ذِكْرَيَاتٌ واعْتِرَافَاتٌ… مِنْ حَديْثِ الرُّوحِ
د. محمد نعيم بربر
أسْتذكرُ في مِثْلِ هذا الشّهر (شباط / فبراير)، من عام 2021، وفي كُلِّ عام بَعْدَه، رَحيلَ الصّديق الحبيب الدكتور فؤاد حيدر، إلى رحمةِ ربّه ورضوانِه، رحمَه الله وطيّب ثَراهُ وأحسنَ مثْواهُ . وأستعيدُ شريطَ ذِكْرياتِنَا معًا في ما قدّر الله لنا من أيامٍ وعِشْرةٍ طيّبةٍ وصداقةٍ وودٍّ ووفاءٍ. كانتْ تلك الأيام رحلةً غنيّة بالعلم والأدب والشّعر والفِكْر والفلسفة والحياة إلى درجة التَّماثل والتَّماهي في كثيرٍ من أغراضها وأهدافها، حتّى انْعكستْ على حياتنا وهِوَاياتنا الرّياضيّة، وتأمُّلاتنا الرّوحية والفكريّة مع الطبيعة الخلّابة بأشجارها وجبالها وأنهارها وآفاقها، ومع الكون والوجود، حيث تتجلّى قدرةُ الله الخالق المُبدع، ومحاولة التَّفكّر بأسرار هذا الكون البديع ورسالة الإنسان فيه، الذي كرَّمه الله بالعقل دون سائر مخلوقاته ..
كثيرةٌ تلك الذّكريَات، فهي ومَضاتٌ فكريّة وإنسانيّة وإجتماعيّة عظيمةٌ، يمكن الحديث عنها وتوثيقها، إذا ما أسعفني الوقتُ والجُهْدُ ضِمْنَ مذكّراتي وذِكرياتي مع مَنْ عَرَفتهم من كِبارِ الأدباء والشّعراء والعلماء والنّقاد والأصدقاء والمثقّفين ..
ولقد جَذَبَ اهْتِمَامِي، من بينِ الموضوعاتِ الكثيرة التي كنّا نتحدثُ ونتبادلُ الأفكار فيها، قبْل وَفَاةِ صديقي الرّاحل الدكتور فؤاد رحمه الله، موضُوعُ حركة الحياة الثّقافية والأدبيّة والسياسيّة والوطنيّة والنشاطات الإجتماعية وما آلت إليه، ومحاولة المقارنة بين الماضي البعيد والحاضر القريب، الذي تُشيرُ دَلَالَاتُه إلى الإنْكِفاء والتّراجع لأسباب كثيرة تَطَرّقنا إليها .. وقد اتفقنا على أنْ نَسْتكملَ البحْث فيها لاحقًا لإيجاد بعض الحلول المُسَاعِدة لمعادلةِ الأمورِ وتَوازنِ مَسَاراتِها .
وبِشْكلٍ عَفويّ، ونَظَرًا لِمَا آلت إليه مُناقشتُنا في موضوع الأدب والشّعر والفِكر والثّقافة والتَّجاذبات التي طَالتْ اللّغة العربيّة وآدابها من إشْكاليّات في برامجِ التّعليم وأساليبها ونَظَريّة الحداثة على اختلاف توجّهاتها في حياتنا الثّقافية والأدبيّة والأخلاقيّة، وكذلك القُصُورُ الحَاصِلُ بشَكلٍ عَامّ، في المُنتديَات وعلى المَنَابرِ وفي وسائل الإعلام ووسائط التّواصُل الإجْتِماعيّ، مِنْ عَدَمِ احترامٍ لِلّغةِ العربيّة وقواعدِها وتاريخِها لدرجة الخَجَلِ والإحْرَاجِ ..
موضوع دقيق وحسّاس
لذلك كما ذكرت آنفًا وبشكل عَفوي، فقد وَرَدَ إلى فكْري طرْحُ موضوع دقيق وحسّاس وعاطفي ووجداني لم نتطرّق إليه سابقًا، وطرَحْتُه بجديّةٍ وحسْرةٍ أيضًا، خاصّة بعد استكْشَاف واستشْرَاف مَضَامِين السّيرة الذاتيّة الأدبيّة والشّعرية والفكْرية والثّقافية لكلٍّ منَّا (لصديقي الدكتور فؤاد، ولِي أنا كاتب هذا المقال)، في هذا الخِضَمِّ الهائل من التّحوّلات والتّجاذُبات ..
1ــ بالنسبة لصديقي الدكتور فؤاد حيدر رحمه الله، ورسالته التعليمية السّامية، على مراحلها المتعددة حتى التعليم العالي الجامعي، ومؤلفاته وكتبه الرّائدة في العلوم الإنسانيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة، ومُشَاركاته الأكاديميّة الجادّة، وعلاقاته المُثمرِة والخَيّرة بين أهله ومجتمعه وأصدقائه ومحيطه (والبحث يطول ويتشعّب) ..
2ــ وبالنسبة لِي شخْصِيًّا، أنَا صاحب السّيرة الذاتيّة والأدبيّة والإجتماعيّة التي انعكست صورتها وتراءت لكُلِّ مجتهد ومثقّف عليم، حيث كنت منذ يفاعة سنِّي، رفيقًا للكتاب وجَليسًا مُؤانِسًا في مكتبتي الخاصّة التي أسّسها لي والدي رحمه الله، العامِرة بأُمّهاتِ الكتب في الأدب والشّعر والفلسفة والإجتماع، والتي أثْرَتْ لِي شخصيّتي وصَقلتْ مَوهبتي في الأدب والشّعر الذي نَظَمْتُه وأنَا على مقاعد الدِّراسَة ونشَرتُ بعضًا منه في عدد من الصّحف والمجلّات اللّبنانيّة والعربيّة، نَاهِيْكَ عن تعرُّفِي على الكبارمن أهْلِ الأدب والفِكْر والسّياسة والدِّين والإجتماع الذين كان يسْتَضيفُهم والدي في دَارَتِنا في بلدتي ”جون”، أمثال شاعر لبنان الكبير سعيد عقل تُرَافقُهُ الأديبة اللّبنانية السيّدة ميّ المرّ التي وَثّقتْ بعض تلك الزِّيَارات ونشَرَتْها في صحيفة الجريدة عام 1970م، والشّاعر العراقي الكبير أحمد الصّافي النّجفي، وسَمَاحة الإمام السّيد مُوسَى الصَّدر، والزَّعيم الأستاذ كمال جنبلاط والنائب الأستاذ سالم عبد النور والمحامي والوزير السّابق الأستاذ الياس حنّا وغيرهم من الشّخصيّات والمَرْجعيّات الثّقافية والإجتماعيّة والرّسمية المَرْمُوقَة الذين عَرَفْتُهم عن قُرْبٍ، خِلال مَسيْرتي الأدبيّة .
إضَافة إلى كُلِّ ذلك، مَا جَمَعْتُهُ من رَصِيدي الأدبيّ من مُؤَلّفات وكِتابَات ودَواوين شِعر، وتَدْقِيق وتَحْقِيق عَدَدٍ كبيرٍ من المَوسُوعَات الأدبيّة والشِّعريّة المَطْبُوعةِ والمُوَثّقةِ لِصَالحِ إِحْدَى دُوْرِ النَّشْر الكبيرة، ومعرفتي الشَّخصيّة بالكِبَار من أهْلِ القَلَم الأُدباء والشُّعراء والنُّقّاد الذين كتَبُوا مُقَدّمَات دواوين شِعري وأسْهَمُوا في الكِتَابة النَّقديّة الجادّة عن أدبي وشِعري وتَابَعوا كتابَاتِي ونَشَاطاتِي الأدبيّة، إنْ مِنْ خلال معرفتي الشّخصيّة الوثِيقَة بِهِمْ، أو عن طريق وسائل التّواصُل الإجتماعي الحديثة، أَمْثَال الأديب والشّاعرالرّاحل الأستاذ جورج جرداق، الأديب والأستاذ الجامعي الدكتور سالم المعوش، الأديبة الشّاعرة بلقيس أبو خدود صيداوي، الأديب الرّاحل الأستاذ نجيب البعيني، الكاتب الأستاذ نزار سيف الدين، الكاتب الأستاذ نبيل جميل الحاج، الأستاذ الجامعي الراحل الصديق الدكتور فؤاد حيدر، الأستاذ الجامعي الدكتور محمد كمال غصن، الأديب والأستاذ الجامعي الدكتور نزار دندش، الأستاذة الجامعية الدكتورة دُرِّية فرحات، الشّاعرة الأستاذة عايدة قزحيا حرفوش، الأديبة الأستاذة ندى نعمه بجاني، الأستاذ الجامعي الدكتور علي عصام غصن، الأستاذ الجامعي الدكتور أسامة شمس الدين، الصديق الكاتب والباحث الأستاذ محمد إبراهيم شمس الدين، الصديق والأستاذ الجامعي الدكتور فؤاد رعد، الصديق الحاج عصام حسن غصن، الأديب الدكتور علي مجيد غصن، الصديق المربيّ الأستاذ علي الزّعرت،المربي الأستاذ محمد قاسم قاسم وغيرهم من أهل العلم والثقافة المرموقين الذين لهم في القلب كل احترام وتقدير (لبنان)، الدكتور والمؤرخ السفير محمد الخطابي (المغرب)، الأديبة والناقدة التونسية الأستاذة زهرة خصخوصي، الأديب والناقد السوري الأستاذ منذر غزالي ، والأديب السُّوداني الأستاذ عاصم عبد اللّطيف وغيرهم من المهتمين والمتابعين من خلال الصُّحف والمجلّات والمواقع الألكترونية ذات المِصْدَاقيّة الذين ساهموا في نَشْرِ شِعري وكتَاباتِي وبِعْضَ مُذَكَّراتِي وفي طَلِيْعَتِهم الصّديق الأديب والإعلامي الأستاذ جورج طرابلسي مؤسس موقع “ألف لام” الألكتروني وناشره بمشاركة الأديبة الرّاقية الأستاذة كلود أبو شقرا (لبنان)، ومَجْمَع شُعرَاء الفُصْحَى مُمَثلًا برئيسه الشّاعر الدكتور أمين المُومِني، وعميد المَجْمَع الأديب الأستاذ عصمت حمود (الأردن)، ومنتدى ثورة قلم لبناء إنسان أفضل، لرئيسه الشاعر الدكتور ناصر زين الدين، ومَوْقِع هيئة ثقافة إنسانيّة لرئيسه الأديب الدكتور مديح الصادق (كندا)، والمُنتديات الأدبيّة الرّائدة خاصّة اللّقاء الأدبيّ في إقْلِيْم الخَرُّوب ــ جبل لبنان، برئاسة الشّاعر الأستاذ يوسف شمس الدين ورِفَاقِهِ الأكارم، وإتحاد الكُتّاب اللّبنانيين والنّشاطات الثّقافية والأمسِيات الشّعرية ذَاتِ الصِّلةِ .
“هذه وصيتي”
بعد هذه الوَمَضَات التي تآلفتْ مع أسماء الكبار المتميّزين من أصدقائنا أهْلِ الثقافة والمعرفة والتواضع، كان لا بُدَّ من وَقْفَةِ تأمّل وتَفَكّر جديرة بتَقْييمِ المَوقِف ..، ولكنْ لمْ تَطُلْ هذه الوَقْفَة كثيرًا لأنّها كانتْ ولِيدَة الواقع والتّاريخ والحقيقة .. ثم عدْتُ بعدها إلى ما أطْلقتُ عليه آنفًا: ”موضوعٌ دقيقٌ وحسّاسٌ وعاطفي ووِجْداني لمْ نتطرّقْ إليه سابقًا”، وطرحته بِجديّة وحسْرة أيضًا مع صديقي الدكتور فؤاد حيدر رحمه الله . فقلتُ لَهُ: نَظَرًا لِموقِعكَ الإجتماعي والأكّاديمي والأدبي والعائلي، عَادةً ما كنتَ، إذا تُوفّي أحَدُ أقاربكَ أو أصدقائكَ أنْ تعتلي المِنبرَ لِتأْبينِه ورِثائه يَومَ الإحْتفاءِ بِذكْراه، وتُضْفي عليه من كلماتكَ البليغةِ، ومشاعركَ النّبيلة، ما يُؤكدُ قِيمة وعَظَمة الكلمة الصّادقة الخالدة في مَسيرتِنا الإنْسَانيّة ..
وهذا القول يَنسحِبُ أيضًا على نَفْسِي، حِينَ أعتلي المِنْبر لِرِثاءِ وتَأْبينِ أخٍ أو قريبٍ أو صديقٍ في ذكرى الإحْتفاء بتَأْبينِه، بمَا أكْرمَنِي الله به من عزيمة وقوّة في قول الكلمة الصادقة نثرًا وشِعرًا ونَظْمًا لقصائد الرّثاء التي كانتْ تتجاوزُ حدود المناسبة الخاصّة بالذِّكرى، لتتحدثَ عن الحياة والموت والخلود والسّيرة الذّاتية والإنسانية لصاحب الذكرى والدّعاء له بالرّحمات والصّلوات والدّعوات الصّالحات..
فقلت لصديقي الرّاحل الدكتور فؤاد حيدر رحمه الله، قولاً هو أكثر من سؤال أو مدخلٍ للحِوار!!، بَلْ هو استكمال لقضية تحدثنا عنها ومن خلالها عن الحالة الثقافية السائدة التي كانت تشغلُ بَالنَا والتي أصابها الكثير من الخلل وعدم الإنتظام في البرامج المرئية والمسموعة والندوات والنشاطات الثقافية، وخاصة ما كنا نقرؤه ونشاهده على صفحات التّواصُل الإجتماعي من تردٍ في استعمال اللّغة العربية وقواعدها وآدابها !!قلت له بعد ذلك، بكل تواضع وثقة بالحكمة والعلم، تبليغًا وتصديقًا لقوله سبحانه وتعالى: ”وفوق كل ذي علم عليم”، إِنَّهُ وبَعْدَ كُلِّ هذه السّيرة والمَسِيرة الطويلة المُشْرقةِ: أتُرَى عندما يَجِيءُ أجَلُ كُلٍّ مِنَّا، ونَنْتقلُ إلى جِوارِ ربِّنا ونلتحقُ بالرَّفيق الأعْلى بإذنه تعالى، هَلْ يُوجَدُ بينَ الأصدقاء والأقارب والمُحبّين، مَنْ سَوفَ يَقِفُ مواقفنا في اعتلاء المَنابرِ وقَوْلِ الكلمة البليغة الصّادقة التي تَتحدّثُ عن مَآثرِنا وسِيَرنا الذاتية والأدبية والعلمية التي نطمحُ أنْ تُرِيحَ أنفُسَنا وأهْلَنَا بَعْدَ مَوْتِنَا، وتُرضِي اللهَ عزَّ وجلَّ، قبْل كُلِّ شَيءٍ، وتكونُ مثلًا لِمَنْ يِجِيءُ بعدنا لِعِمَارةِ هذا الكون، بمنْطقِ المحبّة والصّدق والإيْثَار، وبِلُغةٍ عربيّة سليمةٍ وبليغةٍ تأخذُ بِمَجامعِ القلوبِ، رغْم قناعتي أنّ الحياة ستستمرُ بإذن الله، وأنّ المواهبَ التي زرعها اللهُ في قلوب ونفوس البَشَر ستبقى شعلةً مُضاءةً بنور العلم والثقافة والإيمان والوقوف على المنابر وفي المُنتديات، بقدرة الله تعالى على إكرامِ خَلْقه وإعْزَازِ مَكَانتِهم. وحيث إنّ قناعاتي ومُشاهداتي كانتْ جادّة ودقيقة في هذا المَنْحَى، إلّا أنِّي كنتُ أيضًا مُتَوَجِّسًا، بسبب الحالات المريرة والمؤلمة التي يَمُرُ بها الوطن والمواطن، ومُسْتشْعِرًا بأنّ الظروفَ ستبقى صَعبةً إلى أمَدٍ بعيدٍ، وتكاد لا تسمحُ للكثِيرينَ من الأصدقاء والمُحبّين والمُثقّفين الذين نَعْهدُهم ونَعْرِفُهم ونَتَشَاركُ مَعَهُمْ، من تحقيق هذه الأمْنيَات التي رَاوَدتْنا في اعتلاءِ المَنابرِ وقول الكلمات البليغة الصّادقة في حَقِّنَا، رغْم وجود النَّوايَا الحَسَنة والعَزيمَة الصّادقة والكَفَاءات العالية بينَ أصْدقائنَا المُحبّين الطَّيّبين . من أجْلِ ذلك، اقتَرحتُ على صديقي الدكتور فؤاد حيدر رحمه الله، بعد هذا الحِوار الشّاقّ والفريدِ أوالغريبِ، خاصّة الجانب المُتعلّق بالتّأبين والرِّثاء والعَزَاء، لِكُلٍّ مِنَّا بَعْدَ مَوْتِهِ، (وقد أحسَستُ أنّ صديقي الدكتور فؤاد قد بَاتَ قريبًا من قناعتي وفكْري وتصوّري وتمْهيدي لهذه المَسْألة قبْل أنْ أنْطِقَ بالسُّؤال)، فقلت له: إذا مَنحَكَ الله العُمْرَ المديدَ بإذنه تعالى، وجاء أجَلِي قبْل أجَلِكَ، سَأُوْصِيكَ بِعَمَلِ أمْرٍ جَليْلٍ وهَامٍّ، سأشْرحُهُ لكَ، وأُحَدِّدُهُ بِكُلِّ صِدْق وشَفافِية وصَفاءِ سَرِيْرَةٍ، وسَوفَ يُخفِّفُ عَنْكَ أيْضًا حِمْلَ عِبْءٍ ثَقيلٍ طَالَمَا دَاهَمَنَا وتَحَمَّلنَا ثِقْلَهُ .. وهو لا يَحْصلُ إلاّ لِمَنْ وَهَبَهُم اللهُ نِعْمَتَهُ، وكانُوا من الأتْقيَاء والأنْقيَاء والرَّبَانيّين ..
لقد دَخلتُ فَورًا وبِعَفْويّة إلى صُلْبِ المَوضُوعِ مُبَاشَرةً، وقُلْتُ لَهُ: إنَّ بَعْضَ حَالاتِ التَّوَهُّجِ الرُّوْحِي والفِكْرِي عِنْدَ الشَّاعرِ تَأْتِي في لَحَظَاتٍ خَاصَّة من الحُزْنِ والأَلَمِ، يُعبِّر فِيْهَا الشَّاعرُ عن نَفْسِهِ وذَاتِهِ بِكُلِّ صِدْقٍ وعَفْوِيّةٍ وشَفَافِيةٍ دَاخِلَ أعْمَاقِ عَالَمِهِ الخَاصِّ قبْل أيّ شَيءٍ آخَر، وإنْ كان مَوضُوعُ شِعْرِهِ المُتَرَابطِ والمُتَشابِكِ حتّى التَّلاحُم، يَخصُّ الآخَرِينَ ويَتَنَاولُهم، ويُعَبِّرُ الشَّاعرُ من خِلالِهمْ عنْ مَدَى ارْتِبَاطِه الرُّوْحِي والفِكْرِي بِهِمْ حتّى التَّمَاهِي والتَّوحُّدِ ..
وقلتُ له أيضًا: إنني لا أُخْفِيكَ سِرًّا إن اعْترَفتُ لَكَ بأنَّ هذه الحَالةَ بالذّات قد تَجَلّتْ عِنْدِي وانْعَكَسَتْ على شَغَافِ مَشَاعِرِي وأحَاسِيْسِي يَوْمَ وَفَاةِ صَديقِي الكَاتِب الأستاذ سالم شمس الدين، الذي كَانتْ تَرْبطُني به عِلَاقَةٌ رُوْحِيّة وفِكْرِيّة قَدِيمَة ومُتَجَدِّدَة، بعد غِيَابٍ طَويْلٍ في السَّفَر خَارِج الوَطَنِ، بِسِبَبِ الحَرْبِ اللّبنانيّة الدّامِيةِ والسَّيّئةِ الذِّكْر .لقد أشْعَلتْ يومئذٍ لحظاتُ الحُزنِ الأليمة بوفاة صديقي سالم شمس الدين، ثورةً في مَكَامنِ نفسي لا يُخَفّفُ من أثرِها أو يُخْمدُ جُذوتَها أو يُعبِّرُ عن غَضَبِها وقوة فِعْلِها ورَدَّة فِعْلِها، إلَّا الشِّعرُ والقَصِيدُ .. ولقد كانتْ قَصِيدتِي في رِثائِه وتَأْبينِه في الثّامن والعِشريْن من شهر حزيران 2008م، من على منبر حسينية بلدة جون، هِيَ الشّعلة أو النّور الذي كشفَ الحُجُبَ، واخْترقَ الحُدودَ والمُنْعطَفاتِ للوصُول إلى الرُّوح . هذه القصيدة تَحدّثتُ فيها عن نَفْسِي، وهِيَ بَعْضٌ من رُوحِي، وَهَبْتُهَا طَوْعًا إلى رُوحِ صديقي سالم شمس الدين رحمه الله، بِشَكْلِ (وَدِيْعَة)، وإنَّنِي اليومَ أسْتعيدُها من صُنْدوقِ الوَدَائعِ، وأَوَدُّ أنْ أُشَارِكَهُ فيها، فَهِيَ من أُصُولِي الثَّابتَةِ التي تَجْمعُ بين الأصْدقاءِ والأحِبَّاءِ والخِلَّانِ .. رَحِمَنَا اللهُ وغَفَرَ لِكُلِّ عَزِيْزٍ وحَبِيْبٍ وصَدِيقٍ .
رَجَعْتُ إلى صديقي الدكتور فؤاد حيدر رحمه الله، وقُلتُ لَهُ: إنَّ وَصِيَّتِي لَكَ هِيَ أنْ تَعْتَلِيَ المِنْبرَ وتَقْرَأَ هذه القصيدة المُشَار إليها بالذَّات ..، يَومَ ذِكْرَى تَأْبِيْنِي مع الرّحَماتِ والصّلواتِ والدّعواتِ الصّالحاتِ .. لأنَّ كُلَّ كَلمةٍ فيها أو صُورةٍ أو فِكْرَةٍ أو إِحْسَاسٍ هِيَ بِضْعَةٌ مِنِّي . ورَجَائِي مِنْكَ، مع الشُّكْرِ والإمْتِنانِ، أنْ تُظْهِرَ رَغْبَتِي ووَصِيَّتِي بِذلكَ المَوقِفِ وأنْ تَسْتَبْدِلَ كَلِمَةً واحِدةً فَقَطْ قَبْلَ نِهَايَةِ الأبْيَاتِ الأَخِيْرَةِ من القَصِيدةِ، فَتَقُول: (يَا رَاحِلاً بَدَلَ، يَا سَالِمًا .. سِرْ لِلْخُلودِ وقِفْ بِهِ،،، في زُمْرَةِ الشُّهَداءِ والنُّجَبَاءِ) . مع الدُّعَاءِ لِي ولِصَدِيقِي سالم شمس الدين، بِالرَّحْمةِ والمَغْفرةِ .. وهذه هِيَ قَصِيدتِي العَصْمَاء:
الْخُلُوْد مَنَـــــارَة الشُّهَـــــــدَاء
ذِكْرَاكَ أدْمَتْ دَمْعتــي ووَفَائـــي
كَيْفَ السُّلوُّ وفيْكَ كان عَزَائـــــي
كالْبَلْسَمِ الشَّافِــــي يَلُمُّ جِرَاحَـــــهُ
ويَضُمُّ مَكْلُومًـــــــــا مِنَ الأرْزَاءِ
كالْعِطْرِ كان حَديْثُــــهُ أرِجَ النَّدى
في وَاحَةٍ نَدَّتْ بِهَا صَحْرَائـــــــي
كالْبَدرِ كان هِلالُـــهُ مِثْلَ السُّهــــا
جَلَّتْ مَنَازِلُــــهُ بِوَهْجِ ضِيَـــــــاءِ
كالسَّابِحَاتِ الْغُرِّ فَوْقَ سَحَابَـــــةٍ
مَطَرَتْ بَشَــــــائِرُهُ على الْبَطْحَاءِ
فَاخْضَلَّ رَوْضُ الْفِكْرِ مِلْءَ بَيَانِهِ
وَهَلِ الْبَيَانُ سِوَى رُؤًى وَرُوَاءِ؟!
وَافْتَرَّ عَنْ سِحْرِ الْكَلامِ جَلالُــــهُ
وَطَوَتْ مَهَابَتُهُ، خُشُوْعَ رِثَـــائي
أَرْثِيْكَ أَمْ أُثْنِـــي عَلَيْكَ مَحَـــامِدًا
لا ضَيْرَ إنْ غَلَبَ الرِّثَــــاءَ ثَنَائي
مَا بُحْتُ بالسِّرِّ الْكَمِيْنِ وكَيْفَ لِي
أَلاَّ أَفِــــي بِمَآثِـــــــــرِ الْعُظَمَاءِ
نَفْسٌ على الْخُلُقِ الْكَرِيْــمِ تَآلَفَتْ
فَنَمَتْ تَدِبُّ على خُطَــى الإسْرَاءِ
فَتَوَاصَلَتْ بالْحَقِّ مِلْءَ جَنَانِهَـــــا
وتَوَحَّدَتْ بالْعِلْــــمِ والْعُلَمَــــــاءِ
وتَأَلَّقَتْ كَالنَّسْـــــرِ في فَلَكِ الذُّرَى
في رُوْحِ مُثْرٍ ذِي سَنًــــى وسَنَاءِ
آفَاقُــــــــهُ عِلْمٌ، وثَرْوَةُ فِكْــرِهِ
نُوْرٌ تَوَهَّجَ في دُجَـــــــى الظَّلْمَاءِ
هُوَ مِثْلَ نَجْمٍ في الْفَضَاءِ، تَنَاثَرَتْ
أنْوَارُهُ، كَالشُّهْبِ في الْعَلْيَــــــاءِ
هُنَــا نَثْرَةٌ مِنْ عِطْرِهِ، هُنَــا دُرَّةٌ
مِنْ سِحْرِ جَوْهَرِهِ وحُسْــــنِ أَدَاءِ
تَتَهَافَتُ الدُّنْيَــا لِفَيْءِ ظِلالِـــــهِ
كالْمُسْتَجِيْرِ بِهَا مِنَ الرَّمْضَـــــاءِ
وتُسَارِعُ الشَّكْوَى لِبُرْءِ جِرَاحِـــهِ
فَيُسِرُّ نَجْوَاهَـــــــا إلى الْبُرَحَـــاءِ
مَا كـــــان أعْظَمَــــهُ وأجْمَلَ وُدَّهُ
وَهَلِ الْوِدَادُ سِوَى عَطًـــا وسَخَاءِ
إنِّي عَرَفْتُ الْخَيْرَ عُرْفًــا طَيِّبًـــا
في المُقْلَتَيْنِ ورُوْحِـــهِ السَّمْحَـــاءِ
شُغِفَ الْفُؤَادُ بِحُبِّـــــهِ مُتَنَقِّـــــــلاً
مَا بَيْنَ إطْرَاءٍ وحُسْــــنِ ثَنَـــــاءِ
فَحَفِظْتُ وُدَّ الْحَافِظِيْـــــــنَ أُخُوَّةً
والصِّدْقُ فِعْلُ رِضًا وفِعْلُ إخَــاءِ
كَمْ مَرَّةٍ أكْرَمْتَنِــي وَحَفَوْتَ بِــي
يَا أكْرَمَ الْفُصَحَــــــاءِ والْبُلَغَـــاءِ
والْيَوْمَ جِئْتُ مُبَادِلاً، فَحَفَاوَتِـــي
دَمْعِي كَقَطْرِ الْمُزْنِ دَمْعَ وَفَـــاءِ
أتْرَعْتُـهُ كَأْسَ الْمَرَارَةِ وَالأسَــى
وَصَبَبْتُهُ كَرْهًــا على الْغَبْــــرَاءِ
وَالْكَأْسُ مُتْرَعَةٌ يَزِيْدُ جَمَالَهَــــا
عَرْفٌ مِنَ الأطْيَـــــابِ وَالأنْدَاءِ
يَا ”جُوْنُ” قَدْ أَزِفَ الزَّمَانُ هُنَيْهَةً
فَهَوَى الْعُقَــــــــابُ بِلَيْلَةٍ دَكْنَــــاءِ
فَاسْوَدَّ مِنْ هَوْلِ الْمُصَابِ غَمَامُهُ
حُزْنًـــا هَوَى بِالنَّجْمَةِ الزَّهْـــرَاءِ
تَتَوَسَّـــدُ الْمَثْوَى، تَضُمُّ تُرَابَــــهُ
حِيْنًــا، وحِيْنًــا عَتْبَةَ الشُّرَفَـــــاءِ
تَتَيَمَّمُ الْكَلِمَــــــــاتُ في أعْتَابِهَـــا
حُبًّــــا يُنَازِعُهَـــا بِقَطْرَةِ مَـــــــاءِ
كَقَصِيْدَةٍ للشِّعْــرِ يَنْسِـــج نَوْلُهَـــا
مِنْ كُلِّ قَافِيَـــةٍ بِهَــا عَصْمَـــــاءِ
ويَلُفُّهَــا مِثْلَ اللِّــــوَاءِ مُزَاحِمًـــا
زُهْرَ النُّجُومِ على ذُرَى الْجَوْزَاءِ
مِنْ كُلِّ ذِي عِلْمٍ وأَهْلِ فَصَاحَــةٍ
عَجَزَتْ مَفَاتِنُهَا على الْفُصَحَــــاءِ
فَاخْتَصَّهُ الله الْعَظِيْــــــمُ مَهَابَـــةً
في الْعِلْمِ مِنْ زَادٍ وحُسْنِ كِفَـــــاءِ
حتَّى تَسَاوَى بَيْنَ فَضْلَيْــهِ مَعًــــا
فَضْلِ اكْتِسَابٍ زَانَ فَضْلَ عَطَاءِ
وَجَلالَـــةُ الْعِلْــــمِ الْغَزِيْرِ مَنَارَةٌ
لا يَخْتَشِـي منْهــا سِوَى الْجُهَلاءِ
عمَّتْ وطَالَ ضِيَاؤُهَا حُجُبَ الْفَضَا
مَنْ ذَا يُزَاحِمُ دَوْحَـــةَ الشُّعَرَاءِ
أَوْ يَدَّعِي بِالْجَهْلِ أَنَّ كِتَابَةَ التَّـاــ
ــ رِيْخِ، حُكْمُ جَهَالَةِ الضُّعَفَاءِ؟!
قَدْ غَرَّ بَعْضَ النَّاسِ شَاحِبُ لَوْنِهَا
خُدِعُوا، فَلَوْنُ التِّبْرِ لَوْنُ ذُكَـــاءِ
عَمِيَتْ بِأَلْوَانِ الْحَيَاةِ وَزَهْوِهَـــــا
عَيْنٌ تَرَاءَتْ في رُؤًى عَمْيَـــــاءِ
أَقْفَلْتُ بَابَ الْحَادِثَاتِ وَرَائــــــي
وَطَوَيْتُ صَفْحَةَ غُرْبَتِي وَشَقَائي
وَنَثَرْتُ عِطْرَ الْوُدِّ مِثْلَ غَمَامَـةٍ
تَفْتَرُّ عَنْ ثَغْرِ النَّدى الْوَضَّـــــاءِ
وَبَسَطْتُ فَوْقَ الأفْقِ سِحْرَ بَيَانِهِ
كَخُيُوْطِ نُوْرِ الشَّمْسِ في الأفْيَاءِ
وَفَتَحْتُ أبْوَابَ الْبَلاغَةِ والنُّهَـــى
أَجْتَاحُ فيْهــــــــا أعْيُنَ الرُّقَبَـــاءِ
غَرُبَتْ على أفْلاكِهَا حُرَقُ الْجَوَى
فَتَمَثَّلَتْ جُرْحًــــا كَلَوْنِ مَسَائــي
يَا رَاحِلاً سِرْ لِلْخُلُودِ، وَقِفْ بِــهِ
في زُمْرَةِ الشُّهَدَاءِ وَالنُّجَبَـــــــاءِ
إنْ كُنْتَ تَسْمَعُنِــي، فَإنِّي حَافِظٌ
لِلعَهْدِ في قَلَمِـــــي مَعَ الأُمَنَــــاءِ
أَوْ كُنْتَ تَسْألُنِي بِرُوْحِكَ هَائِمًــا
عَنْ سِيْرَةِ الآبَـــاءِ والأبْنَــــــــاءِ
فَأَنَا على عَهْدِ الْوَفَـــاءِ مُوَاصِلٌ
لِلْوُدِّ في السَّـــرَّاءِ والضَّــــرَّاءِ
إنِّي عَرَفْتُكَ في الْكِفَاحِ مُجَاهِـدًا
مِنْ خِيْرَةِ الْقُرَنَاءِ والْخُلَصَــــاءِ
عِشْتَ الْحَيَاةَ مُعَانِدًا ومُصَابِـــرًا
والصَّبْرُ في الْبَلْوَى شِفًــــــا لِلدَّاءِ
حتَّى إذَا جَاءَ الْقَضَــــاءُ، غَمَرْتَهُ
بِيَدِ الرَّجَا، والْمَوْتُ بَعْضُ رَجَاءِ
فَضَمَمْتَهُ بِرِضَا الشَّهَادَةِ مُؤْمِنًــــا
إنَّ الْخُلُوْدَ مَنَـــــارَةُ الشُّهَـــــــدَاءِ
أمّا إذا حَانَ أجَلكَ قَبْلَ أجَلي بِمَا قدّر الله، فستكونُ كلماتُ الحُزنِ والرِّثاءِ فيكَ حَاضرةً كمَا تَلِيقُ بِكَ وبمَا تَسْتحقّ، حَميمَةً وصَادقةً وعَامرةً في الوِجْدانِ كمَوقِعِ القلبِ من الصّدر. وقد شاء اللهُ أنْ يكونَ أجَلُ صديقي الدكتور فؤاد حيدر رحمه الله، قَبْلَ أجَلي، وفي ظُروفٍ صَعْبةٍ، ووفاته بِسببِ جَائِحَة “كُورُونا” 2019.
لقد وَفَيْتُ بمَا تَحاورْنا بِشَأْنهِ، وكَتبْتُ في رِثائِه وتَأْبينِه مَا قَدَرْتُ أنْ اسْتَجْمعَهُ من كلماتٍ تُدْمِي القلبَ وتُثيرُ ألمَ الجَوارحِ في ظُروفٍ حَرِجةٍ من انتِشَارِ جَائحةِ كُورُونا في البِلادِ، التي كَادتْ تُعَطِّلُ القلبَ والحَواسّ والفِكْر والنَّظَر، وتُوقِفُ القَرِيحَةَ والذِّهْن المُتَوقّد . وحيث إنّ التّباعدَ وعَدَمَ الإخْتِلاط بين النّاس كانَ من الضَّروراتِ المُلِحّة، فقد التَجَأْتُ إلى صَفْحَتِي الخَاصّة بالتَّواصُل الإجتماعي واتّخذْتُها كَمِنْبرٍ لِتَأكيدِ مَحبّتي ووَفَائي لهذا الصّديقِ الحَبِيْبِ، وإليكم كلمتي:
تأبين د. فؤاد حيدر
تأبين الأخ الصّديق اد. فؤاد حيدر رحِمَهُ اللهُ وطيّبَ ثَرَاهُ .
قال الله تعالى:
“وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”آل عمران/145 .
وقال الرّسولُ الأكرم:”أُذْكروا محاسنَ موتاكُم”. وقال الصّادق الأمين (ص)، أيضًا:”إن تفكُّر ساعةٍ خيرٌ من عِبادةِ سَنَةٍ”
من هنا أدخلُ إلى رِحَابكَ، وأحضَرُ إلى فكرِكَ وأدبِكَ وحُسْنِ خُلُقِكَ أيّها الصديق الغائب الحاضر
رحِمكَ اللهُ يا أخي فؤاد .. عرَفتكَ عن قربٍ وعلى سجيّتك من عمْرك الزّاخرِ بالعطاء، حيث تجلّتْ وأشْرقَتْ محاسنُ كثيرة في صفحات حياتك، وفاضتْ مآثرُ عظيمة في سجلّ كتابك .. إنها محامدُ جمّة لا تَخْفَى على أصدقائك وأهلك ومحبّيك . نَسْتذكرها اليوم في كلماتٍ لعلّها تخفِّف عنّا ألم الفِراقِ المَريرِ على فَقْدِ عَزِيْزٍ، تؤلمنا فيها لحظاتُ الحُزنِ حينما نتحدّث عن سَجَايَاك، فيختلطُ معها الرِّثاءُ بالثّناء عليك، ويبقى الثّناءُ من مَزَايَاك ..
كَمْ من مرّة ٍوأنا أتحدّثُ إليكَ، كانتْ تأسِرني فيك بَشَاشةُ وجْهِك، كَمَا حُسْنُ أدبِك الجَمّ، وخُلُقُكَ الرّفيعُ في مخاطبة أصدقائك .. تلك السِّمة التي تنِمُّ عن نقَاء سَرِيْرَتِك وطُهْرِ إيمانِك واعتقادِك بأنّ من أهمِّ دلالاتِ الإيمانِ هي المعاملة الصادقةُ اللّينةُ، تلك المعاملة التي جمَعَتْ حوْلَكَ أصدقاءك، وغَرَفَتْ من مَعِينِ عِلْمِك وثقافتِك وأدبِك، ومن تَحَصُّنِك بدينِ الله وتَفَكُّرِك بآيَاتِه، حيثُ كنتَ الحَريصَ الدّائمَ على إفْشَاءِ المحبّةِ والسّلامِ بين الإخوة والأصدقاء، فسخَّرتَ العِلْمَ والمعرفةَ في سبيل إرْسَاء هذه المحبّة بين الناس، وخاصّة بين أهلِ بلدتِك”جون”
أخَاطِبُ روحَك أيها الصديقُ الغائبُ الحاضِرُ، فقد عرفْنَاك في حياتك الإجتماعيّة، وَدُوْدًا، مُحبًّا، صَادقًا، مُؤمِنًا .. كَمَا عرفناكَ في حياتك العلميّةِ، أستاذًا محاضرًا وكاتِبًا وأكَّاديمِيًّا متخصّصًا .. (https://shyamsteel.com/)
إلا أنّكَ وأنتَ الواثقُ، كنتَ تعرِفُ أنَّ للإنسان دورًا ورسالةً، وأنَّ خلودَه يكون من خلال عَملِهِ، تصديقًا لقول الرسول الأكرم:”إذا ماتَ الإنسانُ، إنقطعَ عَملُه، إلّا من ثلاثٍ: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به أو ولد صالح يدعو له”. لقد تركتَ بعد موتِك، عِلْمًا يُنْتَفعُ به، ولطَالما كان هذا العلمُ هدفًا ساميًا كنتَ تسعى إليه في حياتِك، وتركتَ أعمالَ خير، وسيرةً حسنةً، وذريّةً صالحةً من أهل العلم والأدب والتواضع، شاركتْ في نشأتهم وتربيتهم وتعليمهم الوالدة مريم، الأمّ الفاضلة والمُربيّة الرّاقية، ذات الخُلُق الرفيع وكرم العِشرة مع رفيق دربها الدكتور فؤاد، رحمها الله وأحسن مثواها في جنات النعيم .. هناك الكثيرُ من المآثر الجليلة ممّا يُقالُ فيكَ أيّها الرّاحل الكبير، ستتكشَّفُ لنا في قَادمِ الأيّامِ عندما نَعودُ إلى سِيْرتِك وسَجَايَاك .
رحِمكَ اللهُ أيّها الصديق الحميم دكتور فؤاد، وجَعلكَ مع الصّديقينَ والأبرارِ في فسيحِ جنّاتِه،
سنذكرُكَ دائمًا بكلِّ محبّةٍ واحترامٍ وتقديرٍ، وسَتبقَى روحُك الطّاهرةُ تُرفرفُ كحَمامةِ سلامٍ، بين أصدقائك وأهلِك ومحبِّيك، فسِرْ بإذن الله، على طريقكَ إلى الخُلودِ .
بَعْدَ فَقْدِ وفِرَاقِ صديقي الحبيب الدكتور فؤاد رحمه الله، كان لا بدَّ، ولِتَحْقيقِ وصِيّتي في هذا المَوضُوع الذي طَرَحْتُهُ آنفًا، أنْ أبْحَثَ جَاهِدًا قَبْلَ حُلُوْلِ الأَجَلِ المَحْتومِ، الذي هو في عِلْمِ الله تعالى، عَنْ صَديقٍ أدَيبٍ كَريمٍ ذِي حِكْمَةٍ واقْتِدارٍ مِنْ أَهْلِ الوفَاء بِالوَعْدِ، أُحِبُّهُ ويُحِبُّنِي لِإتْمَامِ المُهِمّةِ وتَحْقيقِ وَصِيّتِي، يكونُ خَطِيبًا فَصِيْحًا جَدِيْرًا باعْتِلاءِ المَنَابرِ، لِقِرَاءَةِ،”قَصِيدتِي العَصْمَاء”، المُشَارُ إليها والتي تُشْبِهُنِي تَمَامًا وتُنَادِينِي من عَالَمِ الغَيْبِ في يَوْمِ ذِكْرَى تَأْبِيْنِي، مع أطْيبِ الرّحَمَاتِ والصّلواتِ والدَّعَواتِ الصَّالحَاتِ ..
لقد وَفّقَنِي اللهُ سُبحَانَهُ، واخْتَرْتُ هذا الصّديق الكَرِيمِ، وأبْلَغْتُهُ رَغْبَتي ووَصِيّتي، وقد عَاهَدَنِي على الوفَاءِ بالعَهْدَ بإذنِ الله تعالى، وعَيْنُهُ تَدْمَعُ وقَلْبُهُ يَحْزَنُ ويَدْعُو لِي بالخَيْرِالعَمِيمِ، والعُمْرِ المَدِيدِ .. وحيث إنّ اللهَ جَلَّ شَأْنُهُ قد هَدَانِي وأَكْرَمَنِي في الوُصُولِ إلى مَطْلَبِي، فَإِنَّنِي أنْطِقُ بِاسْمِ هذا الصّديق العَزيْزِ الأستاذ الجامعي الدكتور محمد كمال غصن، لِحَمْلِ الأَمَانَةِ، حَفِظَهُ اللهُ .
والسّلامُ عَليْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكاتُهُ .
***
*بلدة جون في 20/ 2/ 2023