جيانّي فاتّيمو ونهاية الحداثة

Views: 1597

د.  خديجة زتيلي 

       لفتتْ الفلسفة الإيطالية بشكل عامّ والمعاصرة منها بشكل خاصّ أنظار الناس إليها في العقود الأخيرة، بفضل أطروحاتها ونصوصها الجديدة والعميقة، وفي هذا السياق ينصبّ الاهتمام على نصوص الفيلسوف الإيطالي المعاصر جيانّي فاتّيمو  Gianni Vattimo المولود في عام 1936 بمدينة تورينو الإيطاليّة. ففضلا عن عمله الأكاديمي كباحث وأستاذ للفلسفة في جامعة إيطاليا وخارجها، فإنّه تمرّس أيضا بالسياسة وانظمّ إلى الحزب الشيوعي الإيطالي وقد انتخب لمرتين في عضويّة الاتّحاد الأوروبي، المرّة الأولى في عام 1999، والمرّة الثانية كانت في عام 2009. وتقوم شهرة فاتّيمو على كتابه المهمّ الموسوم بــــ: نهاية الحداثة فقد أوصله هذا الكتاب إلى الشُهرة العالميّة وإلى المنابر الفلسفيّة في أوروبا وأمريكا التي لم تدّخر جُهدا في دعوة الرجل في كل مرّة لكي يحاضر على منصّاتها ويحضر لحلقات النقاش الفلسفي والفكري، الأمر الذي لم يحدث قبل إنجاز هذا النصّ. وينصبّ اهتمام فاتّيمو في كتابه نهاية الحداثة على تحليل أزمات الحداثة وانكساراتها من أجل فهم عميق لمرحلة ما بعد الحداثة ولسبر أغوارها بشكل صحيح، ويستند فاتّيمو في تحليلاته تلك على أطروحات نيتشه Friedrich Nietzsche في العدميّة وهايدغر Martin Heidegger في نهاية الميتافيزيقا أو لنقل إنّ فاتّيمو يرتكز عليهما في تحليله لنهاية الحداثة. ولهذا يتّسم كتاب نهاية الحداثة بالعمق الفلسفي وبمفاهيمه الرصينة المختارة بعناية فائقة والتي لا تدّعي الحسم في القضايا المطروحة.

       من الواضح جدّا أنّ فاتّيمو يبدأ من حيث انتهى إليه القول النيتشوي والهايدغري حول نهاية الحداثة أو نهاية العصر الحديث، ويعترف فاتّيمو بأنّ «التنظيرات، المشتّتة، والتي لا تتّسم دائما بالتناسق، حول ما بعد الحداثة لا تكتسب صرامة ومقاما فلسفيّا إلاّ إذا وُضعت في علاقة مع إشكاليّة العود الأبدي النيتشويّة ومع الإشكاليّة الهايدغريّة فيما خصّ تجاوز الميتافيزيقا» (1). وسيكون من الأجدى في تقديره فهم السياق التاريخي للقول النيتشوي والهايدغيري فيما يتعلق بمقولة ما بعد الحداثة، إذْ يكشف ذلك السياق عن الأحداث والمتغيّرات الجمّة التي طرأت على الانسان جرّاء التقدّم الصناعي الكبير. ولكن كيف يتمّ الربط بين نيتشه وهايدغر وما بعد الحداثة؟ يختصر فاتّيمو جوابه بشأن هذا السؤال بالتأكيد أنّ ”ما بعد” يكمن في الموقف من إرث الفكر الأوروبي الذي حاول نيتشه وهايدغر وضعه موضع المساءلة الجذريّة، ويستكمل هذا الموقف مساره برفض فكرة التجاوز التي تصوّر الفكر على أنه يسير في مسار تصاعدي اتّجاه تأسيس جديد. ولا يعني ”ما بعد الحداثة” في سياق معالجة فاتّيمو، نهاية التاريخ بالمعنى الكارثي له بل «تعدّ ما بعد الحداثة هنا، بما في ذلك خطر احتمال الكارثة الذريّة، الذي هو بالتأكيد واقعيّ، عنصرا مميّزا في هذا الأسلوب ”الجديد” من عيش الخبرة التي يشار إليها بعبارة ”نهاية التاريخ”» (2)، فلا غرو أن يكون وصف تاريخنا الراهن أو خبرتنا الحالية بــــما بعد تاريخيّة هو من قبيل الـــ”مجازفة”. ولا يدّعي كتاب نهاية الحداثة كما ورد في الفقرة الختاميّة من مقدّمته تقديم وصفة حلول ناجزة وحاسمة، بل جاء كأفق وخلفيّة يتحرك ضمنها البحث «بتروٍّ ودراية»، وفوق هذا ربّما يكون جزءا تقليديّا للخطاب الفلسفي.

 

       يستعرض القسم الأوّل من الكتاب عنوان ”العدميّة قدراً”، ويتناولمحورين أساسيينهما: ” تقريظ العدميّة” و”أزمة الإنسيّة”. فعلى صعيد أوّل يُنبّه الكاتب قُرّاءه إلى أنّه ليس بالإمكان هنا تجاهل مفهوم ”العدميّة” عند نيتشه وهايدغر، إذْ يتلخّص معناها عند الأوّل بموت الله وإفراغ القيّم العليا من قيمتها، وعند الثاني بنهاية الميتافيزيقا وتحوّل الكائن إلى قيمة، ولا تعني العدميّة وفق هذا المنظور «أن يكون الكائن تحت سلطة الذات، بل أن يكون الكائن قد تحلّل بالكامل في تداول القيمة في التحوّلات الشاسعة للمعادلة الشاملة «(3). ولكي تكون هذه الأفكار سائغة يعرّج الكاتب على ثقافة القرن العشرين مُتسائلا عن الحلول التي قدّمتها هذه الأخيرة للعدميّة؟ فالماركسيّة مثلا لم تقدّم أجوبة شافية في تقديره، واكتفت بحلول أسطوريّة غير مقنعة، كما وأنّ النقاش الذي دار حول ”علوم الروح” المقابلة للــ”علوم الطبيعيّة” في القرن العشرينلم يثمر هو الآخر أجوبة شافيّة. ولكن وحدها محاولات هايدغر التأويليّة في علوم الروح وارتباطها باللغة قد فسحت المجال أمام «المخارج العدميّة الخاصّة بالتأويل المعاصر» (4). وهاهنا مسألة أخرى يركّز عليها فاتّيمو في معرض حديثه عن العدمّية المتمّمة كون «الخبرة التي تنفتح للعدمي المتمّم، ليست خبرة امتلاء، مجد، وكينونة الكائن، إنّها خبرة متفلّتة من القيّم الأخيرة المزعومة ومستندة، بطريقة متحرّرة، إلى القيّم التي لطالما عدّها التقليد الميتافيزيقي دونيّة وخسيسة، فتحرّر وتعاد على هذا النحو إلى كرامتها الحقيقيّة» (5). وبتعبير آخر إنّه الموت/الولادة الذي بإمكانه أن يفضي إلى خبرة جديدة للواقع، يكون بمثابة الإمكانيّة الوحيدة للحريّة.

       يُثير فاتيمو، في سياق مُتّصل، في كتابه نهاية الحداثة موضوع أزمة الإنسيّة أو الإنسيّة المأزومة جرّاء موت الله، فليس خافيا أنّ «موت الله، مرحلة أوج الميتافيزيقا ونهايتها في آن-هو بالتلازم أزمة الإنسيّة» (6). فعند هايدغر الذي يستدعيه فاتّيمو في هذا التحليل، مُستلهما أطروحاته، فإنّ أزمة الإنسيّة تتحدّد بـــ التقنيّة الحديثة، لأنّها ترتبط ببلوغ الميتافيزيقا نهايتها وبنزع الإنسانيّة وانتصار الحضارة التقنيّة والتكنولوجيا في القرن العشرين، ولا يكتفي فاتّيمو باستدعاء هايدغر لمتنه الفلسفي بل سيعرّج على شبنغلر وكتابه تدهور الغرب الذي ما فتئ هو الآخر يُعبّر عن أزمة الحضارة الحديثة، كما وأنّه يتطرّق إلى كتّاب آخرين طرحوا مسألة تأزم الإنسيّة في أوروبا ووصولها إلى طريق مسدود. ومن الأهميّة بمكان، حسب فاتيمو، التأكيد بأنّه لا يمكن التعافي من الميتافيزيقا في مرحلة ما بعد الحداثة والمرور إلى منظومات فكريّة جديدة ومختلفة إلاّ بالتحرّر من قيمها المتعاليّة من خلال التأويل الأنطولوجي الذي يعكف على فهم الأشياء، وبالتفكير في جوهر التقنيّة الذي لا يمكنه أن يكون تقنيّا البتّة، ويتعيّن علينا لفت الانتباه إلى أنّ فاتيمو يُفضّل هنا استخدام مصطلح التعافي بدل مصطلح التجاوز. فـــ «الذاتيّة ليستْ شيئا نتركه خلفنا كثوب انتهى استخدامه» (7). 

       أما القسم الثاني من كتاب نهاية الحداثة، فيتناول حقيقة الفنّ عبر فصول أربعة هي: ”موت الفنّ وأفوله”، ”انكسار الكلمة الشعريّة”، ”زخرفة تذكار”، ”بنية الثورات الفنيّة”، فالملمح الآخر لنهاية الحداثة عند فاتّيمو هو نهاية الفنّ وأفوله، والذي يعبّر عن حقبة نهاية الميتافيزيقا كما تنبّأ بها هيغل وكما عاشها نيتشه وكما سجّلها هايدغر، ومن المؤكّد أنّ مسألة موت الفنّ تعنينا كثيراً كبشر ولا يمكن غضّ الطرف عنها. لقد تحدّث هربرت ماركوز Herbert Marcuse الذي قاد الثورة الشبابيّة عام 1968 بدوره عن موت الفنّ في العالم المعاصر، مستنكرّا تغوّل التقنيّة في مجال حياتنا وحجبها للفنون، فـــ «ممارسة الفنون، بدءا من الطلائع التاريخيّة مطلع القرن العشرين، تشير إلى ظاهرة عامّة تتمثّل بــ”انفجار” الجماليّة خارج الحدود التأسيسيّة التي وضعها التقليد لها» (8)، وطرحها لمجموعة من الأفكار والتجارب كبدائل ممكنة، وكـــ «أدوات تحريض اجتماعي وسياسي حقيقي» (9). هذا ما جعل ذلك ”الانفجار” يلغي الأماكن التقليديّة للخبرة الجماليّة مثل قاعات الحفلات الموسيقيّة، المسرح، المعرض، المتحف، الكتاب، فيتراجع دورها بذلك لصالح فنون أخرى مثل فنّ الأرض، فنّ الجسد، مسرح الشارع، وغيره من الفنون الجديدةالتيترتبط بالواقع وبالخبرة الحسيّة وتتكئ على التكنولوجيا، هذه الأخيرة التي ساهمت في تعميم الجماليّة اعتقادا منها بأنّ الفنّ يمكن صياغته بواسطة التقنيّة.

       أفْقَد التصوّر الجديد للفنون هالتها الماضيّة وأصالتها فكفّت أن تكون تعبيرا ًإنسانيّاً متعالياً بسبب انجرافها إلى فنون أخرى كالسينما والتصوير، وفي مجتمع ثقافة الجموع يموت الفنّ ويساهم الإعلام المعاصر بشكل كبير في ذلك حين يقوم بتجميل الحياة بمعايير جماليّة عامّة كما يحدث في الإشهار والاعلانات المصوّرة، ولكن حيال ظاهرة موت الفنّ لا تزال الأعمال الفنيّة في المعنى التأسيسي لها صامدة ومثابرة. ورغم كل ما قيل يمكن قراءة ظاهرة موت الفنّ وأفوله فلسفيّا «على أنّها جانب من هذا الحدث الأشمل الذي هو تعافي الميتافيزيقا» (10). أما في ”انكسار الكلمة الشعريّة” فيعود فاتّيمو من جديد إلى هايدغر مستدعيا آراءه بخصوص اللّغة الشعريّة وعلاقتها بالوجود، فاللغة الأصليّة هي اللغة الشعريّة وفي اللغة تتحقّق الألفة الأصليّة مع العالم، فالعمل الفنّي وفق هايدغر وفاتّيمو بمقدوره أن يكون ”تحقيقا” للحقيقة لأنّها «ليست بنية ميتافيزيقيّة ثابتة بل حدثا، وبما أنّها حدث فهي لا تستطيع الحدوث إلاّ في ذاك الانكسار للكلمة» (11) في الشعر كما في النبوّة، حيث تتجلّى اللغة الشعريّة التي تعيد طرح العلاقة بين الكلمات والأشياء بوصفها علاقة خاصّة. إنّ الكائن-للموت بتعبير هايدغر يذكّر بأنّ «العلاقة بين اللغة وقابليّة الموت، التي ”تومض هنا” والتي تبقى مع ذلك غير مموضعة.. تعني أنّ انكسار الكلمة في القول الأصلي وفي الشعر.. يجب أن يفهم على أنّه محدّد بعلاقته بقابليّة الموت المكون للكائن الوجودي» (12)، إذْ يمنح الشعر قابليّة تصوّر أفق رحب لخبرات جديدة ولعوالم يقوم الشعراء بتأسيسها.

       يستعيد الفصل الموسوم بــــ ” زخرفة تذكار” الذي يندرج في القسم الثاني منكتاب نهاية الحداثة أطروحات هايدغر حول أصل العمل الفنّي، التي كان قد طبّقها على النحت وفنون الفضاء، ووجد فيها فاتيمو، بعد قراءة متأنيّة، بعض التعديلات أو الانحرافات للتعريف الذي سبق وأن حدّد العمل الفنيّ على أنّه ”تحقيق للحقيقة”! ولربّما يدخل هذا التحوّل، الذي يتوقّف عنده فاتّيمو في عُجالة، في إطار سيرورة تشكّل وتطوّر الفكر الهايدغيري، ما أدّى، بطبيعة الحال، إلى طرح صياغات جديدة للمفاهيم من طرف هايدغر. فهل سيظلّ الشعر حاضرا في كلّ الفنون؟ لقد أتاح اكتشاف المكانيّة عند هايدغرالتحوّل نحو مسار جديد والابتعاد عن مواقف وردتْ في نصّوصه الأولى، التي شكّلت فيها الزمانيّة المسألة الأساسيّة في طرح موضوع الكائن، وبرأي فاتّيمو أدى ذلك إلى نتائج جديدة فيما يتعلق بالموقف الجمالي من فنّ الزخرفة. فـــ «تحقيق الحقيقة كما يراه هايدغر لا يتحقّق عبر مصالحة وملاءمة تامّة بين داخلي وخارجي، بين فكرة وظاهر ملموس، بل من خلال استمراريّة الصراع بين ”عالم” و”أرض” داخل العمل» (13)، وهذا الطرح هو الذي يبدو طريفاً، فالأرض تبدو في بعد الزمانيّة إمكانيّة لــــ”عوالم مستقبليّة” و”انفتاحات تاريخيّة”. ويفضي مبحث الحقيقة في الفنّ عند هايدغر إلى نقطتين أساسيتين هما:

1-«الحقيقة التي تستطيع الحدوث لا تملك سمات الحقيقة من حيث هي جلاء موضوعي، بل تملك سمات ”انفتاح العالم” الذي يعني موضعة العمل ووضعه في الخلفيّة..».

2-«الحقيقة صُورت على هذا النحو، فالفنّ الذي هو تحقيق لها، يتحدّد بتعابير أقلّ تفخيميّة ممّا يعتقد» (14). هذا ويؤول العمل الفني في نهاية المطاف إلى تذكار ليدوم ولكن ليس كحضور ممتلئ بالشيء الذي يحمل ذكراه وحسب بل بوصفه تذكارا قادرا على الديمومة.

       في الفصل الموالي المتعلّق بـــ”بنية الثورات الفنيّة” يطرح فاتّيمو سؤاله ”هل يمكن بناء خطاب، بالاستناد إلى صيرورة الفنون”؟ مماثل لذاك الذي طرحه توماس كوهن في كتابه بنية الثورات العلميّة الذي صدر عام 1962؟ يبدو للوهلة الأولى أنّ الخوض في سؤال الثورات الفنيّة هو أسهل وأصعب في الوقت نفسه من الخوض في سؤال الثورات العلميّة، أسهل لأنّنا في الفنون لا يمكن قياس التحوّلات والتغيّرات بمقياس موضوعي وتحديدها كونها تقدّما أو تراجعا في التاريخ، وهذا بسبب اختلاف وتناقض وجهات النظر، فلا يوجد في الفنّ قيمة أساس واحدة، وهذا رأي بندتو كروتشه أيضا الذي استبعد إمكانية وجود تاريخ حقيقي للفنون. إنّ المسألة المطروحة والتي «تجعل بناء خطاب ”جمالي” مثيل لخطاب كوهين أصعب ممّا يبدو، هي تحديدا، وعلى يد كوهين أيضا، أنّ التمييز بين إطار للعلوم يمكن الحديث فيه عن تقدّم، أي عن اقتراب تراكمي من حقيقة الأشياء، وإطار للفنّ لا تعطى فيه العلاقة بالحقيقة بعبارات بيّنة على هذا النحو، هو الآن في أزمة بشكل واسع» (15). ويبدو جليّا من النقاشات الإبستمولوجية التي أفرزها خطاب كوهين وجود تنافر جليّ بين العلم والفنّ، وإذا طرحنا أمثلة تاريخيّة لهذا التصوّر يمكننا المقارنة بهذا الصدد بين العالم نيوتن والشاعر هوميروس، فما قدّمه نيوتن يتطلب عبقريّة وعقلا كبيرا يمكن تعلّمه، لكن من المستحيل تعلّم نظم الشعر كما عند هوميروس، فالعبقريّة الشعريّة لا يمكنها أن تعلّم لأنّ موهبة الفنون فريدة من نوعها، أما العلم فهو تراكمي ويخضع لمفهوم التقدّم، ففي سياق ”دنيوة” التقدّم يتّخذ الفنّ موقف شعار وحسب.

       ويتوقّف القسم الثالث والأخير والموسوم بـــ نهاية الحداثة، عند الفصول: ”التأويل والعدميّة”، ”الحقيقة والبيان في الأنطولوجيا التاريخيّة”، ”التأويل والأنثروبولوجيا”، ”العدميّة وما بعد الحديث في الفلسفة”. ويستأنف خطاب ”التأويل والعدميّة” مساره في نصّ فاتّيمو باستدعاء نيتشه وهايدغر، فاستناداً إلى نصّ نيتشه المعنون إرادة القوّة فإنّ العدميّة تعني غياب الأساس كمكوّن لوضع الانسان وهي الاعتراف بموت الله، في حين تشكّل لاتماثليّة الكائن والأساس إحدى النقاط الأساسيّة صراحة في أنطولوجيا هايدغر، فـــ «ليس الكائن أساسا، وكل علاقة تأسيس تعطى دائما داخل حقبات الكائن بمفرده، لكن الحقبات في حدّ ذاتها يفتحها الكائن، لا يؤسّسها» (16). هذا وينبني التأويل الهايدغري على العبور إلى الفكر بوصفه استذكارا ونمطا فكريا يقابل الفكر الميتافيزيقي المهيمن عليه نسيان الكينونة، وذلك من خلال استعراض أهمّ مراحل الميتافيزيقا التي تُعبّر عن ذاتها في أحكام الشعراء والمفكّرين. ويتحدّد الاستذكار عند هايدغر كونه ”قرار استباقي للموت”، فتتأسّس بذلك تأويليّة يكمن أساسها في غياب الأساس، فما يحرّر من التفكير التقليدي ليس الجلاء للمبادئ والأسس بل ”القفز في هوّة قابليّة الموت”.

       يُقرّ فاتّيمو في ”الحقيقة والبيان في الأنطولوجيا التاريخيّة” بنيّته في فحص العلاقة بين الحقيقة والبيان انطلاقا من تأويل هانس غادمر، الذي يبقى في نظره أحسن من موضع العلاقة بينهما بطريقة حاسمة في كتابه الحقيقة والمنهج عام 1960 وهذا في سياق الفكر الهايدغري فيما يتعلّق بالكائن واللّغة. فأطروحة هايدغر الأساسيّة تخْلص إلى أنّ اللّغة هي مسكن الكائن وهو لا يُفهم إلاّ من خلالها وينحلّ فيها، وما كان واضحا في الحقيقة والمنهج، من وجهة نظر فاتّيمو، هو أنّ «معظم الثقل الممنوح للّغة يترافق مع الاهتمام الأخلاقي الذي يقود إلى التأويل الغادمري، بل يعود بأصله الحقيقي إليه» (17). فثمّة مفاهيم استخدمها غادمر في الحقيقة والمنهج كـــ”انصهار الأفق” قد توسّلت بالأخلاق الأرسطيّة، لكن ما يتّضح في المباحث التي أعقبت صدور هذا الكتاب أنّ إطار اللغة من حيث كونها عطاء الكائن ومسكنه يتميّز على أنّه «إطار أخلاقي أكثر ممّا هو حدث لغويّ» (18)، ولا يتعلّق الأمر عند غادمر بأنّ كلّ خبرة تغدو ممكنة بواسطة حيازة اللّغة،كما لا يجري الحديث في هذا السياق عن ”اللغة”، بل عن ”لغة” محدّدة تاريخيّا تحمل صفة العقلانيّة وتمثل لوغوساً حيّا بالتعبير الغادمري وتؤكّد على العلاقة بين اللّغة والأخلاق، وبين الحقيقة والبيان.

       إنّ المنهجيّة المتّبعة في دراسة العلوم تختلف بلا شكّ عن تلك التي تُستخدم في الفنون، ففي هذه الأخيرة تستند الحقيقة التأويليّة إلى البيان الذي يعني بالتعبير الغادمري ”فن الإقناع بواسطة الخطابات”، غير أنّ الأمر لا يغدو بهذه السهولة وبهذا التسطيح للمسألة، فنَقْل نتائج العلوم إلى الوعي العام لا يرتبط فقط بصيرورة اللّغة بل بكونه فعلا أخلاقيّا فضلا عن ذلك، ومن الأهميّة بمكان التشديد على هذا الارتباط. فالحقيقة في العلوم لا تتمثّل في إثبات قوانين العلم وحسب بل في ”نقل” هذه القوانين إلى وعي الناس، وفي هذا السياق تُفهم أطروحة هايدغر التي مفادها أنّ ” العلم لا يفكّر”. ويصوغ فاتّيمو، في نهاية المطاف، نظريّة غادمر المتعلّقة بالثورات العلميّة على أنّها «اختزال للمنطق العلمي في البيان، في المعنى المحدود الذي يشير إلى أنّ النظريّات العلميّة لا تبرهن سوى داخل نماذج، ليست بدورها مبرهنة ”منطقيّا”، بل مقبولة استنادا إلى إقناع بياني النوع–كيفما تتأسّس واقعاً» (19)، مع لفت الانتباه إلى أنّ الكثير من النقد الهايدغري للميتافيزيقا المتمّمة ونسيان الكائن يخفّ أو يغيب في مبحث الحقيقة والمنهج، فالذي كان يهمّ غادمر أكثر في هذا الكتاب هو الحدّ من غلواء عقائد العلوم التقنيّة والسعي إلى تحقيق عقلانيّة اجتماعيّة تتصالح مع الميتافيزيقا الغربيّة وتكرّس استمراريّة جوهريّة لها. وفي رأي فاتّيمو فإنّ سبب تباعد فكر غادمر عن هايدغر يكمن في طبيعة تصور كلّ واحد منهما للفنّ، وسيكتشف القارء بيسر شديد، من خلال هذا النقد، ميولات فاتّيمو التي لا تخفي انحيازها إلى مواقف هايدغر وانسياقه مع أطروحاته.

       ويفْتتح فاتّيمو الفصل المعنون ”التأويل والأنثروبولوجيا” باستدعاء كتاب مهمّ للفيلسوف الأمريكي ريشار رورتي، الموسومبـــالفلسفة ومرآة الطبيعة والذي يتمحور موضوعه حول ”نقد النموذج التأسيسي للفلسفة الغربيّة”، ففي مقطع منه ينتقد رورتي هابرماس فيالخلط الواردبين وجهة نظره المتعلّقة بالأنثروبولوجيا والفلسفة التجاوزيّة، فإذا كانت وظيفة المعرفة عند هابرماس في سياق الحياة العمليّة لا يمكن تحليلها إلا في إطار فلسفة تجاوزيّة متجدّدة، فإن رورتي على العكس من ذلك يرى أنّ هذا المسعى الأخير هو بلا جدوى لأنّ الأنثروبولوجيا الثقافيّة هي الهدف، ويبدو من خلال هذا الجدل، الذي يعرضه فاتّيمو، أنّ الخلاف الإبستيمولوجي بين الرجلين عميق، ورفعا لأيّ لبس يجتهد فاتّيمو في تعزيز فكرة الكفّ عن ممارسة أنثروبولوجيا ميتافيزيقيّة والسير نحو أنثروبولوجيا ثقافيّة تُسخّر منهج التأويل في المعرفة، وتكفّ عن تقديم خطاب أنثروبولوجي يدّعي تقديم بُنى عامّة للثقافات والحضارات المختلفة تتحكم فيها المقولات الغربيّة.

       يستعيد فاتّيمو مسعى التأويل في هذا الباب بالإحالة إلى موقف رورتي في اعتبار الأنثروبولوجيا هي خطاب عن الثقافة الأخرى بعيدا عن المركزيّات وقيّم الإثنيّة والعرقيّة، وفي نقد النموذج التأسيسي للفلسفة الغربيّة الذي سعى جاهدا لكي يماثل بين ”الفلسفة والإبستيمولوجيا”، فالتأويل نقيض الإبستيمولوجيا، إذْ «تتأسّس الإبستيمولوجيا على فرضيّة أنّ جميع الخطابات تقاس بعضها ببعض وتترجم في ما بينها، وأنّ تأسيس حقيقتها يكمن تحديدا في الترجمة إلى لغة أساس، لغة انعكاس الوقائع في حين أنّ التأويل يقرّ بأنّ لغة موحّدة كهذه لا تعطى، بل يجدّ السعي إلى استيعاب لغة أخرى بدل أن يترجمها إلى لغته» (20)، ولا يعني هذا، حسب رورتي، في كتابه الآنف الذكر بأنّ الإبستمولوجيا تُقصي التأويل بل إنّه يعني أنّ مجال تداول كل واحد منها مختلف عن الآخر. وفي تصوّر فاتّيمو الاستنتاجي الذي يعرضه في ختام فصل ”التأويل والأنثروبولوجيا” «ليست الأنثروبولوجيا-وكذلك التأويل-اللقاء مع الغيريّة الجذريّة ولا ”التنظيم” العلمي للظاهرة الإنسانيّة تبعا لبنى، إنّها تنطوي، على الأرجح، على شكلها.. -المتمثّل بالحوار مع القديم-إنّما بالطريقة الوحيدة التي يستطيع فيها القديم أن يعطي ذاته في عصر الميتافيزيقا المتمّمة: شكل البقاء والهامشيّة والعدوى» (21).

       ويختتمُ الفصل الذي يطرح مسألة ”العدميّة وما بعد الحديث في الفلسفة” القسم الثالث والأخير من نهاية الحداثة، حيث يُعيدنا الكاتب إلى نقطة الانطلاق، إذ لا يكتسب الحديث ”عن ما بعد” مشروعيّته في نظر فاتّيمو من دون العودة إلى مفهوم هايدغر في ”التعافي”، والذي يعني أيضا في سياق نصوصه التجاوز أو التخطّي، وإن كان يتميّز عنه لأنّه «لا يحتوي على شيء من الإبطال الجدلي، ولا من ”الترك خلف الظهر” الذي يميّز علاقة مع ماضٍ لم يعد لديه شيء يقوله لنا. فالفرق بين التعافي والتجاوز هو تحديدا ما يستطيع أن يساعد على تحديد الـــ ”مابعد” في ما بعد الحديث بتعابير فلسفيّة» (22)، ولأن المفاهيم أيضا لها تاريخ يُذَكِّر فاتيمو في هذا المقام بأن الفيلسوف الأوّل الذي استخدم تعبير ”التعافي” هو نيتشه وليس هايدغر، وإن لم يأت ذكر الكلمة في نصوص نيتشه بصريح العبارة، وأنّ ما بعد الحداثة الفلسفيّة قد وُلدت في أعماله حين انتقد الوعي التاريخي المتأزّم في ولاءه للماضي بشكل مرضيّ ومبالغ فيه، الأمر الذي أعاق الفرد على اكتشاف أسلوب جديد وخاص في الحياة، وتبدو رسالة نيتشه واضحة، في هذا المقام، إذ تؤكّد على أنّ التجاوز لا يجب أن يُفهم في المعنى الزمني التعاقبي للحضارات، بل في المعنى الذي يُعبّر عن التجاوز النقدي. كما يعيد فاتّيمو في ختام كتاب نهاية الحداثة تذكير القارئ بأهميّة التأويل عند هايدغر في المعنى الأنطولوجي له، والذي يعني أنّ الكائن ليس سوى ”نقل الانفتاحات التاريخيّة” وأنّ خبرة الكائن وهي خبرة استقبال هي دائما تعاف واستذكار، ويتحقّق التعافي عند هايدغر بإعادة تشكيل الاستمراريّة بين التكنولوجيا وتقليد الغرب الماضي بوصف التقنيّة تتمّة للميتافيزيقا، وسيكون هذا المسعى بمثابة فرصة جديدة لمرحلة ما بعديّة. 

***

هوامش 

 (1) جانّي فاتّيمو، نهاية الحداثة، تر: نجم بو فاضل، (بيروت: المنظّمة العربيّة للترجمة، ط1، 2014)، ص11.

(2) المرجع نفسه، ص16.

(3) المرجع نفسه، ص 32.

(4) المرجع نفسه، ص 33.

(5) المرجع نفسه، ص ص 36-37.

(6) المرجع نفسه، ص 44.

(7) المرجع نفسه، ص 59.

(8) المرجع نفسه، ص 65.

(9) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

(10) المرجع نفسه، ص72.

(11) المرجع نفسه، ص 91.

(12) المرجع نفسه، ص 83.

(13) المرجع نفسه، ص 95.

(14) المرجع نفسه، ص 101.

(15) المرجع نفسه، ص 106.

(16) المرجع نفسه، ص 136.

(17) المرجع نفسه، ص 152.

(18) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

(19) المرجع نفسه، ص ص 158-159.

(20) المرجع نفسه، ص 172.

(21) المرجع نفسه، ص 187.

(22) المرجع نفسه، ص 189.

***

(*) أكاديميّة وكاتبة من الجزائر  

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *