سجلوا عندكم

الضمير

Views: 307

  زياد كاج

وقف استاذ مادة التربية الوطنية أمام اللوح الأخضر العريض الذي بقيت عليه آثار الطبشور الأبيض من شرح مادة الرياضيات السابقة التي كانت تترك معظم الطلاب في حالة من التعب والتشتت الذهني وعدم الثقة بسبب ضعف أغلبيتنا العلمي وبخل الأستاذ في الشرح. فالمدرسة رسمية والأجواء العامة في البلد خلال الحرب كانت تسمح لكل استاذ بالعطاء وفق ضميره المهني. جميعنا في الصف الثالث تكميلي كنا نعتبر حصة “التربية الوطنية” فرصة للراحة والاسترخاء خاصة أن الاستاذ كان ودوداً لطيفاً وفيه شيء من التقوى ومخافة الله. وكنت أراه على نقيض من كثر من المعلمين والمعلمات الذين جلسوا خلف الطاولة أمام اللوح إما للكسب المادي أو للفوز بلقب “الأستذة”(كان يعني الكثير في النصف الثاني من السبعينات).

   حصة “مادة التربية الوطنية” كانت على نقيض لكل ما يدور من حولنا وفي البلد: حالة من الفوضى والتسيب العام، معارك على خطوط التماس، قصف وقنص، خطف على الهوية وسيارات مفخخة هنا وهناك. عدا عن السرقات من العيار الكبير والصغير ، وتراجع كبير وملحوظ في الأخلاقيات العامة وفي سلوكيات الناس في المجتمع والشارع. وأستاذ التربية يحدثنا عن “الضمير”!!

   وقف المسكين يشرح ويبذل مجهوداً فوق طاقته حتى “نشف ريقه” كي يدخل فكرة الضمير غير المحسوسة في عقولنا المشوشة والمشبعة بخبرات وتجارب العالم  الخارجي المجنون. كانت فرصتي كي أمارس شغفي الخاص—وهو الشرود في الأشجار الشامخة من خلف زجاج القاعة، وفي ما ينتظرني بعد إنتهاء الدوام المسائي، وزحمة الشارع، ونوع الطبخة التي أعدتها أمي للعشاء. كانت حصتي الرياضيات والفيزياء من أسوأ الساعات التي أمضيتها في تلك المدرسة. كانت أشعر خلالها بالعجز الفكري التام. كأن عقلي غارق في الرمال المتحركة. وأساتذة المادتين يتفاعلون فقط مع الشطار. وكم كانوا قليلي العدد. لذلك كرهت العلوم. وحتى اليوم أكره كل ما لا أفهمه. يشكل لي تحديًا خاصًا. وربما شخصيًا.

كانت مادة التربية الوطنية، على سخافتها وسطحيتها، كقطعة الحلوى التي تتناولها بعد وجبة دسمة. كان المطلوب منا فقط حفظ “القاعدة” المؤلفة من عدة سطور مطبوعة ضمن كادر ملون مختلف عن لون الصفحة. كانت ملخص الدرس كله.

  عدت الى البيت. وكان العشاء “مسبحة الدراويش” أو ما يعرف “بمخلوطة الخضار” التي كانت أمي تعدها بطريقة مميزة. قلت، طالما الكهرباء مقطوعة، فليس أمامي سوى حفظ قاعدة “الضمير” على ضوء الشمعة. تحت عنوان “الضمير” ظهرت أمامي مجموعة سطور لا تتعدى الأربعة. كلما قرأت السطر الأول وانتقلت الى السطر الثاني، أجد نفسي قد نسيت الأول. وهكذا حصل مع السطور الباقية. كانت السطور تتبخر من ذاكرتي كدخان السيجارة. أفكار مجردة عامة يصعب حفظها أو الإمساك بها! حاولت حفظها غيباً فعجزت. تخيلت أستاذ مادة التربية يقف ببساطته أمام اللوح. كررت محاولتي مرات عديدة من دون جدوى حتى أصابني اليأس. خفت ورميت الكتاب جانباً وقررت تناسي الموضوع.

   أنا اليوم في سن الثامنة والخمسين  أمضيت عمري كله في هذا البلد. سفرات قليلة جداً وقصيرة ثم عدت. لا أحب عادة مقارنة بلدنا بالدول الأخرى خاصة الكبرى والمتحضرة. يوجد ظلم في الموضوع وإفتراء. لكنني اليوم فهمت الى حد ما لماذا لم تدخل “قاعدة الضمير” عقلي الشاب. فمسألة الضمير والأخلاق يجب أن تتحول الى سلوكيات عامة ملومسة ومحسوسة في المجتمع وأن لا تبقى أسيرة الكتب الدينية والقانونية. مسألة الضمير يجب أن تقرأ كل يوم في وجوه الناس، وتسمع صباحاتهم وفي أمسياتهم، وفي معاملاتهم. مسألة الضمير يجب أن تكون في عقل كل مسؤول مهما إختلفت رتبته: من الأعلى وصولاً الى شرطي السير، مروراً بالوزير والنائب والقاضي والضابط والموظف الحكومي وصولاً الى شرطي السير.

   ويبقى السؤال: كيف نصنع ضميراً عاماً جامعاً وشاملاً  في بلد يختلف سكانه على جنس الملائكة؟!

***

*الصورة الرئيسية: كاريكاتور ناصر الجعفري tomatocartoon.com

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *