جماليّات المُغامرة الروائيّة لدى غادة السمان… تجربة إبداعية لم تعرف التكرار 

Views: 26

وفيق غريزي

الأديبة – الشاعرة غادة السمان التي تركت بصماتها المشعة على الأدب الروائي، اضافة الى اغنائه بأعمال روائية وقصصية راقية، احتلت مساحة كبيرة من اهتمامات الباحثين والدارسين الذين وضعوا دراسات تتصل بجوانب متعددة من ابداعاتها، وآخر ما كتب عنها، كتاب “جماليات المغامرة الروائية لدى غادة السمان” للدكتور ة ماجدة حمود، حيث تناولت بالتأمل والتحليل، والدرس والمقارنة، روايات غادة السمان الخمس بدءًا من “بيروت ٧٥” وانتهاء بـ “سهرة تنكرية للموتى”، مشددة على وجود مشروع روائي لدى غادة، تحاول العمل عليه والتفرّغ له في جميع اعمالها الروائية، وساعية الى تطوير المشروع باستمرار واغنائه شكلا ومضمونًا، يمكن ايجازه لأنه تصوير ومعايشة الانسان العربي الذي قهرته الحروب وشوهته القيم الزائفة وهذا القمع، ومن ثم تجسيد خصوصية هذه المعاناة عبر بناء مبتكر، والقاء الضوء عبر هذا الكتاب على مغامرة غادة السمان الروائية جاء باعتبارها مشروعا فنيا مهمًا لكاتبة منحت الابداع حياتها واخلصت العطاء لفنها، لذلك حققت تطورًا في جماليات رواياتها، ولم تعرف تجربتها الابداعية التكرار، حسب قول المؤلفة.

 

المغامرة الأولى 

تؤكد المؤلفة ماجدة حمود أن غادة السمان تقدم لنا منذ مغامرتها الأولى ” بيروت ٧٥ ” رواية ناضجة على المستوى الفني، وقد اختارت فضاء لروايتها مدينة احبتها رغم ما فيها من الغام واشواك، فقد كانت موئلا لأحلامها، استطاعت أن تنسج فيها آمالها، لهذا جعلتها ملاذا لأحلامها واحلام شخصياتها، ولهذا تزوجت من الناشر اللبناني البيروتي بشير الداعوق، مؤسس دار الطليعة في بيروت.

تبدو شخصيات الرواية ملتحمة بفضائها المكاني مدفوعة بتشوهاته، ربما لأن كلا منها مشغول بنفسه واحلامه، ويبدو أن احلام الثراء قد دمّرت كل امكان للتواصل الإنساني، ومن مظاهر بطلة الرواية (ياسمينة) القادمة من دمشق الى بيروت، الى تلك المدينة، مدينة الحرية والحب، حيث تنسى احلامها الأدبية في مجال الشعر، وتتفرغ للحب الذي تعيشه في يخت مع “نمر”. فقد ظنت أنها عبر هذه العلاقة ستحقق ما حلمت به (الحب، الثراء، الزواج)، لكنها تكتشف أنها اخطأت الطريق، حيث جعلت جسدها معبرًا لأحلامها، وفي هذا المجال تقول المؤلفة : 

“إن ياسمينة تعلمت في بيروت أن الحياة محكومة بالارقام لا بالعواطف، وأنها اخطأت الطريق حين تسرّعت في بذل عواطفها وجسدها، كي تستمر علاقتها مع الشاب الغني نمر، الذي ابرم صفقة زواج مع ابنة الثري فاضل السلموني”. 

وتعمّدت غادة السمان عبر بطلتها ياسمينة ان تقدم لنا نموذجا خاطئا لتحرر المرأة، لهذا كان محكوما بالموت، ربما لأن الشخصية كانت محكومة بالضعف، حتى بدت متماهية مع كل ما يمثل الضعف في الطبيعة. وعلى خط مواز يأتي “فرح”، الذي لم تمنح غادة شخصيته أي تميّز عن الفتاة ياسمينة، فكلاهما يهجس بالثراء السريع بعد أن مل العمل والحياة في دمشق، حتى انهما يستخدمان لغة واحدة، وكلاهما يبيع نفسه ويسمح بانتهاك انسانيته من اجل المال.

 

جماليات اللغة 

إن العيش في مدينة مجنونة يتطلب لغة خاصة، تجسِّد هذا الجنون، كما تجسِّد مدى الاستهتار بالقيم الإنسانية، لذلك لا مكان فيها للروح أو حتى للتذكارات والأشياء الحميمة. وترى المؤلفة أن لغة التقابل سيطرت على معظم رواية “بيروت ٧٥” التي توحي بتناقض عالمي الفقر المدقع والثراء الفاحش. (https://eluminoustechnologies.com/) وثمة واقع لا معقول يعيشه الإنسان العربي لا تجد غادة السمان لتجسيده سوى استخدام اللغة الساخرة التي تعتمد التقابل الباعث على الابتسام المرير: كما تنوّعت اللغة السردية بين لغة الواقع والكابوس، حتى وجدناهما يمتزجان بطريقة مبدعة، لأن احدهما (الواقع) يستدعي الآخر (الكابوس). تقول المؤلفة : “اضفت المشاهد الحوارية، على قلّتها، حيوية على الفضاء الروائي”، وتشير الى أن ما يؤخذ على غادة ولغة كتابتها، هو ذلك الاستعراض اللغوي، بصوت الراوية، لكثير من المفردات الشعبية التي جاءت احيانًا دونما مبرر فني، وخاصة في روايتها “ليلة المليار”. وفي رواية “سهرة تنكرية للموتى” نجد اللغة تقطر وجعا، فقد تحوّل الحلم الذي يشكّل طوق نجاة للإنسان عادة الى طوق قهر. ونعايش في هذه الرواية لغة حسّاسة تنبض بالحيوية، استطاعت أن تسرد الأزمة الداخلية للشخصية بطريقة يشعر فيها المتلقي بأنه امام ازمته هو، “ان التناوب بين صيغة الجمع وصيغة المتكلم المفرد، اضفى حيوية على الخطاب، واسهم في بث روح المشاركة الوجدانية بين المتلقي والشخصية”. 

 

جدلية العلاقة بين الرجل والمرأة 

في رواية “كوابيس بيروت” تتجاوز المرأة الجديدة لغة الضعف الانثوي لتعلن رغبتها في المساواة، لذلك ترفض أن تجد صدر الرجل سياجًا يحميها من الخوف، لأن مشاعر الخوف لا تلازم المرأة دون الرجل، على نقيض ما يشاع من أن هذه المشاعر تشكِّل هوّية المرأة، وحسب اعتقاد المؤلفة فان “الوسيلة الوحيدة لمقاومة مشاعر الخوف التي تصيب الإنسان هو تأسيس علاقة سوية بين المرأة والرجل تقوم على الحب والاحترام، ففي مثل هذه العلاقة، يتجاوز كل من المرأة والرجل ضعفهما، فتخف حدة الخوف وتقوى ارادة الإنسان في مواجهة الخطر”، وقد جسّدت غادة السمّان مشهد توحد المرأة بالرجل عبر الحب بأبسط صورة وارق حركة، الأيدي المتعانقة.

 وتؤكد المؤلفة أن غادة السمّان استطاعت عبر اللغة الساخرة فضح بؤس العلاقة بين الرجل والمرأة، وانحطاط ما يدعى حبا، بعدما قُتلت معاني الحب النبيلة وتحوّله سلعة، وبعدما انتزع من الحب بعده الانساني، فباعت المرأة فيه شبابها مقابل مال يدفعه الرجل. ومثل هذه العلاقة تدوس على امور اصيلة تشكّل وجدان الإنسان، ومن بينها مشاعر الأمومة، فلا تجد تصريفا لها إلا عبر تبني حيوان يعوّض بطلة الرواية عن طفل. وفي روايتها “الرواية المستحيلة” نرى أن تعبير المرأة عن ذاتها عبر الأدب ما زال محفوفا بالخطر، بل كثيرا ما توجّه اصابع الاتهام نحوها حين تجسِّد في هذه الرواية شخصية نسوية تتمرد على الاطر التقليدية. أما ما يسوغ رغبة بطلة “الرواية المستحيلة” في التفوق وتأكيد ذاتها، مشاعر العداء التي احاطها بها اطفال العائلة الذكور: “فهم يرفضون مشاركتها في العابهم، ويحاولون التسلط عليها ومنعها مما تحب”. ويمكن للمتأمل في أدب غادة السمّان أن يتوصّل إلى أنها ليست من تلك الكاتبات الحاقدات على الرجل، اذ رغم معاناة بطلتها “زين” مشاعر العداء التي قابلها بها ذكور العيلة، فإنها لم تقف موقفًا عدائيًا من الرجل، هكذا تقول المؤلفة ماجدة حمود.

وفي رواية “سهرة تنكرية للموتى” تنسج غادة السمان صورة جديدة للعلاقة بين الرجل والمرأة، ترتكز على الحوار والمعايشة اليومية التي تقرب الشرق والغرب. 

 

النزعة التمرديّة لدى المرأة 

في رواية “بيروت ٧٥” نرى أن من مظاهر ضياع الشخصية “ياسمينة” في مدينة الحرية والحب، قدمتها لنا كنموذج خاطىء لتحرر المرأة، لهذا كان هذا التحرر محكوما بالموت. إن تمردّها يجسّد تمرّد المرأة العربية، التي تطمح الى تغيير واقعها البائس، لكنه كان تمردًا محفوفًا بالأخطار، لأنه بدا تمردًا غير مسؤول يستهدف المتعة الجسدية بعيدًا عن ممارسة الوعي الذي يؤدي إلى تطور حقيقي ينهض بحياتها بعيدًا عن المظاهر الجوفاء.

وفي بعض الأحيان، نجد في روايات غادة صوت المرأة يبدو مهيمنًا على صوت الرجل، ورغم ادعائها الندي ورغبتها في اقامة علاقة تكاملية بين الرجل والمرأة، نلاحظ في هذه الأحيان ما يتنافى مع طموحاتها. وتقول المؤلفة: “ولكي تسجّل غادة أنها رغم ابرازها لتفوق المرأة على الرجل في بعض المواقف الصعبة، إلا أنها تجعلها امرأة خارقة القدرات واسطورية الصفات، لا تعرف الوهن الانساني “. 

إن الأديبة غادة السمان بذلت جهدًا مدى سنين طويلة، كانت حصيلتها نحوًا من اربعين كتابا، راوحت بين الشعر والقصص القصيرة والروايات والنقد وأدب الرحلات والمقابلات الحوارية، ولهذا استحقت عن جدارة هذا الكم الهائل من الدراسات والابحاث التي تناولت نتاجها الابداعي….

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *