مطبخ فيتغنشتاين أو الإجرام بالكلام

Views: 502

د. خالد النجّار*

هنا نصّ عن عنف اللّغة والمصطلح الإجراميّ وفنّ التحكّم في الوعي وإعادة صياغته وهندسته عن طريق صياغة المصطلح… هي محاولة أولى، ولا بدّ أن يأتي في ما بعد مَن يُصلِّح ويشذّب ويطوّر؛ ثمّة قاموسٌ كاملٌ بحاجة إلى تفكيك كلماته…

يقول الفيلسوف اليهوديّ النمساويّ فيتغنشتاين إنّ كلّ ما لا يُمكن التعبير عنه، هو غير موجود. هذا التعريف يتضمّن إمكانيّة خلق واقع بواسطة كلمات نبتدعها؛ بمعنى تخليق واقع عن طريق إيجاد كلمات تستقرّ في الوعي وتحوّله إلى وعي مزيّف. بما أنّ حقيقة الواقع هي الوعي به، ولا وعي بالواقع خارج الكلمات. لأنّ اللّغة لا تكذِّب الإنسان، بل هو الذي يكذِّب.

وفي معركة تشكيل وعي الجماهير، يصير تنظيم الكلام والسيطرة عليه أداةَ تحكّم أساسيّة. من أمثلة ذلك:

محرّمٌ ذكرُ اسم فلسطين، وللتعبير عن ذلك البلد العربيّ، تمَّ وضع أسماء بديلة في الإعلام؛ فهي تُسمّى بشكل مجزّأ: القطاع والضفّة الغربيّة وأراضي 1948 وغزّة.

نحن نقول جنوب لبنان، وألمانيا الشرقيّة، وألمانيا الغربيّة، ونادراً ما نقول شمال فلسطين أو جنوبها، أو غزّة الفلسطينيّة.

في النصوص القانونيّة، وفي المُعاهدات ووثائق تحديد المناطق الفلسطينيّة، استنبطوا حيلة لغويّة حتّى لا تُذكَر فلسطين؛ تراهم يتجنّبون التراكيب التي تُثبت هويّة الأرض، فيقولون، مثلاً، أراضٍ، هكذا بصيغة غير معرّفة.. كما يطلقون على مناطق بعينها أحرف باء، وجيم… يقولون الضفّة الغربيّة، وهو تعريف جغرافيّ حياديّ غامض. والقارئ العاديّ في العالَم لا يدري ماذا تعني هذه التسمية؛ فالعالَم كلّه ضفاف شرقيّة وغربيّة لخلْق الغموض، وهو سلاح فعّال في الرأي العامّ.

لقد جهدوا في إقناع العالَم بسرديّتهم مع التعتيم والتغطية على فحشهم في قتل الفلسطيني، لأنّه لو كُشِف إجرامهم، فسيكون من المستحيل الدّفاع عنه.

حرب المصطلح حرب الّلغة

هكذا نَحَتوا مصطلحات وتعابير وصيغاً وتراكيب لغويّة تُفضي إلى مفاهيم، من شأنها أن توحي أو حتّى تُحدِّد لدى المتلقّي القناعات التي يريدون أن يصل إليها. هذه الصيغ والتعابير والمصطلحات تزيِّف الواقع، وتتسرّب إلى لاوعي المتلقّي قارئاً أو مُستمعاً، وفي غفلة منه تدفعه إلى استخلاص استنتاجاتٍ يظنّها من إبداعه، وهي في حقيقتها كامنة في تسمية الأشياء. ما يعني أنّ البروباغندا اليوم تجاوزت لديهم مفهومَ الدعاية الفجّة مثل الدعاية لمشروب الكوكاكولا. لقد تخلّوا عن هذا الأسلوب وانتقلوا إلى أسلوب أكثر تعقيداً يتمثّل في إعادة بناء التصوّرات والمفاهيم لدى المتلقّي للتحكّم في وعيه؛ بما أنّ لدى هذا المتلقّي قابليّة الاستجابة السريعة، كما أوضحت تجارب عديدة. ففي فرنسا، حيث هناك رأيٌ عامٌّ مُستنير، تمّ انتخاب شابّ بلا تجربة سياسيّة تُذكر، كما يُفصِح تاريخه على الأقلّ، إذ إنّ كلّ خبرته قبل تولّيه رئاسة فرنسا شهر من العمل السياسيّ.

إضافة إلى التحكّم في الوعي عن طريق وضْع مصطلحات مزيَّفة أو ما أسمّيه الإجرام بالكلام، ثمّة الجرعات الأخرى المُساعِدة التي يتكفّل بها الإعلام عن طريق التكرار، والاستعانة ببعض الأكاذيب المُتقَنة، وأخطرها تلك التي تُمرَّر من خلال الحقائق، وصنع المشاهد التلفزيونيّة بوسائل المُغالَطة السينمائيّة وتقنيّات الإيهام المرئيّ الهوليوودي… إلخ.

كلّ هذا لإعادة البرمجة النفسانيّة والفكريّة لشعوبنا وخلْق وعي مزيَّف لديها يَقبل السرديّة الصهيونيّة، مُزيلاً عن العدوّ صفة العدوّ، أو ما يسمّونه إزالة الجدار النفساني، وهو التعبير الذي لقّنوه للسادات إبّان رحلته الكارثيّة إلى الكيان.

سقوط الجدار النفساني يحوّلهم لدى العربيّ إلى دولة عاديّة مُمكن إقامة علاقة معها. وقد نجحوا في مسعاهم هذا إلى حدٍّ كبير. وهكذا تَجد كثيراً من مصطلحات السرديّة الصهيونيّة متفشّية إلى حدٍّ كبير في لغة الإعلام العربيّ.

التطهير بالقتل المنهجيّ للفلسطينيّ

العالَم يدري أنّ هناك تطهيراً عرقيّاً: حذْفُ شعب وإحلال آخر مكانه. وهو الأسلوب الاستعماريّ نفسه الذي مارَسه الرجل الأبيض منذ القرن السّادس عشر في القارّة الأميركيّة، وفي أستراليا وغيرها. وما التفاوُض مع الفلسطينيّين سوى ضحك على الذقون. فالأيديولوجيا الصهيونيّة والأفكار التي قامت عليها من أيّام “هرتزل”، تنفي على الإطلاق وجود شعب فلسطيني، وظلّت غولدا مائير تردِّد حتّى وفاتها: لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني. وشعارهم “فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، ما يزال يتردّد. هذه بديهة يعرفها الجميع. وما يتمّ فوق الأرض ليس احتلالاً وتوغّلاً، كما هو مُتداوَل في الإعلام العربيّ، وإنّما هو تطهير عرقي.

قدوم المُحتلّين هجرة

المُفارَقة أنّه تمَّ استعمار فلسطين في أوج لحظة تصفية الاستعمار في العالَم، فكان لا بدّ من إخراجٍ لغويّ لهذا الاستعمار الصهيونيّ.

وابتدعوا قاموساً متكاملاً لتمرير عمليّة استعماريّة من دون أن تتنبّه لها قوى التحرّر من الاستعمار في العالَم، فأطلقوا على عمليّة الاحتلال هجرة، وأطلقوا على تاريخ إنشاء الدولة الاستعماريّة استقلالاً، وأشاعوا هذا المصطلح في العالَم.

بيد أنّ هناك قسماً من النُّخب الغربيّة المتضامنة مع الفلسطينيّين تدري ما معنى الاستعمار الاستيطاني، وما معنى التطهير العرقي، لأنّها خبرته في تجربتها التاريخيّة، فهي تنتمي إلى دولٍ ومُجتمعاتٍ مارستِ التطهير العرقي في العالَم منذ أواسط القرن الخامس عشر. لذلك لا تجدها تستعمل كلاماً أدبيّاً من نوع توغّل واحتلال، كما هو في لغة الصحافة العربيّة.

الصراع العربيّ – الإسرائيليّ كغطاء للجريمة

علينا أن ندري أنّ ما يدور في فلسطين، ليس كما يصفه الصهاينة بذاك التعبير الحياديّ والإجراميّ الذي يسوّي بين المُجرم والضحيّة والمتمثّل في مصطلح: الصراع. وتراهم يردّدون عبارات من مثل: صراع فلسطينيّ – إسرائيليّ أو عربيّ – إسرائيليّ، زيادةً في المغالطة (يتساوق هذا التعبير الأخير مع الصورة الأبديّة لليهودي الضحيّة، وأنّهم شعب صغير يتكالب عليه العرب كثيرو العدد). ومن دونِ فحص وتمحيص، يتلقّف الإعلامُ العربيّ هذا المصطلح/ الطعم الإعلامي: صراع، والذي يُضفي مزيداً من الغموض والتعمية حول حقيقة استعمار فلسطين. ثمّة صراع هكذا مبنيّ للمجهول.. يعني انتفاء الفعل الاستعماريّ وفعل المقاومة ضدّه.

القضيّة الفلسطينيّة بدل الاستعمار الصهيونيّ

ليس هناك قضيّة، ثمّة استعمار. كنّا نقول الاستعمار الفرنسي للجزائر، لم نقُل الاستعمار الصهيوني لفلسطين. ما يتمّ على أرض الواقع، هو استعمار.. غابت كلمة الاستعمار الصهيونيّ لفلسطين؛ الاستعمار تعبير خارج التداوُل على الإطلاق، لا في الإعلام العربيّ ولا في غيره.

والناس تدري أنّ فلسفة الحركة الصهيونيّة، هي كوكتيل من دينٍ وإيديولوجيا قوميّة فاشيّة، هدفها الاستراتيجي، كما جاء في كلّ أدبيّاتهم تطهير الأرض المقدّسة التي وعدهم الله بها من العرب الأنجاس. هذا ما تقوله سرديّتهم.

والحال أنّ الإنسان لا يستطيع التمتّع بحقوق المُواطَنة في الدولة التي بعثوها، إذا لم تكُن أمّه يهوديّة؛ بما يعني أنّها دولة عنصريّة دينيّة وتسوِّق نفسَها للعالَم كدولة لائيكيّة ديمقراطيّة، وينطلي ذلك على كثير من النُّخب العربيّة، بخاصّة في المستعمرات الفرنسيّة السابقة، حيث يكثر أنموذج المثقّف الكولونيالي الفرنكوفوني المُستلَب، والذي يتماهى مع السرديّة الفرنسيّة المُتصهْيِنة بدورها. ولا ننسى أنّ فرنسا أحد الداعمين الكبار للكيان منذ نشأته، وهي التي قدّمت له أكبر إنجاز استراتيجي: مفاعله النووي.

يقولون “إسلام سياسيّ” ولا يقولون يهوديّة سياسيّة

وهُم في الإعلام الصهيونيّ والغربيّ بعامّة، لا يسمّون “شاس” وباقي الأحزاب الدينيّة الإسرائيليّة بأسمائها، وإنّما يقولون أحزاب أقصى اليمين، أو يمين الوسط؛ وتتماثل وتتشاكل بالتالي في وعي الغربيّين بأحزابهم اليمينيّة اللائيكيّة؛ ما يخفي صبغتها الدينيّة. كما لا يطلقون عليها اليهوديّة السياسيّة. كما هو الأمر في الغرب لا يطلقون على الأحزاب ذات الخلفيّة المسيحيّة مثل الديمقراطيّين المسيحيّين صفة المسيحيّة السياسيّة. ولكنّهم يقولون الإسلام السياسي، وهو تعبير غربيّ محضْ. تعبير عدائي ترانا نكرّره بلا فحص، بل بزهو.

الأسماء العربيّة للشيْطَنة

في المقابل، تراهم في الإعلام الصهيونيّ يرطنون أسماء المنظّمات الفلسطينيّة مثل “حماس” و”الجهاد” بتهْجِئتها العربيّة، كذلك كلمات الانتفاضة والفدائيّين وفتح، بالتهْجِئة نفسها والتلفُّظ العربيَّيْن فيقولون INTIFADA (انتفاضة) والناس في الغرب لا تعرف المصطلح العربيّ، ما يُضفي على هذه التنظيمات المُقاوِمة غموضاً يبعث الخوف لدى القارئ الغربيّ، وبالتالي تسهل شيْطَنة هذه المنظّمات “الغامضة”، ويسهل وضعها على قائمة الإرهاب الذي ابتدعوه.

لأنّهم لو نقلوا كلمات جهاد، ومقاومة، وفدائيّين، إلى لغاتهم فقالوا resistance and resistant باللّغة الإنكليزيّة، لَتَعاطَفَ مع الفلسطينيّين قسمٌ كبيرٌ من الرأي العامّ الغربيّ، لأنّ كلمة

مُقاوَمة resistance توحي لدى الأوروبي بمعانٍ شرعيّة، وهي تُستعمل تحديداً في أوروبا الغربيّة ومنذ نهاية الحرب العالميّة الثانية بمعنى المقاومة ضدّ الاحتلال النّازي: resistance. إنّها كلمة تُشرْعِن حرب التحرير الفلسطينيّة لدى الرأي العامّ الغربيّ. لذلك تَجد كلّ الإعلام في الغرب، وبخاصّة مؤسّساته الكبرى مثل “البي. بي. سي” و”السي. أن أن” يحتال على الموضوعيّة التي يدّعيها بوضع هذه الأسماء والنعوت التي توحي بالشيطنة.

جيل دولوز

عندما يتحدّث مثقّفٌ فرنسي، ولو كان موالياً للقضيّة الفلسطينيّة مثل الفيلسوف اليهوديّ الفرنسيّ جيل دولوز عن نظامَيْن Deux régimes ويعني بهما دولة إسرائيل والفلسطينيّين، يكون قد وَقَعَ في المحظور، وَقَعَ في الفخّ اللّغوي. فهو يوحي للقارئ أنّ هناك نظامَيْن، أي دولتَيْن متساويتَيْن، وبالتالي لا يوجد مُستعمِر ولا مستعمَر بفتح الميم.

عن التطبيع

في هذا السياق، سياق إسقاط الجدار النفساني، عملوا على نَسْجِ علاقاتٍ بدول عربيّة ولسان حالهم يقول للعالَم، لو كان ما يُذاع عن إجرامنا صحيحاً، لما كانت دول عربيّة بَنَتْ علاقاتٍ دبلوماسيّة معنا. ويسمّون إقامة العلاقات الدبلوماسيّة مع الدول العربيّة تطبيعاً، ما يعني أنّ رفض العلاقة مع هذا الكيان هو أمر غير طبيعيّ.

أكبر المُغالطات

هكذا ثمّة استعمار كامل، وبكلّ الوسائل، لفلسطين، والعمل لم يكفّ يوماً عن إزاحة شعبها، وحذْفه من الوجود، أي تصفيته الفيزيقيّة والمعنويّة، حذْف هويّته، ومحو ثقافته، والاستيلاء على تراثه: هدْم المعالِم التاريخيّة، سرقة التراث الشعبيّ بعامّة، من أزياء وفولكلور وموسيقى وطبخ…إلخ.

أتذكّر ذات سنة كنتُ أتجوّل في شوارع هامبورغ مع كاتبة ألمانيّة صديقة عاشت في منطقتنا العربيّة.. قالت لي: أنظرْ إلى هذا المطعم، وأشارت إلى واجهته، وأكملت: صاحب هذا المطعم إسرائيليّ، يُقدِّم أطباقاً فلسطينيّة، على أساس أنّها أطباق محضْ إسرائيليّة.. هكذا من دون أن يرفّ له جفن.

بعد هذه الحادثة بسنوات، صرتُ أرى كُتبَ طبخٍ فلسطينيّة كثيرة يُطلق عليها مصطلح: طبخ إسرائيليّ.

***

*شاعر وكاتب من تونس

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *