ريما سعد في “امرأتان” تروي حكاية المرأة عبر التاريخ*

Views: 156

  سلمان زين الدين

  لا يمكن لقارئ رواية “امرأتان” للكاتبة اللبنانية ريما سعد، الصادرة مؤخّراً عن “دار نوفل” في بيروت، أن يخرج بانطباع أنّها الأولى لصاحبتها. ذلك أن الرواية مشغولة بمهنية واضحة تستثمر تقنيات السرد الروائي بكفاءة عالية، وتتحرّك بين المشاهد الروائية بسهولة ويسر، وتستخدم لغة متينة، وتبني الحبكة الروائية بأناة وتؤدة، فلا يملك القارئ إلا أن يقع في براثنها منذ النظرة الأولى. وسواءٌ أكان العنوان بالمثنى أو بالمفرد أو بالجمع، فإنّ المتن الروائي يقول حكاية المرأة، عبر التاريخ، في تموضعها في مجتمع أبوي، الذكر فيه هو الحاكم المطلق، ويرصد ما يعتمل فيها من أفكار، وما يتجاذبها من انفعالات، وما يتنازعها من نوازع، وما تخضع له من أحكام، وما يصدر عنها من ردود فعل مختلفة. وهو ما يتكرّر عبر القرون، فيعيد التاريخ نفسه، ولو بأشكال مختلفة. (Diastat) والمرأة في “امرأتان” تتموضع داخل شبكة من الثنائيات، المتضادة والمتكاملة، في الوقت نفسه. نذكر منها: التاريخ / الحاضر، الحلم / الواقع، المدنّس / المقدّس، الجسد / الروح، الحب / الجنس، الشهوة / العفاف، اللذة / الإثم، الخير / الشر، الحلال / الحرام، الذكر / الأنثى …، وغيرها. وهي ثنائيات نقع عليها في كل القرون.

 نموذجان اثنان

  حكاية المرأة، عبر التاريخ، تتناولها ريما سعد من خلال نموذجين اثنين، تاريخي ومتخيّل. تقوم برصد العلاقة بينهما في أطوارها المختلفة، بدءاً من السلام والكلام ، مروراً بالحوار والسجال والصراع، وصولاً إلى التفاعل والتعاطف والتماهي. وعلى الرّغم من وجود فواصل كبيرة، في التاريخ والجغرافيا، بين النموذجين، بحيث تجري أحداث النموذج التاريخي في البندقية الإيطالية في القرن السادس عشر الميلادي، وتجري أحداث النموذج المتخيّل في لبنان في القرن الحادي والعشرين، فإن النموذجين يلتقيان عبر الحلم الجلي، ويتقاطعان في الاعتمالات والتجاذبات والنوازع، على أنواعها. ويخضعان، بنسب مختلفة، لأوامر المجتمع الأبوي ونواهي العقل الذكوري، ويتفاعلان معها، بطريقة أو بأخرى. على أن اللقاء بينهما يجري في إطار تقنية الحلم، بحيث يحلم المتأخر بالمتقدّم، وينخرطان في حوارات وسجالات مختلفة. والمفارق، على هذا الصعيد، أن النموذج التاريخي يتحوّل في الرواية إلى مادة حلمية، بينما يتحوّل النموذج المتخيّل إلى مادة واقعية.

 

  مجامِلة الملوك

  يتمثّل النموذج التاريخي في شخصية فيرونيكا فرانكو، مجامِلة الملوك في البلاط الإيطالي في القرن السادس عشر، والمجاملة تسمية ملطّفة للمومس، وهي شخصية حقيقية ولدت في البندقية عام 1546، تقوم الكاتبة بتقصي سيرتها وتكييفها روائياًّ، فتخرجها من تاريخيتها لتجعل منها شخصية روائية، وتحوّل الوقائع التاريخية إلى أحداث روائية، وتقول حكاية المرأة الغربية في مجتمع غربي في القرن السادس عشر؛ ففيرونيكا الخارقة الجمال تدفع أثماناً غالية لانتمائها الطبقي ومجتمعها الأبوي لكنها لا تتخلّى عن ثقتها بنفسها وصدقها مع ذاتها وقدرتها على التحدي مما يمكن استنتاجه من الوقائع المسرودة. ذلك أن تخلّي حبيبها ماركو الأرستقراطي عنها، وعدم تحدّيه المجتمع لأجلها، وزواجه من أخرى، وحاجتها إلى العيش وإعالة أمها، تدفعها إلى تحقيق رغبة هذه الأخيرة، وهي المجامِلة العتيقة المحترفة، في امتهان المجامَلة، مدفوعة برغبتهما المشتركة في الانتقام من المجتمع والحياة. تقول لها أمها، فيما يشبه النبوءة: “ستصبحين سيدة جمال البندقية والمجاملة الأغلى جمالاً وعقلاً ووزناً وثمناً. ستصبحين المرأة المذهلة” (ص 20). وهو ما يتحقق بالفعل.  

 أعطاب المجتمع

  تميط حكاية فيرونيكا اللثام عن أعطاب المجتمع الغربي في القرن السادس عشر وازدواجية معاييره وانفصامه القيمي؛ فحين تستخدم فيرونيكا مواهبها في  المجامَلة، وتتمكن من الإيقاع بالملك الفرنسي هنري الثالث، وتدفعه إلى الدفاع عن البندقية ضد الأتراك، تتحوّل إلى بطلة قومية، وتصبح ممارسة البغاء واجباً وطنياً. أمّا حين يجتاح الطاعون المدينة، ويودي بكثيرين من سكانها، فيتمّ تحميل بنات الهوى المسؤولية، وتُصلب كثيرات منهن، وتنبري الكنيسة إلى محاكمة فيرونيكا. وبذلك، يكون على المرأة أن تدفع الثمن، في جميع الحالات، باعتبارها الحلقة الأضعف في سلسلة مجتمعية ذكورية الحلقات. غير أن صلابة فيرونيكا، وانسجامها مع ذاتها، وصدقها، وشجاعتها، وتحرّر حبيبها المتأخر من ضعفه، ودعم المرأة الأخرى لها، من خلال تقنية الحلم الجلي، تقلب الأدوار، فيتحول القضاة والكهنة والهيئة الاجتماعية إلى متهّمين، وتلعب فيرونيكا دور القاضي، وهو ما يتمظهر في أسئلتها الاتهامية خلال المحاكمة: “أوليست خيانة الرجل لزوجته خطيئة أيضاً؟ ألم تأمروني أن أقدّم جسدي للملك الفرنسي؟ ألم تبجّلوني حين أبهجته فمنحكم بسببي دعمه في الحرب ضد الأتراك؟ وهل أفسحتم لي أي فرصة كي أمتهن مهنة أخرى” (ص 222، 223، 224). وهكذا، ينقلب السحر على الساحر، وتتحوّل المحاكمة إلى إدانة علنية للهيئة الدينية والمجتمع الأبوي والعقل الذكوري. 

   يتمثّل النموذج المتخيّل في شخصية كارا، الأستاذة الجامعية المتخصّصة في العلوم الدينية، المولودة في بيروت عام 1980. وهذا النموذج يصدر عن منظومة قيم مختلفة، تتصدّرها الأحكام الدينية؛ فكارا المصابة بمرض ثنائي القطب مهووسة بالقداسة، وتربط بين الجنس والخطيئة، وهي موضع تجاذب بين التقوى من جهة، والرغبة، من جهة ثانية. وإذ يقتحم حياتها عاصي، المرتبط بامرأة أخرى، تنخرط معه في علاقة حب سرية، على أمل أن تخرج إلى العلن، ذات يوم، وتتكلل بالزواج. غير أن رغبته في أن تبقى العلاقة سرية وأن تكون كارا المرأة الثانية في حياته تدفعها إلى بتر علاقتها به رغم حبها إياه، حتى إذا ما عاد لاحقاً ليعرض عليها علنية العلاقة يكون قد فات الوقت، وهو ما تعبّر عنه بالقول: “للأسف، الرجال يعودون دائماً بعد أن ننساهم” (ص 233). 

 

  هاجس الخطيئة

  علاقة كارا بعاصي وبغيره، وهي المصابة بهاجس الخطيئة، كانت تُغطّى بفتاوى دينية، وتقترن بشرط “عدم الدخول”، وهذا ما يؤجج رغبات شركائها فيها أكثر فأكثر. وهكذا، راحت “تترنّح بين حياة بالغة التقوى والتعفّف والانتظام، وبين تلك الكهرباء العشقية التي تهفو لها وتلهب حماسها وإقبالها على الحياة” (ص 12). هذا الترنّح بين الحدين يجعل الشخصية ترزح تحت وطأة أحكام شرعية لا تحرّرها من الشعور بالذنب، ووطأة رغبات الجسد الطبيعية، ما يجعلها تعيش حالة مرضية معيّنة، حتى إذا ما اتّصلت عبر تقنية الحلم الجلي، بفيرونيكا التي تفصلها عنها قرون وبلاد، وانخرطت معها في حوار طويل، يتراوح بين الخصام حتى القطيعة وبين الوئام حتى التماهي، تكون قد وضعت رجلها على طريق الشفاء. ويترتّب على هذا الحوار السريالي الغريب تغيّر مجرى حياة كل منهما، وحاجة كلٍّ منهما إلى الأخرى، “فكارا متعطشة لنزعة التحرر في فيرونيكا، وفيرونيكا توّاقة لنزعة الطهر الروحانية في كارا”، وتبلغ العلاقة بينهما الذروة حين تنبري كارا للدفاع عن فيرونيكا في جلسة المحاكمة ما يؤدي إلى انتزاع حكم البراءة لها. وهكذا، نكون إزاء امرأتين وجهين لعملة واحدة، لا، بل إزاء امرأة واحدة تتجاور فيها النوازع المختلفة. فالمرأة هي المرأة سواء أعاشت في البندقية في القرن السادس عشر أو في بيروت في القرن الحادي والعشرين.

  نقاط تقاطع

  في هذا السياق، إذا كانت الحكايتان تفترقان في نقاط عديدة تتعلق بالزمان والمكان والمجتمع ومنظومة القيم، فإنهما تتقاطعان في نقاط أخرى، تشكّل قضية المرأة عبر التاريخ. ونذكر، على هذا الصعيد، خضوعهما لأحكام المجتمع الأبوي، وقوعهما تحت تأثير العقل الذكوري، تأثرهما بالاعتبارات الدينية، اشتراكهما في الرغبات الجسدية، رفضهما احتلال المرتبة الثانية في اهتمامات الرجل، إحساسهما بالكرامة واتخاذهما القرار المناسب في اللحظة المناسبة، وغيرها. وبذلك، فيرونيكا هي كارا، وكارا هي فيرونيكا، بمعزل عن أن الشريك هو ماركو أو عاصي أو غيرهما، وعن أن المكان هو البندقية أو بيروت أو غيرهما، وعن أن الزمان هو القرن السادس عشر أو القرن الحادي والعشرون أو غيرهما. 

  وعودٌ على بدء، “امرأتان” رواية جميلة، مشغولة باحتراف واضح، تخلو من تعثّر البدايات، وتبشّر بروائية واثقة  الخطوة الأولى، ولا ريب أن تعقبها خطوات أخرى لها ستنتظرها الطريق. 

***

* إندبندنت عربية، في 16 / 6 / 2023.  

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *