سجلوا عندكم

حزب الفهود السود… مجموعة تحررية أم منظمة إرهابية؟

Views: 6

المحامي معوض رياض الحجل

ساهمت موجة النزوح الكبرى القصرية للعائلات من ذوي الجذور الافريقية من ولايات الجنوب الأميركي خلال مرحلة الحرب العالمية الثانية (1939-1945) بتغيير وجه أوكلاند الديموغرافي بولاية كاليفورنيا وغيرها من بلدات شمال وغربي البلاد.

 واجهَ الجيل الجديد من الشبان والشابات السود حينها ظروفاً وأوضاعاً معيشية سيئة جداً تحت وطأة الفقر والعنصرية العرقية البغيضة التي لم يعهدها أسلافهم، وسعى هذا الجيل للبحث عن وسائل سلمية حيناً وعنفية حيناً آخر تهدفُ لتطبيق خطة انقاذية تتضمن معالجة جذرية لكل هذه التحديات. 

 

الانطلاقة الحزبية

تألفَ السواد الاعظم من أعضاء “حزب الفهود السود” من العائلات التي سافرت صوب شمال الولايات المتحدة الاميركية وغربها هرباً من نظام الفصل العنصري في الجنوب وأنتهى الأمر بمواجهتهم لأساليب جديدة من القمع الوحشي والفصل العنصري لا مثيل لها، فقد تركّزَ سكن المواطنين السود في الأحياء الفقيرة ورافقَ ذلك أرتفاع نسبة البطالة وأنتشار المساكن الرديئة، وهو ما حرم الجيل الجديد من فرص التعليم الجامعي الجيد والتمثيل السياسي كما وأبعدهم عن الطبقة الوسطى.  وكانت دوائر الشرطة المحلية تضم غالبيتها الساحقة عناصر أمنية من ذوي البشرة البيضاء. ففي العام 1966  فقط 16 من أصل 661 شرطيًا في أوكلاند  كانوا من أصولٍ أفريقية.  وبذلك شكلوا نسبة 2.5% من مجموع قوة الشرطة في المدينة آنذاك.

“حزب الفهود السود”، الاسم الأصلي “حزب الفهود السود للدفاع عن النفس”، حزب ثوري للأميركيين السود من أصول أفريقية، تأسس عام 1966 في أوكلاند بولاية كاليفورنيا. وكان المُخطط الأصلي لمؤسسي الحزب هو حصراً القيام بدوريات مُراقبة راجلة في الاحياء الشعبية للسكان الأميركيين من أصل أفريقي لحمايتهم من الأعمال الوحشية للشرطة.

في 21 شباط من عام 1965 اغتيلَ “مالكوم إكس” داعية الحقوق المدنية وأعقبَت ذلك توترات دموية راحَ ضحيتها أكثر من 300 من المواطنين السود، فشكلت اشارة الانطلاق لتشكيل مجموعات متطرفة عرقياً من بينها “حزب الفهود السود” الذي نشأ كحركة حقوقية ثم طورها الناشطان هيوي نيوتن وبوبي سيل إلى حزب في تشرين الأول من عام 1966 كرد فعلٍ على تزايد وحشية الشرطة والمنظمات العنصرية بحق السود، وكانت المنظمة تحملُ السلاح الفردي وتشجع على استخدام العنف كوسيلة للدفاع عن النفس.

تطورَ “حزب الفهود السود” مع الوقت ليتحول تدريجياً إلى مجموعة ثورية ماركسية دعت إلى تسليح جميع الأميركيين السود، وإعفاء الأمريكيين من أصل أفريقي من التجنيد الاجباري ومن جميع عقوبات ما يسمى بأميركا البيضاء، وإطلاق سراح فوري لجميع الأميركيين من أصول أفريقية من السجون الاميركية، ودفع تعويضات مالية كبيرة للأميركيين من أصل أفريقي عن قرون وقرون من الاستغلال المفرط من قبل السكان الأميركيين البيض.

وفي ذروةِ نشاط الحزب في أواخر ستينيات القرن العشرين تجاوزَ عدد المُنتسبين ألفي عضو، وأصبحُ لهُ تواجد فاعل وناشط في العديد من المدن الأميركية الكبرى. وبالإضافةِ إلى التركيز على أهمية تحدي عناصرهِ وحشية رجال الشرطة وهمجيتهم، أطلق “حزب الفهد الأسود” في تلك الفترة بنجاحٍ باهر أكثر من 35 برنامج دعم في مجالات أجتماعية عديدة منها التعليم، وأختبار السل، والمساعدة القانونية، والمساعدة في النقل، وخدمة الإسعاف، وتصنيع الأحذية المجانية وصيانتها وتوزيعها على جميع الفقراء والمُحتاجين. 

في العام 1966 طبقت الحكومة الفيدرالية الاميركية برنامجاً تجريبياً مُشابهاً رداً على مبادرة “حزب الفهود السود”، ثم قامت بتمديد البرنامج وجعله دائماً ابتداءً من العام 1975.

في شهر كانون الثاني من عام 1969 أطلقَ الحزب برنامج الإفطار المجاني للأطفال الذي أمتد إلى كل مدينة أميركية كبرى.

 

برنامج الحزب من عشر نقاط

حَددَ “حزب الفهود السود” منذُ انطلاقتهِ برنامجاً من عشرة نقاط لتحسين أوضاع المجتمع الأميركي الأسود ولإقامة تحالفات مع الراديكاليين البيض التقدميين، كما تناولَ البرنامج عدداً من المواقف المحددة إزاء الاستغلال الاقتصادي الفاضح بإعتبارهِ أصل كل أشكال الاضطهاد في الولايات المتحدة الاميركية وخارجها، وأعتبار إلغاء الرأسمالية المتوحشة شرطاً جوهرياً لتحقيق العدالة الاجتماعية.

  1. نريدُ الحرية. نريدُ القوة لتحديد مصير مجتمعنا الأسود.
  2. نريد عمالة كاملة لشعبنا.
  3. نريدُ وضع حد للسطو من قبل الرأسماليين في مجتمعنا الأسود.
  4. نريدُ سكنًا لائقًا صالحًا لإيواء البشر.
  5. نريدُ تعليمًا لشعبنا يكشف الطبيعة الحقيقية لهذا المجتمع الأميركي المنحل. نريد تعليمًا يعلمنا تاريخنا الحقيقي ودورنا في مجتمع اليوم.
  6. نريد إعفاء كل الرجال السود من الخدمة العسكرية.
  7. نريد إنهاء فوري لوحشية الشرطة وقتل السود.
  8. نريد الحرية لجميع الرجال السود المحتجزين في السجون الفيدرالية وسجون الولايات والمقاطعات والمدن.
  9. نريد أن يحاكم جميع السود عند تقديمهم للمحاكمة أمام المحكمة من قبل هيئة محلفين من مجموعة أقرانهم أو أفراد من مجتمعاتهم السوداء، على النحو المحدد في دستور الولايات المتحدة.
  10. نريد الارض والخبز والمسكن والتعليم واللباس والعدالة والسلام.

المواجهة الدموية مع السلطات الاميركية

في ستينيات القرن العشرين، تركت النظرة الاقتصادية الاشتراكية اليسارية المستوحاة من الفلسفة السياسية الماركسية، صدى كبير لدى حركات أجتماعية أخرى في الولايات المتحدة الاميركية وفي مدن أخرى من العالم. لذلكَ، عندما وجدَ “حزب الفهود السود” حلفاءَ لهُ داخل وخارج حدود الولايات المتحدة الاميركية، وجدت المنظمة نفسها بشكلٍ مباشر تحتَ المراقبة الشديدة من عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي وبرنامج مكافحة التجسس التابع لهُ. 

في العام 1969، أعتبرَ مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الراحل جي. إدغار هوفر(1895-1972) “حزب الفهود السود” أكبر تهديد للأمن القومي الاميركي. وفي نفس العام، صَنفَ مكتب التحقيقات الفيدرالي المجموعة كمنظمة شيوعية وعدوة مُباشرة للحكومة الأميركية. وكان هوفر قد تعهدَ بأن يكون العام 1969 العام الأخير لحزب لفهود السود أي سقوطهِ. وفي كانون الأول من عام 1969 قامت عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي بمداهمة شقة “فريد هامبتون” زعيم “حزب الفهود السود” بمدينة شيكاغو وقتلوهُ بطلقتين في رأسهِ بينما كان نائماً بجانب زوجته الحامل، كما قتلوا حارسهُ الشخصي وأعتقلوا تعسفياً العديد من أعوانهِ. في العام 1969 وفي ظل التهديدات المتتالية للمجموعة، منحت دولة الجزائر حق اللجوء للناشط والكاتب الأميركي إلدريدج كليفر الذي كانَ من أوائل قادة “حزب الفهود السود” بحسب وكالة رويترز للأنباء.

 

لجوء الفهود السود الى الجزائر

في 14 أيلول من عام 1970، نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية خبراً يقول إن “حزب الفهود السود” أفتتحَ “قسما دوليا” في الجزائر العاصمة. وقال إلدريدج كليفر، وزير الإعلام بالحزب، لصحيفة نيويورك تايمز من الجزائر آنذاك إن هذا القسم سيكونُ بمثابة “منافس لوزارة خارجية وليام روجرز”، وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت. فقد منحت الحكومة الجزائرية، التي قطعت حينها العلاقات الدبلوماسية مع الادارة الاميركية في العام 1967، “حزب الفهود السود” رسمياً مكانة “حركة التحرير”، وقدمتُ لهُ مبنى عبارة عن منزل أبيض من ثلاثة طوابق مع فناءٍ واسع.

وقالت صحيفة نيويورك تايمز حينئذٍ إن زعيم الفهود السود يعيشُ في الجزائر العاصمة منذ العام الماضي عقبَ فرارهِ من الولايات المتحدة الاميركية بعد اتهامهِ بانتهاك الإفراج المشروط عنهُ في كاليفورنيا. وقد وصفَ كليفر المكتب الجديد بالجزائر بأنه محاولة جدية لتأسيس “دبلوماسية الشعوب“. وقالَ إن هذهِ هي “المرة الأولى في النضال الذي دام 400 عام للسود داخل الولايات المُتحدة الاميركية التي يكونُ لنا فيها تمثيل على المستوى الرسمي على المسرح الدولي”.

وكان كليفر قد فرَ من الولايات المتحدة الاميركية عقبَ مقتل رفيقهِ بوبي هوتن، وبناءً على نصيحة من رفاقهِ. وقد سافرَ برفقة زوجته كاثلين، التي كانت أيضاً عضواً بارزاً في الحزب، إلى فرنسا أولاً ومنها إلى الجزائر. وكانت دولة الجزائر قد تحولت بعد نيلها الاستقلال في العام 1962 إلى ملجأ رئيسي لنشاطات ومقرات الحركات الثورية من كافة أرجاء العالم. وقد تحولت أنظار مجموعة الفهود السود إلى الجزائر حيث تم الترحيب الحار بزعيمها ذو الشخصية القوية والجذابة إلدريدج كليفر بعد أن واجهَ مشاكل جمة مع القانون في الولايات المتحدة الاميركية وفتحَ فرعاً للحزب هناك.

 

سياسة خطف الطائرات

في أوائل سبعينات القرن العشرين تعرضت طائرتان أميركيتان للخطف وقد تبينَ أن الخاطفون ينتمون لحزب الفهود السود، وكانت وجهتهم دولة الجزائر. ففي 2 حزيران من العام 1972، تم اختطاف رحلة الخطوط الجوية رقم 701 مع 98 راكباً وطاقم مكون من سبعة أفراد في لوس أنجلوس بواسطة روجر هولدر وكاثي كيركو

وكانت الرحلة في طريقها إلى سياتل عندما نَفذَ هولدر “عملية سيزيف” التي خططَ لها منذ فترةٍ طويلة.

وأنزل الخاطفان نصف ركاب الطائرة في لوس أنجلبس والنصف الآخر في نيويورك، حيث أعيد تزويد الطائرة بالفيول قبل الإقلاع مجدداً إلى الجزائر خالية من الركاب مقابل فدية كبيرة قدرها نصف مليون دولار أميركي أعادتها السلطات الجزائرية للسلطات الاميركية لكنها رفضت رفضاً قاطعاً تسليم الخاطفين. 

وفي 31 تموز من العام 1972 وقعَ حادث خطف ثانٍ وكان الخاطفون من الأميركيين السود من ديترويت وهم ملفين ماكنير وزوجته جين وجورج براون وجويس تيلرسون وقد قاموا بخطف رحلة طيران دلتا رقم 84 وعلى متنها 86 راكباً وقد تم إنزالهم بعد الحصول على فدية مالية كبيرة بقيمة 1,000,000$ (مليون دولار اميركي)، ثم توجهَ الخاطفون بدورهم إلى دولة الجزائر. وقد طلبت السلطات الجزائرية من الخاطفين تسليمها المبلغ كاملاً، وقد تمَ إرسالهُ إلى السلطات  الاميركية لكن رفضت تسليمها الخاطفين.

وقد أزعجَ موقف الحكومة الجزائرية بعض أفراد حزب الفهود السود المقيمين في الجزائر والذين بدوا أكثر أهتماماً بالمال من الخاطفين أنفسهم. وقررَ كليفر، المُحبط من إعادة المال الذي أعتبرهُ مال الثورة، مُخاطبة الرئيس الجزائري آنذاك هواري بومدين(1932-1978) في رسالةٍ مفتوحة في مؤتمر صحفي على الرغم من نصيحة بيت أونيل الرجل الثاني في القيادة بعدم الاقدام على هذه الخطوة الغير مدروسة. 

وأصرَ كليفر على أن “الشعب الأفريقي الأميركي لا يطلب من الشعب الجزائري أن يخوض معاركنا من أجلنا، وما نطلبهُ هو ألا تخوض الحكومة الجزائرية معارك الحكومة الأميركية “. وعلى أثر ذلكَ طلبَ من كليفر التنحي فوراً عن رئاسة القسم الدولي. وفي ظل ذلكَ التوتر، قررَ ماكنير وجين بعد نحو عام من إقامتهما في مقر سري في الجزائر إعادة أولادهما للعيش مع أقاربهما في الولايات المُتحدة الاميركية.

وقال ماكنير: “لا يوجد شيء مُمتع في العيش في الخفاء، فأنت تعيش في خطر دائم، ولا تعرف ما الذي سيأتي من الباب، وتنام بعين واحدة مفتوحة”. وأضاف قائلاً: “كما كنا نعلم أن الفهود سيغادرون وسوف نُترك وحدنا، كان الوقت قد نفد بالنسبة للفهود في الجزائر”.

ومرة أخرى، توجّه ماكنير وجين مع جورج براون وجويس تيلرسون، وهذه المرة إلى العاصمة الفرنسية باريس عبر جنيف مستخدمين جوازات سفر مزورة وبدعم من منظمات حقوق الإنسان الدولية. 

في خريف العام 1974 وعند وصولهم إلى العاصمة الفرنسية، سكنوا مع متعاطفين فرنسيين وإذا سأل أي شخص عن سبب مغادرة البلد الام أي الولايات المتحدة الاميركية كانت الإجابة أنهم هربول لتجنب استدعائهم للقتال في حرب فيتنام الدموية. وكانت أكبر مشقة تحملوها هي الابتعاد عن أولادهم.

في العام 1976 ألقت الشرطة الفرنسية القبض عليهم ، فحاولت الولايات المتحدة الاميركية حينها إقناع فرنسا بتسليمهم، لكن المحاكم الفرنسية قبلت الحجة القائلة بأن القضية سياسية وأن العنصرية الأميركية هي التي يجب أن تتم محاكمتها. 

لكن كان لا بد من محاكمتهم بتهمة الاختطاف في المحاكم الفرنسية واحتُجزوا احتياطياً قبل المحاكمة لمدة عامين ونصف. وبعد المحاكمة، تم الإفراج عن المرأتين حتى تتمكنا من رعاية أولادهما. (Ultram) وحُكم على ماكنير بالسجن خمس سنوات بتهمة الاختطاف، لكن تم تخفيف الحكم لحسن السلوك ولإظهاره الرغبة في تعلم اللغة الفرنسية. 

ويقول ماكنير إن جورج براون مكث داخل اسوار السجن لفترة أطول لأنهُ لم يحاول تعلم اللغة الفرنسية.

في آيار من العام 1980 أصبح ماكنير أخيراً رجلاً حراً وتم لم شمل الأسرة مرة أخرى بعد انقطاع دام ثماني سنوات عجاف.

 

النهاية الحزينة لنضال الفهود السود

من منتصف السبعينيات وحتى الثمانينيات من القرن العشرين، تراجعت وتيرة أنشطة “حزب الفهود السود” بشكل كبير ودراماتيكي. 

وعلى الرغم من أن مكتب التحقيقات الفيدرالي ساهمَ دون هوادة في تراجعها وتدميرها، إلا أن حل قيادة الحزب ساهم أيضاً في سقوط المنظمة. فقد قُتل هيوي نيوتن في مشاجرة لها علاقة بالمخدرات في آب من عام 1989 حيث توفي في غرب أوكلاند ليس بعيداً عن المكان الذي أسسَ فيه هو وسيل أول فرع لحزب الفهود السود. وأصبح إلدريدج كليفر مُصمم ملابس في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين قبل الانضمام إلى كنيسة التوحيد المناهضة للشيوعية في طريقه ليصبح مسيحياً مولوداً من جديد وعضوا مسجلا في الحزب الجمهوري. وحصلت زوجته كاثلين كليفر، وكانت من زعماء الحزب، على شهادة في القانون وباتت أستاذة جامعية بعد عودتها من المنفى في كوبا.

وهكذا كانت نهاية هذا الحزب الذي ولد من رحم حادث أغتيال داعية الحقوق المدنية مالكوم إكس في عام 1965.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *