الجسد في الثّقافة العربيّة

Views: 470

سهير شعلان أبو زيد

 

*الجسد في كتابات الشاعرين أدونيس ومحمد بنّيس (مقتطف من رسالة ماستر بعنوان الفينومينولوجيا  في ثنائيّة الروح والجسد – أدونيس وبنّيس نموذجان)

 

-1- الجسد والمقدّس

يثير مفهوم الجسد في الكثير من الحضارات الإنسانيّة الكثيرمن الأسئلة والإشكاليّات التي يمكن أن تعنى بقراءة الواقع الاجتماعيّ، والسّياسيّ، والاقتصاديّ، والثقافيّ لتلك الحضارات. فلطاما كان “الجسد معطى اجتماعيًّا، ومكان استثمار، سواء أكان جسد الطّبيعة، أو جسد المجتمع، أو جسد الفرد (…) هذا الجسد، الذّي وقعت محاصرته، وحسبان حركته في المكان والزّمان، بخطوط الطّول والعرض، والاستدارة والوزن والكتلة، بغية مراقبته وإخضاعه، إنّه موقع المعرفة والرّغبة والمصلحة.  فلا بدّ أن يكون محلّ نزاع وصراع.”

وفي الثّقافة العربيّةّ، تعدّ موضوعة الجسد، من أكثر الموضوعات شساعةً والتباسًا. بحيث يصعب على الباحث تحديد معنىً واضحًا لمفهوم الجسد، باستثناء ما تتداوله المجتمعات، من تراث شعوبها وعقائدهم وتقاليدهم ومَجريات حياتهم. لذلك يتطلّب البحث في هذا المفهوم، نوعًا من التحرّر والمحاورة الفكريّة، لطرح تساؤلات وإشكالياّت ملحّة، يمكن من خلالها، الوصول إلى عمق الذّهنيّة العربيّة، والكشف عن طابعها الملتبس والمزواج، بين الفقه والفتنة، بين الحلال والحرام، بين المقدّس والمدنّس، في ما يتعلّق بالجسد العربيّ والحقوق المرتبطة به، والواجبات المفروضة عليه.

 

ثمّة تشابك معقّد بين الدّينيّ والسّياسيّ والشّعريّ، في الثّقافة العربيّة. تشابك شكّل إرباكًا في علاقة العربيّ المسلم مع ذاته، ومع جماعته، والآخر، واللّغة، والتّراث، والجسد، والمقدّس، والمدنّس… وبدهيّ أن ينعكس هذا التّداخل (المقصود) بين الدّيني والسّياسيّ، على أشكال حياة الفرد والجماعة ومَجرياتها، مخلّفًا تداعيات مأسويّة على الواقع، كالتّكفير، والتّحريم، والتجريم، والنّفي، والعنف، والتّعذيب، والقتل… ونحسب أنّ الكتابة التّقليديّة في مشروعها الشّعريّ، حرصت على وصف الواقع وإشكاليّاته بطريقة وجدانيّة، وسعت جاهدة في نقل صوره بدقّة ووضوح. كما انشغلت القراءة المرافقة للكتابة التّقليديّة، بالعاطفة والحنين. فانهمكت برصد صورالبيان والبديع، والنّقل بأمانة للواقع، ثمّ إيداعه للشّعر. وإذا نظرنا إلى هذا النّوع من الارتباط (العاطفيّ) بين القراءة والكتابة، سنجد أنّ قراءة من هذا النّوع،  تكون بالضّرورة بعيدة عن وعي أزماتها الوجوديّة، ومحصورة في زمنها الدّائريّ المنغلق. وبالتّالي، لا يكون خطابها، إلّا تردّدًا لصدى أصوات وموضوعات مستهلكة ومكرّرة. على عكس الكتابة، والقراءة الحديثة، اللّتين كرّستا أهدافهما، لفتح مختلف الدّوائر، وراهنتا على الانخراط في زمن الاحتمالات، والشّكّ، والنّقد، والتّحقيق في ما كُتب، وفي ما لم يفكّر به.

من هذا المنطلق، انشغلت كتابات الشّاعرين المعاصرين، أدونيس، ومحمد بنّيس، في معركة مع النّموذج. وكانت حركتهما مغايرة لهذا النّموذج. حيث نقلا الشّعر من حيّز الوصف والتّعبير الحنينيّ، إلى مشرحة النّقد وقول المأسويّ، بوعي جديد وخطاب جديد، كشف عن أزمة الثّقافة العربيّة وإخفاقاتها النّهضويّة. هو الوعي الّذي عُرف بـ “الوعي الشّقيّ” في إدراك الواقع وتعقيداته، بالإنصات إلى الماضي، وتأمّل التّاريخ، والتّحريض على إعادة قراءة النّصوص المهيمنة، على الرّؤية، والفكر، والجسد، والزّمن، والحياة، والوجود.

كما أسهم تقاطع كتاباتهما، بين الإبداع والنّقد، إلى الكشف بما يعنيه الكشف من حفر في ما طمرته الأيدولوجيّات بأنواعها المختلفة، وفي ما أخفته سلطة المقدّسات، بحجّة المحرّمات، وذريعة المسلّمات.   

فما المدخل الذي شرعت بدخوله كتاباتهما الحديثة، للتّحقيق في سلطة المكبوت، والحفر في تاريخ المهمّش والممنوع؟ وما قصديّة الشّاعرين من الكشف والحفر؟ وهل يمكن، أن يخفّف الإصغاء إلى الجسد، من اغتراب الذّات إزاء ذاتها وهوّيّتها وثقافتها وتراثها؟

 

تتجلّى صورة الجسد في التّصوّر الإسلاميّ، في الكثير من الصّور البلاغيّة في النّصّ القرآنيّ. وترتبط على اختلافها، بين المقدّس واليوميّ، ارتباطًا وثيقًا لا انفكاك منه. بحيث “لا يمكن الحديث عن الجسد الإسلاميّ من دون ربطه بالصّورة القدسيّة التي أضفاها عليه الإسلام عبر تقنين حركاته وسكناته، ومنحها دلالات علويّة تُدخلها مباشرة في علاقة مع النّظام الإلهيّ للكون”.  ويتفاعل هذا التّداخل بين الدّينيّ والدّنيويّ في رحاب قدسيّة واسعة، كونه امتدادًا لمقصديّةثوابيّة، يحصل عليها المسلم في الحياة الآخرة. “فلا يتمّ الدّين إلا بالدّنيا ولا يمكن بلوغ النّعيم في الآخرة إلّا من خلال الخضوع للاختبار في العالم الدّنيويّ”.  وفي هذا ما يفسّر كيف أنّ الحياة المعيشة برمّتها عند العربيّ المسلم، وُجدت من أجل حياة الآخرة. وهو ما يسوّغ قولة: “إنّ الإسلام دين ودنيا”، تأكيدًا على الصّيغة الجامعة للمنظومة الاجتماعيّة، ولمختلف مستويات الحياة اليوميّة للمسلم، من ناحية الواجبات المفروضة عليه، واللّحظات الذّاتيّة الحميميّة، التي تصبّ جميعها في جهة متحكّمة بالجسد، خصوصًا في رغباته وشهواته، على أنّها “أكثر الوظائف تجذّرًا في الوعي واللاوعي البشريّ”.

وتتجلّى صورة المقدّس في التّصوّر الإسلاميّ من خلال تصوير عمليّة المباضعة والنّكاح كما جاءت في مقاربة “مرسيا إلياد”  الّتي عرضها الباحث والمفكّر “فريد الزّاهي” في كتابه “الجسد والصّورة والمقدّس في الإسلام”، للآية الكريمة، “نساؤكم حرث لكم. فآتوا حرثكم أنّى شئتم”.  وهي صورة تبدو للوهلة الأولى بدهيّة ومألوفة، لكنّ صورها البلاغيّة، تبيّن لنا مدى إيغالها في المقدّس. “إن تشبيه الذّكوريّ بالمحراث وتشبيه الأنثويّ بالأرض يخيّل في المتخيّل الكونيّ إلى خلق تعاضد صوفيّ بين المرأة والأرض. ويجعل الرّموز المتّصلة بالمرأة رموزًا ليليّة لها صفة العمق والغور والظّلمة. وتلك المرتبطة بالرّجل رموزًا نهاريّة عموديّة ومنتصبة. من ناحية أخرى، يؤكّد هذا الترابط الرمزيّ أنّ لخصوبة المرأة نموذجًا كونيًّا يتمثّل في الأرض الأم المنجبة والكونية” تعكس هذه الصّورة البلاغيّة، إرادة الخالق لخصوبة الحياة، وتَجدّدها، وديمومتها، من خلال الدّلالات التّأويليّة، للعلاقة الجنسيّة بين الرّجل والمرأة. وفي هذا، إشارة إلى البعد القدسيّ في العلاقة الحميميّة بين الرّجل والمرأة. كما سجّلت السّنّة النّبويّة، بوضوح أنّ “النّكاح مرغوب به، فهو لذّة وواجب. حتى الزّهد لا يمنع المراد بحسب قول القضاة.

 

من هنا حثّ الإسلام على الارتباط الشرعيّ باعتباره من سنن الأنبياء، وطقس عبادي تتحقّق فيه الجنسانيّة البهيجة بالحبّ وغمرة الفرح كطريقة لشكر الله”.  والجدير بالذّكر، أنّ هذا الوجه الجنسانيّ، لم يكن جديدًا في الحياة العربيّة، بل نجده مقترنًا بقوّة، في الممارسة اليوميّة والطقوس العشقيّة، المتعارف عليها بين القبائل قبل ظهور الإسلام. وما كان دور الإسلام، إلّا التّنظيم، والتّشريع لهذا الجانب، بعد أن تنبّه لخطورة الجسد وفوضاه الجنسيّة في تلك المجتمعات. فعمل على ضبط أهوائه، وتقنين حركاته، ونسّق بين نزوعه الشّهوانيّ وبعده الرّوحيّ المتعفّف.

وتوضّح دراسة أدونيس، في كتابه، “مقدّمة في الشّعر العربيّ”، هذا الجانب المتعلّق بتاريخنيّة الجسد العربيّ. فيبيّن كيف أنّ مفهوم الجسد في المجتمع الجاهليّ، كان مبنيًّا على أبعاد نفسيّة متعلّقة بالمكان المندثر، وطبيعته الصّحراويّة، وأبعاد وجوديّة، متأثّرة بالفروسيّة المبطّنة بمرارة الموت، وأبعاد ذهنيّة ناتجة عن التجربة الحسّيّة التي تؤثّر في الرّوح والجسد معًا. ولفت، كيف أنّ  العربيّ قبل الإسلام، حاول أن يتغلّب على هذه الكآبة الوجوديّة، فجعل “عيده الأوّل، هو عيد الجسد حيث تتوحّد الشّهوة واللّذة والنّشوة”.  وكيف أنّ الحبّ عند الجاهليّ، قد انطلق من الجسد، وما توفّره اللذّة الجنسيّة للشّعور بالسّيطرة والتّملّك من خلال السّيطرة على جسد المرأة. ويتبدّى التّرابط بين المرأة والأرض، في نظرة المجتمع العربيّ قبل الإسلام، من ناحية الخصب والاحتواء والحضن والولادة. ووجدوا “أنّ لها قوّة هائلة يغرق فيها الذّكر. وكانت تشكّل رمزًا للخصوبة والجمال كلّه والطمأنينة، ورمزَ كلِّ ما يبعث ويخلق وما يعلو ويتسامى. وكان العربيّ يشعر إذ يسيطر على المرأة، أنه يسيطر على الطبيعة نفسها (…) ولعلّ البكارة تأخذ معناها السّحري من هذا الشعور: فإذا يفضّ الجاهليّ العذراء يُحدث في جسدها تغييرًا أساسيًّا يدفعه إلى الظّنّ أنّه، وهو مخلوق المرأة، قد خلقها بدوره”.

 

-2- الجسد والمدنّس

من جهة ثانيّة، يترصّد الجسد سلسلة طويلة من العقوبات في حال إعراضه عن حكم الشّرع والدّين. هو ذاته الشّرع الّذي حلّل الجنسانيّة البهيجة، قد اتّخذ العنف من المقدّس حجابًا، ووسيلة للتّمويه والإخفاء. ولا تدلّ مقولتَي: المقدَّس والمدنَّس، أو”الطّاهر والنّجس، على تعارض خلقيّ في الأصل، بل على قطبيّة دينيّة. إنّهما تمارسان في العالم المقدّس، دورًا شبيهًا بذلك الّذي يمارسه مفهوم الخير والشّر في المجال الدنيويّ”.  وفي هذا ما يشير، إلى أنّ الجسد العربيّ يتقاطبه محوران متعارضان: محور دينيّ عموديّ، ومحور دنيويّ، أفقيّ. الأوّل يفرض عليه ترك العالم السّفليّ، للارتقاء بالرّوح إلى القداسة في العالم العلويّ، والثّانيّ، يحلّل له الانخراط في ماديّات الجسد، وغرائزه، ورغباته. وقد أدى هذا التّقاطب في ثنائيّة “الرّوح والجسد”، إلى نشوء التباس، في تحديد مفهوم “الجسد والوجود”.

إلّا أنّ الثّقافة الإسلاميّة، ترمي من خلال هذا الرّبط، بين الدّينيّ والدّنيويّ، بين الرّوحانيّ، والجسديّ، إلى”خلق جسد نموذجيّ، محدّد المعالم، مقنّن الرّغبات، مؤطّر بطابع قدسيّ، على هيئة الجسد الأنموذجيّ النّبويّ فلا يخرج على أقانيم التّصوّر الإسلاميّ للوجود،والخلق، والحياة”.  ولهذا عُدّ الجسد في التّصوّر الإسلاميّ، معبرًا للوظائف الدّينيّة، (الصّلاة، الطهارة، الصيام…)، والدّنيويّة، (النجاسة، المادّيات، الملذّات…) في آن معًا.

 

لكنّ الخطر على المقدّس، نابع من هذا التّصور ذاته. فالجسد بطبيعته الجامحة، وسيرورته المتغيّرة، يشكّل مصدر قلق دائم على السّلطة المتحكّمة به وبجسد المجتمع. فهي المسؤولة عن مصالحه الكبرى، المعروفة بالضّروريات الخمس: الدّين، النّفس، النّسل، الحال العقل. وفي حال خرج الفرد عن هذا السّياق، وقعت الجماعة في خطر التّفكّك، واختلّ النّظام فيها. وهو ما يتوجّب تصحيحه بإنزال العقاب على الجسد المرتدّ. ولعلّ نظرة سريعة على طرق التّعذيب، عقابًا للجسد، كفيلة بأن تكشف شدّة تعلّق المخيال الجمعيّ بالجسد، وهاجسه في حمايته وامتلاكه، “رمزًا وجوديًّا، له امتداده التّاريخي، وبعده الجغرافيّ الّذي تسكن فيه الرّوح” . فالسّارق تُقطع يده من الرّسغ، والزّاني، يُرجم بالحجارة حتى الموت، والعاصي، يُجلد بالسّوط. وبهذا، يكون للعقاب هيبة، يكشف فيه الجسد نفسه أمام الحكم اللّاحق به، تطهيرًا لآثامه. وهي مرحلة أولى، من مرحلة الإيمان الّتي تستقيم بها الحياة، وخَلاصًا من العقاب في الدّار الآخرة. وممّا لا شكّ فيه، أنّ هذا العقاب الإلحاقيّ للجسد، له تبريراته في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، ومفاهيمها الأساسيّة الّتي تحكّمت بالجسد، روحًا، وفكرًا، وممارسة، ودينًا، وثقافة… لكنّه في الوقت عينه، يُفسّر كيف أنّ الجسد “ظلّ في حدود معيّنة، مكبوت المقدّس والمدنّس في الثّقافة العربيّة”.

وإذا كنّا قد انطلقنا من هذه الخلفيّة التّاريخيّة، والدّينيّة، والاجتماعيّة، والنّفسيّة، لمعرفة موقع الجسد من المقدّس والمدنّس في الثقافة العربيّة، فإننّا سنحاول أن نتبيّن من خلال تاريخنيّة الثّنائيّة الوجوديّة، الغربة التي تعيشها الذّات بسبب تذبذب العلاقة بين التّاريخ والرّاهن، بين المحرّم والمقدّس، بين الرّوح والجسد، في الدّائرة التي تمّ بموجبها تحديد وإقرار الجسد وتنظيمهورسم حدود تخومه، والتي دعت إلى التّخلّي عن انتمائه “كملكيّه خاصّة”،  وسلّمته إلى النّظام الفكريّ، والدّينيّ، والسّياسيّ، والاجتماعيّ.

فكيف تجلّت تجربة الوجود في ظلّ ثنائيّة الرّوح والجسد؟ وكيف تبدّت تحوّلاتها التّاريخيّة؟ وإلى أيّ مدى أثّرت في غياب وعي الذّات لذّاتها؟  

 

الحواشي

1-الخياري، حياة، ابراخليا الجسد، الجسد في الثقافة والفنون، ندوة علمية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، قابس، تونس،9/11/2016.

2- الزاّهي، فريد، الجسد الصورة والمقدس في الإسلام، دار أفريقيا الشرق، بيروت، 1999، ط- 1، ص- 56.

3- أدونيس، الثابت والمتحول، ج-1، بحث في الإبداع والاتباع عند العرب، دار الساقي، بيروت.، 2006، ط9، ص-15.

4-الجسد والصورة والمقدس في الإسلام، مرجع سابق، ص- 57.

5– Eliade, traited’histoire des religions, P.B.Payot, Paris, p.223

6- سورة البقرة،الآية رقم (223).

7- الجسد والصورة والمقدس في الإسلام. مرجع سابق. ص- 57.

8- وشاشا، عبد الكريم، قراءة مقارنة في كتاب “الجنسانيّة في الإسلام” عبد الوهاب بوحديبة، الحوار المتمدن، عالم المطبوعات. 2007.

9- أدونيس، مقدّمة في الشعر العربي، مصدر سابق. ص-20.

10- أدونيس، مقدمة في الشعر العربي،  مصدرسابقص- 20.

11- الإنسان والمقدّس، ترجمة: سميرة ريشا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط-1، 2010، ص-54.

12- الزاهي، فريد، الجسد، الصورة والمقدّس في الإسلام،  مرجع سابق، ص- 75.

13- أدونيس، مقدمة في الشعر العربي، مصدر سابق ص-13.

14- الزاهي، فريد، الجسد، والصورة والمقدس في الإسلام،  مرجع سابق. ص- 20.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *