الترجمات العربيّة وأثرها في عصر النهضة

Views: 155

سليمان بختي*

يأتي كتاب “الترجمات العربيّة وأثرها في عصر النهضة” (دار نلسن – بيروت في 140 صفحة) ليعيد الاعتبار لأهميّة عامل اللغة في مشروع الحداثة، وفي صدمة الحداثة من الداخل؛ فحين تتجدّد اللغة، نتجدّد معها، ونبني قيم الحريّة والعدالة والتقدّم. يقول اللغوي والأكاديمي الراحل د. عفيف دمشقيّة (1931 – 1996) “إنّ اللغة، أيّة لغة، هي فكر الأمّة”. وهذا ما يراه أيضاً العلّامة واللغوي الكبير الشيخ د. عبد الله العلايلي في علاقة اللغة بالفكر حين يقول: “مقوّم اللغة أن تفكّر، وفرض إنسان بلا لغة، يعني فرض إنسان بلا تفكير”.

عندما قرأتُ كتاب “الترجمات العربيّة وأثرها في عصر النهضة” ذهلت لكلّ عوامل الجدّة فيه، حيث استطاع أمين ألبرت الريحاني أن يقدّم سرديّة تاريخيّة موجزة ومقنعة لكلّ الترجمات العربيّة للكتاب المقدّس؛ وإذ يتوقّف بشكل موسّع عند الترجمة الإنجيليّة التي عرفت باسم ترجمة “البستاني/ فاندايك”، فلأنّها نجمة الترجمات العربيّة في القرن التاسع عشر؛ ولأنّها ارتبطت بمشروع، أو على الأقل، بمنظومة فكريّة قيميّة تنويريّة معرفيّة. ولأنّها كانت حدثاً وجسراً متيناً بين الأثر الديني والأثر العقلاني والعلمي في النهضة. وهذا ما أكّده شارل مالك في حفل الجامعة الأميركيّة في بيروت في العام 1966، والذي اعتبر أنّ ترجمة الكتاب المقدّس هي “أهم حدث وقع للغة العربيّة، بل للنفس العربيّة في القرن التاسع عشر”. كانوا 4 مسيحيين وشيخ مسلم وقاموا بالعمل: بطرس البستاني (1819 – 1883)، ناصيف اليازجي (1800 – 1871)، كرنيليّوس فاندايك (1818 – 1895)، آلي سميث (1801 – 1857) والشيخ يوسف الأسير (1817 – 1889). كيف وصل يوسف الأسير الشيخ الأزهري اللامع إلى تلك الحلقة؟

توفي آلي سميث في العام 1857 والعمل في عزّ احتدامه واستعان فاندايك بالأسير. كان يوسف الأسير (الأزهري) صديقاً لبطرس البستاني، ويزاول تدريس اللغة العربيّة في المدرسة الوطنيّة التي أسّسها البستاني، وفي مدرسة الحكمة. وعندما سُئِل كرنيليّوس فاندايك لماذا فضّلت مسلماً على مسيحي، أجاب: “لأنّه يأتي إلى العمل من دون أفكار مسبّقة حول ما يجب أن يعنيه مقطع ما في النص، ولأنه قارئ واسع”. وبذلك كان الشيخ يوسف الأسير أوّل مسلمٍ وأزهري تُعهد إليه جمعيّة مسيحيّة بضبط ترجمة النسخة العربيّة للكتاب المقدّس وصياغتها. وهذا بحدّ ذاته أمر مذهل، ولا يزال يثير الإعجاب حتى اليوم، وكذلك الإعجاب أكثر وأكثر بالبيئة اللبنانيّة الغنيّة المتنوّعة المشتركة. والطريف أنّ الشيخ الأسير طلب من البستاني وفاندايك، أن يترجم الكتاب المقدّس بلغة قرآنيّة، وهذا دلالة على غنى لغتنا العربيّة وسِعتُها، وكم هي لغة كانزة مكّتنزة وصائدة متصيّدة وتأتي من يائيّة العين بحسب د. عبد الله العلايلي. (https://punandjokes.com/)

لم يوافقوا على طلبه، ولم يتفرّد في إنجاز محاولته. كتب الشيخ يوسف الأسير فيما بعد أربع ترنيمات للكنيسة البروتستانتيّة، لا تزال تُرنّم حتى اليوم. ومن مؤلّفاته: ديوانه “الروض الأبيض”، و”هديّة الإخوان في تفسير ألفاظ القرآن”، ورواية “سيف النصر” وغيرها.

من توصيات الريحاني

يشير أمين ألبرت الريحاني في كتابه إلى ما سمّاه ترجمتي بيروت للكتاب المقدّس في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والتي جاءت تتويجاً لغويّاً وأدبيّاً ولاهوتيّاً لسلسلة الترجمات التسع خلال ثلاثة قرون منذ القرن السابع عشر حتى صدور الترجمة البروتستانتيّة؛ ثم الترجمة الكاثوليكيّة، وإنهما، أيّ الترجمة البروتستانتيّة والترجمة الكاثوليكيّة، شكّلتا معاً رافعة فكريّة وحضاريّة للنهضة العربيّة وإشعاعاتها في القرن العشرين؛ علماً أنّ أمين ألبرت الريحاني يؤكّد في كتابه بأنّ الترجمتين البروتستانتيّة والكاثوليكيّة لاحقاً، تُشكّلان معاً العملين البارزين في حركة الترجمة الأدبيّة في القرن التاسع عشر. وفي توصيات كتابه، يدعو أمين ألبرت الريحاني إلى أن يأتي العهد الجديد بلغة جديدة، فنقرأ إذّ ذاك إنجيلاً عربيّاً واحداً بلغة عربيّة واحدة لجميع المسيحيين العرب.

أما فيما يتعلّق بتأثير الترجمة على أدباء عصر النهضة، فالأمر في رأيي يحتاج إلى كتاب أوسع، ربما، ومجال أوفى ودراسات مختصّة متعمّقة في متابعة نتاج كل كاتب على حدة؛ وهذه مهمّة ثانية ملقاة على كاهل أمين، وعلى كاهل النقّاد اللبنانيين والعرب؛ علماً أنّ التأثيرات تظهر كالينابيع الجوفيّة في اللغة والتراكيب والصور والمناخ والمعاني وفي الغنى والطلاوة التي تسيطر على البيان.

وفي حين يجزم أمين ألبرت الريحاني بتأثير أمين الريحاني وجبران خليل جبران على الترجمة البروتستانتيّة للكتاب المقدّس، فهو يجزم أيضاً بتأثر ميخائيل نعيمة على الترجمة الكاثوليكيّة. لا أعرف لماذا لم يُشر الريحاني في كتابه إلى ترجمة الشاعر يوسف الخال للكتاب المقدّس، لا من قريب ولا من بعيد. يشير أمين الريحاني في كتابه إلى دور مدرسة روما المارونيّة كأوّل اتصال مع الغرب قبل حملة نابليون في أواخر القرن التاسع عشر. في كتابه “وصيتي إلى الموارنة” يكتب الأب وأمين سر البطريركيّة ميشال العويط بأنّ “مدرسة روما كانت همزة وصل بين الشرق والغرب”. ولا بدّ من التنويه بدور مطبعة مار قزحيّا في العام 1610، خصوصاً لجهة طبع الكتب ونشر المعرفة في بلادنا.

لا بدّ هنا من التوقّف عند أهميّة الترجمة في تجديد اللغة وتجديد ذاكرة الأمم والحياة والمفاهيم، وفي تفعيل شروط النهضة والتقدّم. الترجمة باب عملاق ونقطة انطلاق نحو الآفاق، نجح أهل الترجمة في منح الأمم ذاكرتها وأغنوا لغتها. من الترجمة تحدّرت كل العلوم. الترجمة، من وجهة نظر سان كريستوفر، هي أن تحمل الناس على ظهرك، وتعبر بهم من ضفّة إلى ضفّة، وعندما تصل إلى الضفّة الثانية بأمان، تستلقي على الأرض متعباً، منهكاً أكثر بكثير من الذي حملته على ظهرك.

نجيب محفوظ وميخائيل نعيمة

في خطاب الروائي المصري نجيب محفوظ (1911 – 2006) في حفل استلامه جائزة نوبل للآداب عن العام 1988 قال: “جِئتكم من أمّة كانت تشتري ترجمة الكتاب وزنه ذهباً، وكانت تطلق الأسرى في مقابل الكتب”.

ولعلنا نستفيد أيضاً من صرخة ميخائيل نعيمه في بداية القرن العشرين في كتابه “الغربال”، فلنترجم، نعم فلنترجم، فلنغيّر هذا الهواء المستعمل، ونفتح النوافذ لأفق جديد، وإنسان جديد، وروح جديدة، وحياة جديدة.

في ضوء ذلك، لعل السؤال اليوم، هو كيف نعيد الاعتبار والفعل للغتنا العربيّة، تلك اللغة التي اعتمدت عليها النهضة الأوروبيّة في العصور الوسطى، ومنها نهل الأوروبيّون العلوم، ومنها ترجموا إلى اللاتينيّة وغيرها من اللغات.

وبعد، هذا الكتاب جعلنا نستعيد الكثير من أدبيّات النهضة ومعاركها ومحطّاتها الأساسيّة وإعادة ترتيب ذاكرة الحداثة ولسان حالنا يقول نحن جبهة العالم العربي، وسيفه، وترسه؛ ودورنا سيبقى أبداً في اللغة العربيّة والثقافة العربيّة والحضارة العربيّة؛ ومن دون الدور المميّز للبنان وأهله، لا أعرف (والكلام للمؤرّخ كمال الصليبي) إذا كان بإمكاننا أن نطلق عليها بعد وصف “حضارة عربيّة”.

إنه سؤال الهويّة، وإنه سؤال النهضة أيضاُ، يؤرّقنا ويُقلقنا في القرن الحادي والعشرين، مثلما أرّق وأقلق أسلافنا في بداية القرن الماضي. وأن نحافظ على لغتنا وذاكرتنا وتراثنا وكرامتنا وثقافتنا ورأسمالنا الرمزي ودورنا في هذا العالم، لعله الخطّ الأوّل في الدفاع عن حضارتنا من خطر الزوال.

***

*كاتِب وباحِث من لبنان

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *