رمضان التسامح في حمى الشيخ نهيان

Views: 1230

د. جورج طراد

    إن كان لشهر رمضان المبارك أهميّة قصوى، في كلّ العالم، مقارنة مع بقيّة أشهُر السنة، فإنّ له أيضا في أبو ظبي أهميّة خاصّة تميِّزه، لاسيما في العشر الأواخر حيثُ ليلة القدْر التي هي أفضل من ألف شهر، إذ تضاعف من أجواء التقوى التي تلفّ أيامه جميعًا، وتقوِّي الإلفة بين الناس وتفتح قلوبهم على المزيد من المودّة والصفاء والتسامح.

  وتكتسب تمضية بضعة أيام من الشهر الفضيل في أبو ظبي نكهة مميَّزة، خصوصا إذا ما أسعفك الحظّ، بعد طول انقطاع، في العودة إلى الينابيع الروحيّة الصافية التي دأبتَ على الإرتواء منها، منذ أكثر من ثلاثين سنة، في ربوع وزير التسامح في دولة الإمارات العربيّة  المتّحدة الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان.

 

  والحقيقة، أن حقيبة وزارة التسامح تبدو وكأنها خُلِقَتْ لكي تذهب إلى الشيخ نهيان، بحيث يصح، في هذه الحالة، القول بأن القوس أُعْطِيَتْ باريها.فالرجل، كما يعرفه أحبّاؤه الكثر وأصدقاؤه من كل أقطار العالم، هو رمز حيٌّ ومثال نابض لكل معاني التسامح والانفتاح والحوار.ومجلسه اليومي الذي يكاد ان يكون الوحيد من نوعه في معظم أرجاء العالم العربي، يستقبل يوميّا عشرات الزوار من كل الأهواء والمشارب والمعتقدات، يعبّر فيه كلّ ضيف عن آرائه بحريّة تامة ويتحاور عَبْره الجميع بروح من الإنفتاح العقلاني القائم على احترام خصوصيّة الآخروالتفاهم معه بحثا عن مساحات مشتركة يمكن أن تشكِّل أرضية صالحة للتلاقي والتفاعل.

  كل هذا الحوار المنفتح يجري بمباركة واضحة وتشجيع ظاهر من سيّد المجلس الشيخ نهيان الذي لا تفوته لا شاردة ولا واردة من كل ما يجري في مجلسه، وهو الذي يعرف ضيوفه بالأسماء حتى ولو أتوا إليه من أقصى الدول. واللافتُ أيضا، في السياق نفسه، أن بعض الزوار يقصدون المجلس وهم يرتدون أزياءهم الوطنيّة الخاصة. وليس من النادر أن يلتقي في مجلسه العامر هذا، مرتدي الزيّ الهندوسي مع مرتدي الزيّ السكوتلاندي مع معتمر الريشة الخاصة بالهنود الحمر. إنه لقاء الحضارات وحوارها الدائم. وأهميته القصوى أنه حوار حيٌّ وواقعيّ يدور ببساطة طبيعيّة مذهلة، ولا يكاد يشبه في شيء حوار الحضارات الذي يجري على صفحات الكتب أو في متن الدراسات النظريّة الجافة.

كم كان صامويل هانتغتون نظريّا وجافًّا عندما قال بفكرة صراع الحضارات وملأ الدنيا بها وشغَل الناس! إن ما يجري يوميّا في مجلس الشيخ نهيان بن مبارك، وأمام نظر الحاضرين وبمشاركتهم، يدحض هذه النظريّة في شكل كامل. فليس هناك من صراع ولا مَنْ يتصارعون، إنما ثمّة ألوان حضاريّة متكاملة، تماما كباقة الزهر النضِرة التي لا يعني اختلاف ألوانها خلافًا في ما بينها.

  هذا في الأيام العاديّة. أمّا في أيام شهر رمضان المبارك، فإن الحوار والتسامح يبلغان حدودهما القصوى في مجلس الشيخ نهيان، وفي إفطاراته اليوميّة وجلسات خيمته الرمضانيّة العامرة وصولا إلى جلسات السحور التي يدعو إليها الأصدقاء والمقربين.

وما يزيد من أهميّة هذه الجلسات الثمينة هو عبق الروحانيّة الشفّافة الذي يغلِّف المكان، في كلّ جنبات قصر الشيخ نهيان في وقت صلاة التراويح. فأصداء التقوى تترجّع في المكان مع أصوات الإبتهالات والصلوات المنبعثة من مسجد القصر حيث الشيخ نهيان وصحبه ومدعووه يبتهلون إلى الخالق ويلتمسون رضاه.

 

  إنها جلسات من العمر ، تبقى محفورة في الذاكرة وقد تحوّلتْ إلى موعد سنوّي ثابت ينتظره أصدقاء ومحبو الشيخ نهيان- وما أكثرهم – حتى يبرمجوا مواعيدهم وتوقيت زياراتهم إنطلاقا من ثابتة لا تتغيّر، هي تمضية أيام من الشهر الفضيل في ربوع الشيخ نهيان بن مبارك الذي حافظ على هذا التقليد العريق من أيام المغفور له والده، الشيخ مبارك بن محمد، وهو يسلّمه إلى أنجاله الشيوخ الذين يحرصون على المشاركة في مجالس الوالد بما يضمن تواصل الأجيال والحفاظ على الأصالة العريقة التي تبقى أساسية وفاعلة وصامدة في مجتمع تغزوه الحداثة المخيفة في بعض جوانبها، كتلك التي تنتظرنا على جبهة الذكاء الإصطناعي الذي يطرق أبوابنا بقوّة مخيفة.

  وحدها الأصالة الواعية، والتي لا توصد الأبواب أبدا في وجه الحداثة وإنما تخضعها لمعايير المنطق والأخلاق، هي التي تتكفل بالحدّ من أضرار الذكاء الإصطناعي ومشتقاته، وتحافظ على مجتمعاتنا في وجه العواصف الكثيرة. ومجالس الشيخ نهيان بن مبارك، خصوصًا في أيام الشهر الفضيل، تحمل لنا الأمل في أن نواكب التطوّرات ونبقى، في الوقت نفسه، صامدين ومتمسكين بأصالة هي الوجه الآخر لهويتنا الإنسانيّة المتسامحة. ورحم الله مَنْ قال: أكتبْ الإساءة على الرمال، عسى رياح التسامح تمحوها!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *