سجلوا عندكم

“نيويورك في عيون زائرة عربية” لهناء غمراوي… مذكرات امرأة مسكونة بالتجارب والتأملات

Views: 255

د. سحر نبيه حيدر 

ونعود إلى الشمال، إلى الفيحاء العريقة، عاصمةِ شمالنا النابضِ بالخير، موقعِ القلب في عقل ووجدان الجمهورية، مدينةِ التسامُح والتاريخ والتراث، مأوى الغريب وابن السبيل، مدينةِ الكرم والضيافة وحُسن اللقاء.

بداية، أتوجهُ بالشكر إلى الرابطة الثقافية وأباركُ جهودَ القيّمين عليها الذين بفضلهم وبمثابرتِهم على العملِ الدؤوب نحن اليوم مجتمعون. قد يكون اليوم الأخير لهذا المعرض، معرض الكتاب الـ 49، لكنه ليس الصفحة الأخيرة إنما نهايةُ فصلٍ تمت كتابتُه وبدايةُ رحلةٍ نأمل أن تُكتب في سجلات هذا الصرح العريق. (https://www.whitestallion.com/)  

كما أشكر د. مصطفى الحلوة على دعمه المستمر ونشاطاته الثقافية الفيّاضة التي تغنينا وتُفرح قلوبَنا

والشكر الأسمى للعزيزة الصدوقة، ميراي عبد الله شحاده، مؤسسة ورئيسة منتدى شاعر الكورة الخضراء الثقافي على كل ما تقوم به لخدمة الكلمة ونشر ثقافة الإنسان، وعلى دعوتي للمشاركة في هذه الندوة.

والشكر موصول لكل منكم فردًا محبًا حاضرًا وداعمًا لكينونتنا واستمرارية وجود هذا الوطن الذي أنتم وأمثالكُم حراسُه وديمومتُه.

في كل مرة أزور فيها طرابلس تستوقفني أناشيدُ الموج على هذا الشاطئ، الذي احتضن بين حبات رماله وعند أديم السماء، صدى تاريخٍ حافل بالمجد الذي صنعه أجدادُنا ولم يتخلف عنه معاصرون من الكبار.

أستعير من العياشي قوله عن مدينة طرابلس حين زارها: “مدينةٌ مساقيها صغيرة وخيراتها كثيرة، ومآثرها جليلة ومعايبها قليلة، أنيقة البناء فسيحة الفناء، عالية الأسوار متناسبة الأدوار، واسعةٌ طرقها سهلٌ طروقها إلى ما جمع لأهلها من زكاة الأوصاف وجميل الأنصاف، لا تكاد تسمع من واحدٍ من أهلها لغوًا إلا سلامًا، يبالغون في إكرامهم…” أكتفي بهذا القدر وأتمنى أن يستمرَّ العطاء الثقافي على هذه الأرض تظهيرًا لوجه طرابلس الحقيقي.

أما بعد،

قد يتوجّس البعض من كلمة “مذكرات” خوفًا من المُبالغة في سرد الحِكايات الشخصيّة العاديّة التي قد لا تهمّ القارئَ ولا تُمثّله في شيء.

في إحدى المقالات التي كتبها د. أحمد زيدان يقول:”ينصح الخبراءُ العازفين عن القراءة والمبتدئين بها الالتفات لكتب المذكّرات نظرًا لجاذبيتِها وعدم الحاجة إلى التركيز الكبير خلال قراءتها، وهي تقدّم خبرةً وتجربةً يحتاجها المرء بشكل يومي ولحظي، فتختصر له الزمان والمكان. فلا مللَ ولا سأمَ خلال قراءة المذكرات” .(انتهى الاستشهاد). 

ويقول الأديب عباس محمود العقاد “لا أحبُّ الكتب لأني زاهدٌ في الحياة، لكنني أحبُّ الكتب لأن حياةً واحدةً لا تكفيني”. فالمذكرات إذًا حياةٌ ثانية، تشرح لنا البيئة والجو والتاريخ الذي عاشه صاحبها، تنقلنا إلى ذاك الزمان والمكان مع ما تحمل كتاباته من خِبرات عاشها وتجاربَ قد يستفيدُ منها القارئ.

إلا أنّ قراءة مذكراتِ امرأةٍ أمرٌ يثير الفضول، أولًا في ما يتّصل بواقعها الاجتماعيّ وثانيًا باعتبار أنّ السّرد النّسوي يتشكّل بوصفه تمثيلًا لعالم الأنثى الذي يرصُد كمونها وهواجسَها الدّاخليّة، ويحثّنا على البحث بين السطور عن قصص العِشق والمغامرات ومفترقات الطرق التي قد تغيّر المسار في حياتها.

والحق أقول، إنني حين طلبت مني الصديقة ميراي المشاركة في تقديم هذا المولود، أحسست بالخوف أو بالحيرة. كيف لي أن أخذُل صديقتي بعدما أوكلت إليّ هذه المهمة، بخاصة إلى جانب الأستاذ الصديق، الذي أجلّ وأحترم، الدكتور مصطفى الحلوة. 

قلت بيني وبيني: ما لي ولك يا امرأة؟ أفأكون إلى جانب الفيلسوف الروائي الناقد في تقديم وتقييم – إن جاز التعبير- كتابٍ جديد وأنا التي ما زالت تحبو على ضفاف الكلمات، وتسعى جاهدة إلى اللحاق بركب الكبار من بلادي؟ كيف يكون لي ذلك وفي جعبتي بِضعة دواوين تبرعمت وتحاول باتضاعٍ نشر العطر من حولها؟

نعم أعترف، د مصطفى الحلوة، أنني أُصبت بالدهشة.

 فهو القارئ المتابع الجيد لحركة الفكر العربي ونتاجاته، الناقد من طراز رفيع، الذي أضاف الكثير إلى لغتنا العربية من خلال أبحاثه ودراساته وكتاباته على مختلف الصعد.

 لكنني لم أتخاذل لا بل خلته تحديًا جديدًا وشرفًا عظيمًا أن أكون حاضرة إلى جانب رجلٍ أجلّ أدبه وأحترم فكره وأسعى إلى الاقتداء به متى سمحت الفرص.

أحبائي

تمنحنا القراءة حرية التجول في عقول المفكرين والأدباء رغم المسافة التي تفصلنا. نجد أنفسَنا نتحاور، وتجدنا نتشارك أفراح الكاتب واحاسيسه بطريقة عفوية مثيرة للدهشة.

“نيويورك في عيون زائرة عربية” تحمله إلينا هناء غمراوي من مكانٍ جديد، من مكان آخر، من فجرٍ مُغاير لغدٍ مفاجئ لا هو في المألوف مما يخطر في بال.

 مذكرات امرأة أجبرتها الظروف على السكن في بلاد بعيدة، تقول في ص 37 :”وأنا ما زلت في هذه المدينة التي جئتها زائرة ووجدت نفسي فيها مقيمة دون أي تصميم أو تخطيط لذلك”.

لكنها تصيّدت الفرصة وركضت خلف حلمٍ لطالما أرادته، تقول  “كنت ألبي رغبتي بالسفر بين دفتيّ كتاب ينقلني من عالمي المعاش إلى عوالم أخرى. عوالم يبدعها الكاتب وأشاركه أنا في سفري وترحالي إليها ” ص 70. وها هي تحملنا معها في مذكراتها وصار حلمها حقيقةً معاشة وهدفها الآني الذي وصلته بصبر وفرحٍ ومثابرة. فهي تؤمن بأن الحياة فرص ومن واجب المرء تحديد الهدف كي يسمو ويرتقي تقول:”الحياة الفارغة من هدف نسعى إليه، لا طعم لها. والذي يعيش بدون هدف يبقى كصخرةٍ مهملةٍ ملقاة في جانب الطريق يمر الناس بها ولا ينتبهون لوجودها. وبقدر ما تعظُم بعين الإنسان نفسُه ويعلو قدرُها بقدر ما تسمو طموحاته وتطلعاته في الحياة ص 49.

انزلقت الكاتبة إلى عمق دهاليز الكتابة. تكتب عن نفسها عن أيامها، عن أحوال البلاد التي غمرتها بفرح الوجود، تلك التي تصورتها يومًا “ماردًا” لا يحملُ في قلبه سوى الانحلال والفساد والتهوّر، فاذا بها ترسمُ لنا صورةَ بلاد تسكنها الإنسانيّة، وتعرفُ جيدًا ماهيّة التعامل مع الآخر باختلافه. تنقل لنا الصورة المُعاكسة عن نيويورك التي تجتمع تحت مظلتها مختلف الجنسيات من دون تفريق تقول:”(يجتمعون تحت مظلة قانون واحد يفرض عليهم ذات الواجبات ويقدم لهم نفس الحقوق دون أي محاباة”. وتضيف: “رأيت النساء البنغلادشيات والأثيوبيات يمشين في الشارع بكل ثقة وهن ذاهبات الى العمل دون أن يتبادر إلى ذهن أحد أنهن خادمات منازل شأن الصورة النمطية التي نحفظها لهن في ذاكرتنا” ص 22.

تذكرني هذه السيدة الجَسور بابن بطوطة أول رحالة عربي طاف العالم وكتب ودوّن ما رآه

كذلك بمذكرات الأرقش لميخائيل نعيمة وإن اختلفت في المضمون.

فالسفر له الكثير من الفوائد، للروح والنفس والمتعة والمغامرة، فمن لم يعش مغامرة السفر ومغامرة رؤية الآخرين المختلفين والاطلاع على الثقافات ويتأمل العالم من حوله بشكل ملموس ومباشر لا من خلال الإنترنت- كما يفعل غالبيتنا اليوم بسبب الظروف الاقتصادية الضاغطة- فإنما ينقصه الكثير من الأمور الجميلة فألف شكرٍ لأديبتنا التي أشركتنا بتفاصيل يومياتها بأسلوب قصصي مسلٍ، ممزوجٍ بقوة الخيال ودقة الواقع. 

سأنقل لكم بإيجاز ما اكتشفته آن غوصي بين لجج الكتاب، حين رحت أتنقل مع الكاتبة فوق مُنعرجات سطورها ومنبسطات أدبها الشفيف الصادق غير المتكلّف…الحقّ الحقّ أنه عندما يخلو المرء إلى هذه المذكرات ينسلخ من واقعه ويرحل مع “هناء” لساعة أو ساعتين. لا يشعر بالملل بل يرافقها على متن قارب يضج بالحياة، يسمع صوت شلالات نياغرا ويشم رائحة الأطباق المتنوعة، يتذوق الفن الجميل ويُسحر بالموسيقى…فبرزت هنا قدرتُها على وصف الحالات والأشياء والأشخاص والأماكن.

هناء عرفت الحضارة وعرّفتنا على الأوجه المتعددة للمجتمع الأميركي الذي يحترم ثقافة التعايش والاختلاف وتقبل الآخر. 

تقول هناء ص 22-“هنا عرفت أن الحضارة ليست ثوبًا أنيقًا نرتديه، أو محفظة جلدية غالية الثمن نفاخر باقتنائها. وأن قواعد السلوك والإتيكيت التي تعمد فئة معينة من الناس إلى اتباعها، معتقدة بذلك أنها صنف مميز من البشر، ليست مقياسًا للرقيّ ولا عنوانًا للتحضر. نعم رأيت الحضارة تمشي على قدم وساق. لمحتها في عيون الفنانين، الذين يفترشون أرض مانهاتن، ويرسمون المارة مقابل حفنة زهيدة من المال لا تسمن ولا تغني”. وتضيف:” الحضارة ليست أبنية شاهقة ولا أجهزة الكترونية معقدة، ولا وسائط اتصالات حديثة بل هي مدنية تضم كل هذه المظاهر مجتمعة، في ظل تقارب بشري يفسح في المجال للفرد كي يعبر عن ذاته دون المساس بحرية الآخر وبالمبادئ الإنسانية الراسخة”.

لا تبتدع هناء غمراوي الصور الخلابة عن رحلاتها بهدف التباهي، ولا تبالغ في وصف المعاناة لتنال تعاطفنا لذا اتت كتاباتها منضبطةً إلى حدٍ بعيد. رسمت التقاليد والعادات المختلفة، وصفت الألبسة بألوانها وأشكالها وحيويتها ودلالتها، عرضت لنا الطبيعة بمختلف الفصول، بعين مصورٍ بارع، كل ذلك بلغة بسيطة تنفذ إلى القلب بقدر تداخلها مع الحقيقة.

هناء غمراوي، عرفت كيف تحمل وطنيتَها في قلبها وكتاباتها حتى في أسلوبها الشفيف. هي امرأة لبنانية عربية أصيلة، حملت هويّتها وجالت بها بعفويّة صادقة وبسيطة، بأجنحة السلام والمحبة ناثرة تيجان الأزهار من أفكارها العطرة. مسكونة بحب طرابلس كما بحب لبنان وبحب “لغتها الأم” فنسمعها تقول: “اللغة العربية، لغتي الأم التي أعشقها وأفتخر بإتقانها. ويثير قلقها أولئك الذين تنكروا للغتهم الأم وبدأوا يستعملون لغة هجينة لا عربية ولا أجنبية وتسأل لماذا نتنكر نحن العرب للغتنا العربية الجميلة في حين تسعى شعوب أخرى للمحافظة على لغتها الأم وفرضها على البلد المضيف كما هو الحال مع الجالية الإسبانية الموجودة في نيويورك”_ ص 31 وتطلق النداء قائلة:”آن الأوان لنعود إلى رشدنا، آن الأوان لنحسّ بأهميتنا وأهمية لغتنا” ص 32.

في هذه المذكّرات صفحاتٌ من الأدب الخالص، المستوفي شروطُه وجوانبه، من حيث الأسلوب والخيال والمعاني، فهي ليست ذكريات فارغة هدفها تضخيم الأنا وإثبات الوجود الشخصي، بل تأملات وتجارب حياتية، تحفز على الاستفادة من الفرص واستغلالها بطريقة إيجابية.

 وقد برهنت الكاتبة أنها قصصية من طراز خاص إذ تنتقل بالقارئ من موضوع إلى آخر ومن مكان إلى آخر من دون أن يضيع. يطالع أسماء الموسيقيين والمغنيين والرسامين والأدباء.

 نتذوق الفن الرفيع ونعيش مغامرات شيقة، نسافر إلى ماساتشوتس- ستامبفورد- بوسطن- بروكلن- ونتنزه على شواطئ نيو جرسي ولونغ أيلاند سيتي- وكيبك وفارمون وفيينا ونعود الى هانفورد ومتحف مارك توين  الذي يعتبر إحدى التحف المعماريّة المبنية على الطراز القوطي ونجول في الشوارع والساحات والمقاهي 26ص 

كما تناولت هناء غمراوي علاقة الإنسان بالمكان وأشارت إلى الأثر الذي يتركه فينا على المستوى الشخصي والإنساني فنجدها تحيا وهي في هاتيك البلاد البعيدة في أحضان مدينتها “طرابلس” تقارنها مع الواقع كلما جنّ الحنين الذي يلازم الإنسان وإن كان في الغربة فتقول حين زارت لونغ أيلاند ص 34: ” انتابني شعور غريب أفقدني إحساسي بالزمان والمكان. ونقلني إلى عالمٍ آخر أعرفه بل ومعتادة عليه. أليس هذا الرصيف المحاذي للشاطئ يشبه إلى حد كبير الرصيف الموجود في ميناء مدينتي طرابلس؟هذا الجسر أيضًا يذكرني بالجسر الخشبي الممتد فوق مياه المتوسط في مدينتي، والذي كنا نطلق عليه اسم (سنسول)”…

وتعود لتستذكر العربات الخشبية التي تقدم الطعام على طول الشاطئ في طرابلس :”اما الفرق بين هذه المركبات وبين العربات الخشبية الصغيرة التي كانت تنتشر على طول الشاطئ في مدينتي فهو ليس فقط في حجمها وحداثتها، وانما ما تقدمه لزبائنها من تنوع في الأطعمة، بحيث يمثل كل نوع منها تنوع وحضارة غالبية السكان الذين يعيشون في نيويورك وتنوع طرق عيشهم ومأكلهم حيث يمكننا تمييز أصولهم من تنوع سحناتهم المختلفة بين الكوري والهندي واليوناني والمكسيكي والباكستاني والمصري”.

نقرأ في رحلة الكلمات مع هناء غمراوي ثبات الموقف وعمق النظرة وبعد الرؤية وشفافية الروح وبراءة الصدق وسمو الأخلاق ونسيج الوفاء وبريق الأمل وسلاسة التعبير وجمالية الصياغة ورهيف الكلمات ونقاء الصور. ونتلمس خلفيتها الثقافية والاديبة العميقة وروحها الإنسانية والقومية الصادقة حين تتحسر على حال البلاد بعدما تنكرنا لمشاعرنا ورومنسيتنا التي كان العالم يتغنى بها وتمسكنا بالقشور وغمرتنا الأنانية والغيرة والحسد وتماهينا بالآخر ونسينا عاداتنا وتقاليدنا حتى لغتنا الأصلية. وتتساءل إلى أي مدى نحن “نطبق في حياتنا ما تعلمناه من هذا القول: لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه. وتتمنى ان يسود القانون ويحكم كافة افراد الشعب بلا تفرقة ولا تمييز”.

أحبائي لن أخبركم أكثر فالكتاب الذي بين أيدينا غنيّ على مختلف الصعد، بل أشجعكم على السفر في مذكرات هذه المرأة الثقيف، أفلا ترغبون في خوض مغامرات ممتعة؟!

في الختام” من اجتهد وأخطأ فله أجرٌ، ومن اجتهد فأصاب فله أجران”. وأنا أقول هناء غمراوي، أصبتِ

قلمك بسيط لكنه صادق، لا ولن يتعب من القطاف. لا ترمي القلم فلوليدك الجديد أخوة ينتظرون ونحن أيضًا ننتظر.

فإلى اللقاء في عملٍ آخر ومع مولود آخر.

***

*ألقيت في ندوة حول كتاب: “نيويورك في عيون زائرة عربية” للكاتبة هناء غمراوي ضمن  معرض الكتاب 49 – الرابطة الثقافية طرابلس.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *