الدولار والقوّة العسكريّة الأميركيّة: أيّة علاقة؟

Views: 115

حافظ إدوخراز*

يُلقي التحليل التي قدّمته الباحثة والأكاديميّة البريطانيّة سوزان سترنج في مقالها المنشور في العام 1971 (The Politics of International Currencies) الكثير من الأضواء على محدّدات الاستخدام الدوليّ للعملات النقديّة. فوفقاً لهذه الباحثة في الاقتصاد السياسيّ الدوليّ، ثمّة أربعة أنواع من العملات الدوليّة: العملات المتربّعة على القمّة، العملات المتسيّدة، العملات المُتفاوَض حولها، وأخيراً العملات المحايدة.

تُعرّف سترنج “العملة المتربِّعة على القمّة” بأنّها عملة البلد المُهيمِن على الاقتصاد العالَمي. أمّا “العملة المُتفاوَض حولها”، فهي عملة يتمّ استعمالها على نطاقٍ دولي، بفضل الحوافز الماليّة التي يمنحها البلد صاحب العملة للبلدان الأخرى (معدّلات فائدة مرتفعة على الودائع مثلاً)، ويمثّل الجنيه الاسترليني منذ ستّينيّات القرن الماضي مثالاً على هذا النَّوع من العملات. أمّا العملة المُحايِدة، فهي عملة يتمّ استعمالها دوليّاً بالنّظر إلى الوضعيّة الاقتصاديّة للبلد صاحب العملة من دون تدخُّل منه، وهي حالة الفرنك السويسري على سبيل المثال. في حين أنّ الأسباب التي تقود إلى استعمال “العملة المتسيِّدة” هي أسبابٌ سياسيّة محضة، وتتمثّل في الهَيْمَنة السياسيّة التي تمارسها الدولة التي تُصدر هذه العملة على مناطق أخرى من العالَم، وتشمل إلى جانب المناطق التّابعة لها بشكلٍ مباشر (المُستعمَرات)، مناطق تتمتّع بالاستقلاليّة السياسيّة والسيادة، لكنّها لا تزال خاضعة لها بصورةٍ غير مباشرة.

تشرح سترنج أنّ الدولار الأميركي يُعَدّ مثالاً واضحاً على العملات المتسيّدة، بالنّظر إلى استعماله من طرف مجموعة من البلدان التّابعة للولايات المتّحدة على الصعيد السياسي (توفير الأمن الخارجي من خلال المظلّة العسكريّة الأميركيّة) وكأنّ الأمر يتعلّق ببلدانٍ “تحت الحماية”. وتُعدِّد سترنج أمثلة على هذه البلدان: كوريا الجنوبيّة، تايوان، تايلاند ومعظم البلدان الصغرى في أميركا الوسطى والكاريبي (باستثناء المكسيك وكوبا). وكما تلاحظ سترنج، فإنّ الدولار ليس بدعاً في تاريخ العملات الدوليّة، وليس العملة الأولى التي تتمتّع بخاصيّة العملات المتسيّدة التي يستند استعمالها إلى عوامل سياسيّة على مستوى العالَم. فلقد سبق وعَرف العالَمُ سطوعَ عملاتٍ سائدة قبل الدولار، ويمثِّل الجنيه الاسترليني قبل انهيار الإمبراطوريّة البريطانيّة مثالاً على ذلك. كما أنّ الفرنك الفرنسي كان يُستعمل في المُستعمَرات الفرنسيّة في أفريقيا قبل استقلالها.

في هذا السياق، يظهر أنّ تبعيّة بعض البلدان في العالَم للقوّة العسكريّة التي تتمتّع بها الولايات المتّحدة تلعب دوراً محدّداً في الاستعمال الدولي للدولار. يؤكِّد الأكاديمي والباحث في الاقتصاد السياسي آدم بوزن (Why the Euro will Not Rival the Dollar) هذه الأطروحة قائلاً: “إنّ احتياطيّات الحكومات الأخرى من النقد الأجنبي ]…[ تتأثّر كثيراً بالعلاقات المتعلّقة بالجوانب الأمنيّة”، وبالتالي فإنّ “القرارات المتعلّقة بالارتباط بالدولار ]…[ تعتمد كثيراً على السياسة الخارجيّة كما على الاقتصاد”.

لقد سبق للاقتصادي الفرنسي ميشيل أغلييتا أن شَرَحَ في مقالةٍ منشورة في العام 1979 (La notion de monnaie internationale et les problèmes monétaires européens) أنّ التبعيّة العسكريّة لبلدان أوروبا الغربيّة (باستثناء فرنسا) إزاء الولايات المتّحدة في سياق الحرب الباردة، كانت تشكِّل إحدى أهمّ الاعتبارات التي حالت دون التصدّي للهَيْمنة النقديّة الأميركيّة، على الرّغم من الأزمة التي عرفها معيار الدولار في العام 1971، والتي أدَّت إلى إنهاء قابليّة الدولار للتحويل إلى الذهب، وإلى تعويم العملات بتعميم أسعار الصرف المَرِنة. أشارَ المؤرِّخ الأميركي فرانسيس غافان أيضاً في كتابه الصادر عن مطابع جامعة نورث كارولينا (Gold, Dollars and Power) إلى أنّ الإدارة الأميركيّة لطالما هدَّدت الجمهوريّة الفيدراليّة الألمانيّة بسحب قوّاتها العسكريّة المتمركزة على الحدود مع ألمانيا الشرقيّة (حليفة الاتّحاد السوفييتي) إذا ما أَقدم المصرف المركزي الألماني على مُطالَبة الخزانة الأميركيّة بتحويل الدولارات التي تقع في حوزته إلى ذهب أسوة ببلدانٍ أخرى. اضطرّت ألمانيا مرغمةً إلى تقديم مصالحها الأمنيّة على مصلحتها الاقتصاديّة، على الرّغم من المخاطر المرتبطة بحدوث أزمة نقديّة عالَميّة كانت تلوح بوادرها في الأُفق، انطلاقاً من منتصف ستّينيّات القرن الماضي. وفي كتابه “Money and Security” الصادر عن جامعة كيمبريدج، يتناول أستاذ العلوم السياسيّة هوبرت زيمرمان أيضاً هذه الأحداث، موضحاً بهذا الخصوص أنّ البنوك الألمانيّة الخاصّة أَسهمت إلى جانب المصرف المركزي الألماني في الدّفاع عن الدولار وتقديم المساعدات الماليّة للولايات المتّحدة عبر الشراء المكثّف لسندات الخزينة الأميركيّة.

كما يشير غافان في كتابه إلى أنّ الألمان تحت ضغط الإدارة الأميركيّة، لم يتنازلوا عن تحويل احتياطيّاتهم من الدولار إلى ذهب فقط، بل واضطرّوا أيضاً إلى اتّخاذ قرارات أخرى لم تكُن تُراعي مصالحهم القوميّة. فلقد أُجبروا على التخلّي عن مشروع بناء قوّة نوويّة مستقلّة تضمن لهم القدرة على الردع، كما اضطرّوا إلى أخْذِ مسافة عن الجنرال شارل ديغول الذي كان يرمز في أعيُن الساسة الأميركيّين إلى أوروبا متمرّدة ورافضة للهَيْمنة الأميركيّة. كان دعمُ الدولار إذاً هو الثمن الذي اضطرّت ألمانيا الغربيّة دفعه مقابل المظلّة العسكريّة الأميركيّة وحمايتها من الجارة الموالية للاتّحاد السوفييتي إبّان فترة الحرب الباردة.

على صعيدٍ آخر، يؤكِّد آدم بوزن أنّه ليس من قبيل المُصادَفة أنّ الخطوات الملموسة نحو بناء الاتّحاد النقدي الأوروبي بمُشاركةٍ جديّة من ألمانيا لم ترَ النور إلّا مع بداية العام 1992، أي بعد 13 سنة من إرساء الآليّة الأوروبيّة لأسعار الصرف، ولم يتمّ ذلك إلّا بعدما وضعت الحرب الباردة أوزارها ونجحت ألمانيا في إعادة توحيد أراضيها، وأصبح خروج القوّات الأميركيّة من الأراضي الألمانيّة أمراً محسوماً، وتضاءَل الاهتمام بالمسألة الأمنيّة.

إنّ مسألة تبعيّة بعض البلدان للقوّة العسكريّة الأميركيّة في ما يتعلّق بأمنها القومي هي مسألة ذات راهنيّة كبيرة، وتفسِّر لماذا تظلّ هذه البلدان وفيّة لتحالُفِها الإستراتيجي مع الولايات المتّحدة وتستمرّ في دعمها للدولار. يقول الأكاديمي المُختصّ في قضايا الاقتصاد السياسي الدولي بنجامن كوهين “Dollar Dominance, Euro Aspirations: Recipe for Discord في هذا السياق إنّ معظم البلدان التي تحوز احتياطيّاتٍ كبيرة من الدولار، باستثناء الصين، هي حليفة للولايات المتّحدة سواء بشكل رسمي أم غير رسمي. ويضيف أنّه ليس من المُحتمل أن تُجازف هذه البلدان بإضعاف حليفها الأقوى الذي يؤمّنها من المخاطر الخارجيّة والداخليّة، بحثاً عن عائدٍ أكبر لاحتياطيّاتها النقديّة. ويرى كوهين أنّ هذا ينطبق على العديد من البلدان التي لطالما استندت إلى تحالفها التاريخي مع الولايات المتّحدة بعد الحرب العالميّة الثانية كدرعٍ يحميها من التهديدات الخارجيّة.

كثيرة هي المناطق التي تفتقد إلى الاستقرار على المستوى الأمني في العالَم، وهناك مناطق بالغة التعقيد من الناحية الجيوسياسيّة، ما يشكِّل تحدّياً استراتيجيّاً كبيراً بالنسبة إلى البلدان الواقعة في هذه المناطق. ولأنّ الإمكانات العسكريّة لهذه البلدان لا ترقى إلى المستوى الكفيل بجعْلِها قادرة على مواجهة كلّ التحدّيات الأمنيّة الإقليميّة، فإنّ الأمن القومي لهذه البلدان يبقى جدَّ هش، ما يجعلها في حاجةٍ دائمة لمظلّةٍ عسكريّة قويّة من أجل حمايتها من المخاطر الخارجيّة والداخليّة على حدّ سواء. الولايات المتّحدة وحدها تملك القدرة العسكريّة المطلوبة من أجل توفير هذه الحماية، فأوروبا نفسها ليست قادرة على تقديم هذه الحماية بعيداً عن حدودها كما يقول آدم بوزن.

يؤكّد المؤرِّخ البريطاني المشهور بول كينيدي أنّ الولايات المتّحدة لا تُضاهيها أيّ دولة أخرى، حينما يتعلّق الأمر بالقوّة التقليديّة الصلبة، أي القوّة العسكريّة، على الرّغم من أنّ روسيا والصين تملكان كليهما قوّاتٍ بريّة أكثر عدداً. فالولايات المتّحدة تخصِّص موارد هائلة سنويّاً من أجل تطوير التكنولوجيا العسكريّة وتزويد جيشها بأحدث المعدّات والأسلحة، إضافةً إلى تطوير قدراتها على مستوى إرسال قوّاتها إلى أيّ منطقة في العالَم، مهما كانت بعيدة عن الأراضي الأميركيّة (حاملات الطائرات).

تُسهِم القوّة العسكريّة للولايات المتّحدة إذن في إدامة هَيْمنة الدولار، لكنّ العلاقة السببيّة بينهما تعمل في الاتّجاه المعاكس أيضاً. فالموقع الذي يحتلّه الدولار في قلب منظومة النقد الدولي يُسهم بشكلٍ كبير في إدامة القوّة العسكريّة للولايات المتّحدة. وبحسب ما يوضح الأكاديمي جوناثان كيرشنر في كتابه الصادر عن مطابع جامعة برنستون “Currency and Coercion. The Political Economy of International Monetary Power“، فإنّ سيادة الدولار يزيد كلًّا من “القوّة الصلبة” و”القوّة الناعمة” التي تتمتّع بهما الولايات المتّحدة. ويضيف أنّ قوّة الولايات المتّحدة تتعزَّز بقدرتها المتزايدة والمستقلّة على الاستيراد الكثيف المُفضي إلى حالة العجز المُزمن في ميزانها التجاري.

ترى سوزان سترنج أنّ القرار الأميركي من جانبٍ واحد بإنهاء العمل بأحد أساسيّات اتّفاقيّة بريتون وودز، والمتعلِّق بقابليّة تحويل الدولار إلى الذهب، قد شكَّلَ تحوّلاً استراتيجيّاً كبيراً، إذ ستحظى الولايات المتّحدة بعد هذا القرار بحقٍّ متفلِّت من أيّ إكراه بطبْعِ نقودٍ لا يستطيع الآخرون رفضها، حيث إنّ جميع البلدان الأخرى تحتاج إلى الدولار من أجل إجراء صفقاتها الدوليّة. وبهذا تصبح الولايات المتّحدة قادرةً باستمرار على تمويل العجز الضخم والهيكلي الذي يعرفه ميزانها التجاري من دون أيّ إكراهات، وتتمكّن الحكومة الأميركيّة وشعبها من العيش فوق إمكانيّاتهم.

تُشَبِّه الأكاديميّة ماريا إيفانوفا المكاسب المترتّبة عن موقع الدولار كعملةٍ مفتاحيّة تقع في قلب منظومة النقد الدولي بخطّ ائتمانٍ غير محدود ومفتوح باستمرار في وجه الولايات المتّحدة. إنّ هذا الامتياز المتمثّل في التمويل غير المحدود والذي تستفيد منه الولايات المتّحدة، خلافاً لباقي العالَم، يسمح للإدارة الأميركيّة بتمويل برامج تسلُّح ضخمة غير مُمكنة من دون هذا الامتياز. ولولا هذه البرامج ما كان الجيش الأميركي ليكون قادراً على التدخُّل في أيّ نقطة من العالَم مزوَّداً بأحدث التكنولوجيّات العسكريّة.

السياسة والاقتصاد هي خيوط تتشابَك في نسج الواقع العالمي المعاصر، ولا بدّ إذن من مُقارَبةٍ تدمج بين هذه التخصُّصات من أجل جعْلِ هذا الواقع أكثر مقروئيّة وقابليّة للفَهم على نحوٍ أمثل.

***

*كاتب ومترجم من المغرب

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *