“أوديب وأساطيره” من وجهة نظر تاريخية 

Views: 355

وفيق غريزي

إن تحليل اسطورة اوديب في كتاب جان بيار فرنان وبيار فيدال ناسكيه “اوديب واساطيره” يتصدى للنظرة السائدة عن هذه الأسطورة، وتخصيصا في التحليل النفسي، وهو يرى أن هذه النظرة اختزلت الاسطورة وشوهتها، ويسعى بدقة وذكاء، إلى اعادة اوديب الى حقيقة ما هو عليه؛ اوديب بلا عقدة، يتركّز هذا التحليل على مسرحيتي: “سوفوكليس: اوديب الملك”، و”اوديب في كولون”. وقد انطلق المؤلفان من وجهة نظر تاريخية، ليشرحا نصًا ادبيا لشاعر عاش في اثينا ابان القرن الخامس قبل الميلاد؛ آخذين بالاعتبار حقائق ومفاهيم مألوفة لدى أهل ذلك الزمان .

 

أوديب بلا عقدة

إن تحليل أي عمل مسرحي يوجب احترام مخططات التراجيديا هذه، في صلاتها ومتعارضاتها، اما اذا نهجنا،على غرار سيغموند فرويد، نهجا تبسيطيا تصاعديا يختزل الميثولوجيا الاغريقية كلها بترسيمة اسطورية محددة، والنتاج التراجيدي كله بمسرحية واحدة . وهذه المسرحية بعنصر مميز من الحبكة الروائية، وهذا العنصر في الحلم، فسيكون بمستطاعنا، ايضا، ابدال مسرحية اوديب الملك لسوفوكليس بمسرحية “اغاممنون” لاسخيلوس، والتسلي بالزعم أن التأثير التراجيدي فيها ناجم عن استيقاظ مشاعر القلق والذنب في نفس كل امراة سبق أن حلمت بقتل زوجها، وتسلط هذه المشاعر عليها، مجددا، في جريمة كليتمنستر المروعة.

ويرى المؤلفان أن التفسير الفرويدي للتراجيديا، لم يؤثر عامة، ومسرحية اوديب الملك خاصة، في اعمال المتخصصين في الدراسات الهلينية الذين واصلوا ابحاثهم كما لو لم يقل فرويد شيئا. ولست اشك في أن احتكاكهم بالأعمال التراجيدية قد ولد لديهم شعور بأن فرويد يسير في محاذاة الموضوع، وأنه ظل خارج المسائل الحقيقية التي يفرضها النص حالما نسعى الى فهمه فهمًا كاملا ودقيقا . وطابع التراجيديا التاريخي يبقى، من منظور فرويد، خارج الفهم كليا، ولكن يقول المؤلفان: “اذا كانت التراجيديا تستمد موضوعاتها من نوع معين من الاحلام يحظى بقيمة شاملة. أي اذا كان التأثير التراجيدي يحرص على تجييش عقد عاطفية يحملها كل منا في ذاته، فلماذا نشأت التراجيديا عند منعطف القرنين السادس والخامس في العالم الاغريقي “.

إن التأثير التراجيدي يرتبط، في نظر فرويد بطبيعة العدة التي يستعملها سوفوكليس في مسرحية اوديب الملك أي احلام الزواج بآلام وقتل الأب، تلك التي تشكّل مفتاح التراجيديا، على حد قوله: “إن اسطورة اوديب هي رد فعل من قبل مخيلتنا على هذين الحلمين النموذجيين. ولما كان الحلمان المذكوران مصحوبين بمشاعر النفور لدى الراشد، فقد لزم أن تتسبب الرواية الاسطورية في اثارة الهلع ومشاعر العقاب الذاتي “.اذا كانت مسرحية اوديب الملك مبنية على جهل اوديب نسبه الحقيقي، وكان اوديب يحسب نفسه، حقا، ابن ملك  كورنتس وملكتها المحبوبة بل اثير والديه، كما اكد مرارا، فمن الواضح  أن لا اثر لعًقدة اوديب لدى بطل المسرحية المذكورة .

 

التباس وانقلاب

الالتباس الذي يطالعنا في مسرحية اوديب الملك، ليس مرده الى تناقض الدلالات ولا ثنائية الشخص الذي يتحكم بالحدث المسرحي ويطيب له اللهو مع ضحيته، وحده اوديب، ولا احد سواه. حسب اعتقاد المؤلفان ادار اللعبة في الدراما التي ذهب ضحيتها، اذ لم يكن ما يرغمه على متابعة استقصاءاته حتى النهاية الا تصميمه العنيد على كشف المذنب، والفكرة الرفيعة التي يكوّنها عن وظيفته ومهاراته وحكمته ورغبته المتقدة في معرفة الحقيقة بأي ثمن، ويقولان: “عبثا حاول تبريزياس وجوكاست والراعي أن يثنوه عن ذلك، فما هو بالرجل الذي يقنع بالحلول الوسطى او يرتضي المساومة. سيمضي اوديب في قراره حتى النهاية، وسيكتشف في خاتمة الطريق التي انتهجها لنفسه رغما عن الجميع، أن ما جعل الدائرة تدور عليه هو ادارته اللعبة من البداية حتى النهاية “. على انه سيدرك أنه المسؤول عن صنع تعاسته بنفسه، وسيكون بمقدوره ايضا، أن يتهم الآلهة بأنها هي التي دبّرت كل شيء ونفذته . هذا الالتباس في احاديث اوديب يتناسب مع التباس الوضع المقرر له في الدراما، والذي بنيت عليه التراجيديا كلها، فعندما يتكلم اوديب يحصل له أن يقول شيئا آخر: “بل عكس ما يريد قوله، لكن التباس احاديثه هذا لا يعبر عن ثنائية طبعه المتصلب فحسب، بل عما هو اعمق من ذلك، ايضا، عن ازدواجية كيانه بالكلية”. مزدوج هو اوديب، ويشكّل بحد ذاته لغزًا لن يتسنى 

 له سبر اغواره إلا متى اتضح له من كل جانب، أنه بخلاف ما يظن، او يبدو انه عليه.  إن اوديب حسب اعتقاد المؤلفان، لا يفهم الخطاب السري الذي ينشأ في غفلة عنه، داخل خطابه الخاص، وليس بين الشهود المسرحيين على مأساته من يمكنه فهمه الا تيريزياس، إلا أن الالهة هي التي ترجع لأوديب صدى بعض الكلمات من هذا الخطاب، أي عين كلامه محرفا او مقلوبا .

تبلغ مسرحية اوديب الملك اقصى حدود الدلالة من وجهة نظر الالتباس المزدوج، وقد لحظ ارسطو في معرض التذكير بأن العنصرين المكونين للحبكة التراجيدية هما (عدا العنصر الوجداني) التعرف والتبدل المفاجئ، أي انقلاب الحدث الى نقيضه. إن التعرّف في اوديب الملك هو الأروع، نظرا الى تطابقه مع التبدل المفاجىء  “إن التعرف الذي حققه اوديب لا يطول سواه، في الواقع، وعلى اي الوجهين حملنا عبارة ارسطو، التي لا تخلو بدورها من الالتباس، فان وقوف البطل النهائي هذا على حقيقة ذاته تشكل انقلابا تاما للعمل المسرحي “.

إن مسرحية اوديب الملك كما يوضح المؤلفان، لا تتمحور حول موضوع اللغز وحسب، بل انها، في طريقة عرضها وتطورها وخاتمتها، مبنية على طريقة اللغز، كذلك الالتباس والتعرف والتحول المفاجىء، وهي خصائص متشاكلة، تندمج كلها ببنية العمل المسرحي الملغّزة  .

ويؤكد المؤلفان أنه اذا كان اوديب قد قتل اباه وتزوج امه، فما ذلك لانه يكره العدول ويعش

ق الثنائية على نحو غامض، هو الذي كان يكن اصدق مشاعر العطف البنوي بالتساوي لمن يحسب انهما والداه الحقيقيان، ميروب وبوليب، بل أن اقدامه على قتل لايوس كان من باب الدفاع المشروع عن النفس ضد غريب بادر الى قتله .

 

الاسطورة، البطل والمدينة

تنشا التراجيديا، بحسب قول والتر نستله، المأثور، حين يبدا المرء ينظر الى الاسطورة بعين المواطن، والحق أن الشاعر التراجيدي يستقي عمليا من فيض الاساطير البطولية الزاخر، تلك التي صاغتها عبقرية هوميروس وكتاب الملاحم الشعرية الاخرى، ونقشها الرسامون في اثينا على الاواني الفخارية . إن الابطال التراجيديين كلهم مقتبسون من هذا السجل الضخم، وعندما تجرأ اغاثون، وهو شاب معاصر لاوربيدوس يمثل التراجيديا في حوار الوليمة لافلاطون، على وضع التراجيديا ابطالها من بنات أفكاره، ماتت التراجيديات الكلاسيكية، من غير أن ينفي ذلك استمرارهما كنوع ادبي . 

إن البطل بحكم تشكيله من نوع ديني، هو من صنع المدينة التي نظن تاريخها يعود الى ابعد من القرن الثامن، اذ يكفي أن يقوم قبر ملكي محاط بقبور اكثر تواضعا ويصبح موضع عبادة حتى يولد البطل، على نحو ما يؤكده علم الاثار في نهاية القرن السابع في اريتريا، احدى مدن جزيرة اوبيا كان يتم اختيار الابطال من كل حدب وصوب وكيفما اتفق، آلهة ساقطين كانوا ام ملوكا منصّبين. 

 ويشير المؤلفان الى أن البطل والاسطورة كانا مرتبطين بعالم العائلات الشريفة الذي ظل يمثل من كل النواحي، بما فيها الممارسات الاجتماعية والاشكال الدينية والتصرف السياسي، جميع ما اطرحته المدينة الجديدة ابان مرحلة التحوّل التاريخي العميق الذي بدأ في اثينا مع دراكون وسولون، واستمر قائما مع كليستين وايفيالت وبيركليس . لقد اتسعت الفجوة بين الاسطورة البطولية والمدينة، ولكن ليس الى حد افقاد البطل وزنه الحضوري ودوره المنذر بالخطر، فالطغيان لم يبطل في اثينا قبل العام 510، ولم يكن اوديب الشخصية التراجيدية الوحيدة المعروفة بالطغيان . 

 

ليست الاسطورة البطولية تراجيدية بحد ذاتها، لكن الشاعر التراجيدي هو الذي يجعلها كذلك . لا شك في أن الاساطير تشتمل، وبنسبة تفوق التصور، على تلك الانتهاكات التي تتغذى منها التراجيديات وهي: السفاح، وقتل الأب، وقتل الأم، واقدام البطل على اكل اولاده، لكنها لا تتضمن مرجعية تحكم على مثل هذه الافعال كتلك التي تنشئها المدينة، او تعبر عنها الجوقة على طريقتها، فحيثما حالفنا الحظ في معرفة التقليد الذي افرج عن الاسطورة، وجدنا أن الشاعر التراجيدي هو من يقفل الحلقة المسماة تراجيديا .

 ويتساءل المؤلفان: ما عساها تكون اسطورة اوديب قبل اعمال الشعراء التراجيديين؟ والجواب، انها حكاية ولد لقيط ينشد الغلبة، وقد لا يكون لقتل ابيه والزواج من امه، في نظره، الا دلالة واحدة هي تلك التي تجعل من اسطورته، شأن كثير سواها، اسطورة تربع على العرش، ليس إلّا… .

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *