ليندا مطر المرأة التي أَشهرت كينونتها ورشدها التاريخيّ

Views: 359

د. رفيف رضا صيداوي*

ليندا مطر من الشخصيّات القليلة التي جاءت كلمات نعيها مطابقة لشخصها ولتاريخها النضاليّ، من دون أن تكون هذه الكلمات مجرّد قيمة أخلاقيّة واجتماعيّة موروثة يدعمها حديثٌ نبويٌّ شريف رواه أبو داود والترمذي من حديث عمران بن أنس المكّي عن عطاء عن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “اذكروا محاسن موتاكم، وكفُّوا عن مساويهم”.

ليندا مطر التي غادرتنا يومالخميس في الثاني من شباط/ فبراير الفائت عن عمرٍ ناهز ‏98 عاماً، هي المولودة في 25 كانون الأوّل/ ديسمبر 1925، مثّلت للّبنانيّين والعرب أكثر من أيقونة نضاليّة مدافعة عن حقوق المرأة؛ فقد ناضلت على جبهة التحرير المُجتمعي والسياسي والاقتصادي والنّسائي، بقدر نضالها لبناء مسارها الحياتي الخاصّ أو الشخصي. وكأنّما عملها في سبيل المرأة دفعها إلى تحقيق الذّات.. والعكس صحيح. فقد ناضلت الرائدة ليندا مطر، كما جاء في نَعي لجنة حقوق المرأة في لبنان “من أجل تعديل القوانين المجحفة بحقّ المرأة اللّبنانيّة، ومن أجل وطن ديموقراطي، ودولة مدنيّة في آن”. لذا ليس من المبالغة في شيء أن يتصدّرَ عنوانُ “رحيل عميدة مناضلات لبنان ليندا مطر.. أيقونة كرّست حياتها لإنصاف المرأة” مقالةَ سارة مطر في “العربي الجديد” (3 شباط/ فبراير 2023)؛ أو أن يتصدّر عنوانُ “ليندا مطر… رحلت النسويّة الحقيقيّة” مقالةَ آمال خليل في جريدة “الأخبار” اللّبنانيّة (4 شباط/ فبراير 2023)…إلخ.

 

لجنة حقوق المرأة والريادة

عندما تشكّلت في لبنان لجنةُ حقوق المرأة في العام 1947، كانت تسبح عكس التيّار، ولاسيّما أنّ أطروحاتها شملت السياسة أيضاً؛ إذ طالبت اللّجنة بعمل المرأة في السياسة، كما طالبت بحقّ المرأة في الانتخاب. وعند صدور المرسوم الذي يجيز للمرأة المتعلّمة الانتخاب فقط، تظاهرت عضوات اللّجنة لجعْلِ الانتخاب من حقّ المرأة المتعلّمة والأميّة على حدّ سواء، إذ كيف تَسمح القوانين للرجل الأمّي بالانتخاب وتمنع هذا الحقّ عن المرأة الأميّة؟ وهنّ تظاهرْنَ أيضاً من أجل الضغط على الدولة لزيادة عدد المدارس الرسميّة للفتيات، وذلك بتوثيق الجهود بين اللّجنة والمجتمعات المحليّة؛ وهنّ ناضلْنَ من أجل افتتاح المستوصفات وإمداد القرى بالمياه…إلخ، أي من أجل إزالة كلّ الأسباب التي تمنع المرأة من التقدُّم في مجال الصحّة والتعليم والعمل.

ولم يتوقّف هذا النضال حتّى خلال سنوات الحرب التي اندلعت في العام 1975، فلم تتغيّب لجنة حقوق المرأة ورئيستها السيّدة ليندا مطر، مثلاً، عن المؤتمرات العالميّة، فعايشْنَ ولادة الاتّفاقيّة الدوليّة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة في العام 1979، وشاركنَ في مؤتمر “نصف عقد المرأة” في كوبنهاغن في العام 1980، ووضعْنَ “ميثاق حقوق المرأة”. كما قمْنَ بحملاتٍ للتوعية تفيد بأنّ الحرب الأهليّة ليست بين مسلم ومسيحي، كما أُريد لها أن تكون، وانصبّت جهودنّ إبّان الاجتياح الاسرائيلي على المقاومة، فدعوْنَ إلى اعتصامٍ في الجامعة الأميركيّة في بيروت ضدّ حصار بيروت، بعدما توزّعْنَ على ثلاثة محاور: محور التطوُّع في المستشفيات، محور الإعلام، ومحور تقديم المساعدات للعائلات المتضرّرة.

انضمَّت ليندا مطر إلى القسم الإعلامي الذي اتّخذ له قاعةً كبيرة من قاعات الجامعة الأميركيّة مقرّاً دائماً له، أمَّته وفودٌ عربيّة وأجنبيّة داعمة له. وقد واكبَ ذلك تنظيم تظاهرة ضخمة انطلقت من بيروت حتّى الجبل (منطقة كاليري سمعان)، شاركت فيها شخصيّات فنيّة وفكريّة متنوّعة، منها، من مصر على سبيل المثال، الكاتبة المسرحيّة فتحيّة العسّال والممثّلة ناديا لطفي، وكنّ يصرخنَ في وجه الإسرائيلي هاتفات: Go home.

 

ليندا مطر الخلوقة..الأبيّة

ليندا مطر المولودة في عائلة متوسّطة الحال مائلة إلى الفقر أكثر من ميلها إلى الغنى، تلقّت دراستها في مدرسة راهبات العازاريّة في بيروت قبل انتقالها إلى القسم المجّاني من مدرسة دير الناصرة التي لم تُبارحها حتّى بلوغها سنّ الرّابعة عشرة وحصولها على الشهادة المتوسّطة. بعدها اضطرّت للعمل في مصنعٍ للجوارب ثمّ في مصنعٍ للنسيج، في الوقت الذي انتسبت فيه إلى مدرسة ليليّة لمُتابعة دراستها. اجتهادها وتفوّقها الدراسي وكفاحها للتوفيق بين العمل والدراسة، جَعَلَ مديرة المدرسة تدعوها إلى التعليم في الدير، الأمر الذي سهّل عليها متابعة دراستها حتّى صفّ البكالوريا.

ثلاثُ سماتٍ ميّزت ليندا مطر منذ نعومة أظافرها، ولا شكّ أنّها كانت محفِّزة لروح النضال لديها، وهي عزّة النَّفس والكرامة، ورفضها التمييز الطبقي والجنسي، وهي السّمات التي جعلت من “ليندا مطر” المرأة التي نعرفها؛ أي المرأة “النظيفة” التي لم تَحِد يوماً عن مبادئها ولم تستثمر النضال للربح المادّي والإثراء غير المشروع، كما بات عليه الأمر اليوم.

تدرّجت ليندا مطر في مواقع المسؤوليّة في لجنة حقوق المرأة من بداية خمسينيّات القرن الماضي حتّى العام 1978، وانتُخبت رئيسةً للّجنة، وكانت من مؤسِّسات لجنة الأمّهات في لبنان ومُستشارتها، والهيئة اللّبنانيّة لمُناهضة العنف ضدّ المرأة، واللّقاء الوطني للقضاء على التمييز ضدّ المرأة، ومن مؤسِّسات التحالُف النسائي الوطني اللّبناني خلال سنوات الحرب، وشغلت مناصب قياديّة مختلفة أيضاً، منها، رئاسة المجلس النسائي اللّبناني من العام 1996 ولغاية العام 2000، وعضويّتها في المجلس الاقتصادي الاجتماعي، حيث انتُخبت في شباط/ فبراير من العام 2000 عضواً في مكتبه التنفيذي. كما شغلت منصب عضو في الاتّحاد النسائي الديموقراطي العالَمي وكانت منسّقة المركز الإقليمي العربي لهذا الاتّحاد. شاركت في مؤتمرات عربيّة وعالميّة عدّة، منها المؤتمرات التي نظَّمتها الأمم المتّحدة، كما اختارتها مجلّة “ماري كلير” الفرنسيّة في العام 1995 واحدة من مئة سيّدة يحرِّكن العالَم.

هذه المناصب كلّها التي شغلتها السيّدة ليندا مطر جاءت نتيجة دأبها وحسّها النضالي الحقيقي والصادق قبل أيّ شيء آخر، ولنقُلْ إنّ سماتها الشخصيّة والأخلاقيّة التي وُلدت عليها بالفطرة، هي التي قادتها إلى تلك المناصب. فهي لطالما رفضت الظلم والتمييز من أيّ نوع، وكأنّها مولودة على هذا الرفض الذي أثار لديها الأسئلة في طفولتها، قبل أن يتبلور بالوعي والعِلم والثقافة، وقبل أن يصقله انتماؤها إلى الحزب الشيوعي اللّبناني، وإنْ لفترة وجيزة، وإسهامه في توسيع آفاقها بعد اطّلاعها على الفلسفة الماركسيّة، وعقْدها صداقاتٍ عديدة.

 

فوق الطوائفيّات أحزاباً وجمعيّات

في إحدى مقابلاتي معها، روت لي أنّها في مدرسة دير الناصرة حيث كانت تدرس مجّاناً، “كان الغداء مجّانيّاً لكلّ طالب لديه ورقة فقر حال. وعندما علمتُ بالأمر، امتنعتُ عن تناول الغداء لمدّة أسبوع. كنت خلالها أعود إلى البيت مدّعيةً أنّني تغدَّيت. … رفضتُ إدراجي من ضمن لائحة فقيري الحال، واستنكرَ كياني الطفولي بشدّة هذا التمييز بين البشر… أحداث كثيرة ومواقف صغيرة من هذا النَّوع زادت استنكاري وأَظهرت فيّ عنفواناً، أحسب أنّه وُلد معي من دون أن أدري كيف…”. كما أخبرتني أنّه في أثناء تردّدها، هي وزميلاتها التلميذات إلى الأخويّة للصلاة ذات صيف، خرجَت إلى الدكّان المحاذي للأخويّة لشراء البوظة، مخالفةً بذلك القوانين. وإذا بالأمّ مديرة المدرسة تلومها قائلة إنّ أبناء البانسيون (أي القسم غير المجّاني من الدَّير) لا يتناولون البوظة نهاراً، فكيف تتجرَّأ هي وتقوم بذلك؟! وتعلِّق ليندا مطر قائلة: “ما قصدَته، بالطبع، من خلال هذا اللّوم إفهامي أنّ الأمرَ ممنوعٌ على الأثرياء فكيف بأبناء الفقراء؟ لا أخفي عليكِ حجْم الإهانة التي شعرتُ بها في تلك اللّحظة. رحتُ أتحاشى لمدّة أسبوع اللّقاء بها. وعند دخولها صفّنا لتسجيل أسماء الحضور، بعد مرور أسبوع على تلك الحادثة، طلبتُ من صديقتي الحميمة، وكانت تدعى ناديا، أن تجيب عنّي بكلمة “موجودة”، لئلا تلتقي عيناي بعينَيْ الأمّ المديرة التي أهانتني، ربّما من دون أن تدري، وذلك على الرّغم من حبّها لي وعلى الرّغم من تقديري واحترامي لها…”.

وإذا كان الحظّ لم يُحالف ليندا مطر في الوصول إلى البرلمان اللّبناني بعد ترشُّحها إلى الانتخابات النيابيّة في بيروت مرَّتَيْن في دورة العام 1996 ودورة العام 2000، فلأنّ ترشّحها جاء خارج اللّوائح و”المحادل” الانتخابيّة التي يُعيد الواقعُ اللّبناني وقانونُه الانتخابي من خلالها إنتاجَ الطائفيّة والمناطقيّة والعائليّة والجنسويّة وكلّ المظاهر المُناقضة لدولةٍ ديمقراطيّة حقيقيّة. لكنّ مطر نالت، على الرّغم من ترشّحها منفردة، عدداً مقبولاً من الأصواتٍ في تحدٍّ كبير لانتخاباتٍ تجري في كلّ مرّة على قياس القوى النّافذة، وفي ظلّ عدم اعتماد مفهوم النسبيّة العابر للطوائف والمناطق.

ترشّحها هذا كان خير دليل على مسار هذه المناضلة التي لم تساوم يوماً على مبادئها فكان سلوكها متناغماً مع معتقداتها التي جَعَلَتْها، ولجنة حقوق المرأة، فوق كلّ حزب سياسي طائفي وكلّ جمعية أو تنظيم طائفيّين، لأنّ هذه الأحزاب وهذه الجمعيّات، سواء أكانت نسائيّة أم غير نسائيّة، وبمجرّد كونها تعزف على الوتر الطائفي تكون ضدّ النساء أنفسهنّ اللّواتي يفرّقهنّ قانون الأحوال الشخصيّة، ابن النظام الطائفي، ويُشكّل أحد العوامل التي تعمل على النقيض من حقوقها كحقّ المرأة اللّبنانيّة بمنح جنسيّتها لأولادها، وضدّ الدولة المدنيّة والخيار الديموقراطي اللّذَيْن آمنت بهما وناضلت من أجلهما حتّى الرمق الأخير.

***

*مؤسّسة الفكر العربي

*نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *