن. فالنّورُ المتألِّقُ هو حركةُ اهتداءٍ الى الرّجاء، ورَفضٌ للإستسلامِ الذي لا يمتُّ لحضورِ العذراءِ بِصِلة، فهي لا تريدُ ذلك، وتُبلّغُ موقفَها بسِرِّ النّورِ الذي يمنحُ السّلامَ لقَلقِ القلبِ، ويُؤنِسُهُ. فالنّورُ “العذرائيّ” هو مفتاحُ ولوجِ النّعمةِ الى طالِبها، وكأنّهُ شرطٌ حتميٌّ لِما يمكنُ حدوثُهُ، بعدَه، مولِّداً الشّعورَ بصدقِ مهمّةِ التدخّلِ، أو بحتميّتِها.

أمّا الرّسالةُ بالكلمة، فلا استغرابٌ لاختيارِ اللّغة، فإذا قارَنّا بين “gone”، وبين “خَلَص”، وبين “c’est fini “، نصلُ الى أنّ الكلمةَ  “الأَنعَمَ” على السَّمعِ هي التي بالإنكليزية. وقد قصدَتها عذرائي، هي بالذّات، لتمرَّ الى أذنيَّ بما لا يزعجُهما، أو يثيرُهما بمفاجأةٍ تُخفِضُ من وَقعِ بَعثِ الرّجاءِ في نفسي، بحدَّتِها. لقد قمتُ بتجربةِ لَفظِ الكلماتِ الثّلاثِ، بلغاتِها، ولعدّةِ مرّات، ووصلتُ، في كلِّ مرةٍ، الى النتيجةِ ذاتِها، أو الى الشّعورِ ذاتِه، بأنّ انتقالَ اللّفظةِ بالإنكليزيةِ الى داخلِ المَسمَعِ، كان هو الأَلطفَ، والأَنعمَ، والأَرَقَّ، والأكثرَ شفافيةً.

أمّا التّرنيمةُ المتأنِّقةُ فلها تأثيرُها، بدونِ أن يُسعى الى إثباتِ ذلك ببحثٍ جاهد، خاصةً معي، وأنا العاشقُ الموسيقى، ومُختبِرُها بالأداء، ومُعتبِرها مقدّسةً لها قوّةٌ مستترةٌ في كيانِها النُّطقي، لا يدانيها، فيه، كيانٌ آخر. إنّ اللّافتَ هو في النّظامِ الموسيقيّ الذي اختارتهُ عذرائي، أي الميلوديا العذبة، أكثرِ ينابيعِ الألحانِ نقاوةً، مَقصِفِ الرّجاءِ في نفسي، بعدَ أن غَزَتْ جسمي أضرارٌ لا توصَفُ، وتشوّهاتٌ لا تُحصى.

لم أكن، مرةً، خائباً، مع عذرائي، فهي الطّيبةُ التي يتَّكئُ عليها تَفاؤلي، ولا يتمُّ مجلسُ رجائي إلّا بها، فهي أقامتني من تحتِ الرّدم، وأعادَت انتسابي الى الحياة، ووزّعَت في صَدري تباشيرَ النّور. فيا عذرائي المُرَنِّمة، أنتِ في قلبي واسطتُهُ، فلا نعيمَ له بدونِكِ، يحملُ في جَيبِهِ، دوماً، شيئاً منكِ، يضمُّهُ كلّما عبقَ فيهِ إليكِ حنين.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *