محمّد مهدي الجواهري: تعابُر بين جيلَيْن

Views: 251

د. نادية هناوي*

ما زالت تجربة محمّد مهدي الجواهري الشعريّة فريدة وكبيرة، وهي إلى اليوم بلا نظير لها عراقيّاً وعربيّاً، لما لها من مقوّمات تتجاوز معايير الجيليّة، فضلاً عمّا فيها من مؤشّرات تُبطِل التجييل العقديّ وتُفنِّد مزاعم عشريّته. ومعروف أنّ بدايات تجربة الجواهري انطلقت بقوّة في عشرينيّات القرن الماضي من خلال قصيدتَيْن هُما “جرّبيني” و”خمّارة البلد”.

واستمرّت تجربته تتطوَّر عبر العقود اللّاحقة، فكان أن انتمى شعره إلى جيلَيْن، كان له في الأوّل موقعٌ وامتيازٌ اختلَفا عن موقعه في الجيل الثاني؛ وفيه ترسَّخ موقعُهُ، وبلغَ مكانةً أسمى، مع أنّ تجربته الشعريّة لم يطرأ عليها تحوُّلٌ؛ فقصيدته بقيَتْ على عموديّتها وبالنّبرة التراثيّة ذاتها، وبسياقاتها الاجتماعيّة التي لم تتغيّر وتيرةُ نَظمها وإنْ تنوَّعت أغراضُها ووظائفُها بتبدُّل مراكز القوى التي تناولها شعر الجواهري تضامناً أو تصارعاً، سرعةً أو بطئاً، اعتياداً أو نفوراً.

ولقد اتَّفق النقّاد على أنّ تجربة الجواهري كبيرة ومميَّزة ولكنّهم تباينوا، كلٌّ بحسب مُنطلقاته وتوجّهاته، في تقدير أبعادها الشعريّة؛ فمنهم مَن وَجَدَ أنّ شعر الجواهري فوق الدراسة والنقد، ووصفه جبرا إبراهيم جبرا بآخر الفحول. ولأنّ الجواهري خارج السياقات المُعتادة، تجاهَلَهُ منظّرو الجيل العقديّ واستبعدوه من تنظيراتهم وكأنّه غير موجود. وهُم بهذا الاستبعاد دلَّلوا على أمرَيْن: الأوّل أنّ التجييل بالنسبة إليهم انقطاعٌ عن الشعراء السابقين وقلْعٌ للجذر من أصوله، والثاني أنّ التجييل مخصوصٌ بشعراءِ قصيدة التفعيلة.

الجواهريّ العصيّ على التقادُم

وما بين اتّفاق النقّاد على الجواهري والتبايُن في تحليل شعره، أصبحت تجربته مثالاً للشعر الذي لا يؤثِّر فيه تقادُم العهد ولا أفول الجيل الذي انتمى إليه. وأمدَّ هذا الجيل من عشرينيّات القرن الماضي إلى خمسينيّاته ثمّ الجيل الثاني الذي انتمى إليه، وأمدّه من ستينيّات ذلك القرن إلى تسعينيّاته.

وما من غرابة في هذا الانتماء، فالشعر العربي عَرف منذ الجاهليّة شعراء مُخضرَمين امتدَّت تجاربهم ما بين جيلَيْن وربّما أكثر. كما أنّ الجيليّة معروفة الأمد وهي تقويميّاً تتحدَّد بثلاثة عقود.

وإذ لم تَترك القصيدة الجواهريّة تحوّلاً على بنية القصيدة الكلاسيكيّة، فإنّها رسّخت قوالب هذه القصيدة وأَحْيَت ما كان مُندرساً فيها، لا بالطريقة التي مارسها الشعراء الإحيائيّون مطلع القرن العشرين، بل بطريقةٍ أخرى تقوم على النزول بالقصيدة إلى أرض الواقع تفاعُلاً مع الشارع العراقي والعربي وأحياناً العالَمي؛ فشدَّت الجميع إليها، كباراً وصغاراً، مثقّفين وغير مثقّفين، مُحافظين ومتنوّرين. وما بين مُجاراة الجواهري لجيله في اتّباع القصيدة الكلاسيكيّة وبين التفوُّق عليهم، غدت تجربته مُتجاوِزَةً الجيليّة. يقول الناقد الراحل عبد الجبّار عبّاس: “حرص الجواهري على أن تتكافأ في شعره الجدّة والعراقة فكان إقباله على شعر الفحول القدامى إقبالَ مَن يقرأ الديوان فيسيل فيه دماً وفكراً وروحاً. لئن كانت الثورة رحلة مستمرّة إلى المستقبل، فإنّ عظمة الجواهري تقوم في جانبٍ مهمٍّ منها على أنّه انفرد بين شعراء جيله وكثير من صغار شعراء الجيل التالي، وجعل من نقده لآفات مجتمعه وثورته على لصوصيّة حكّام العهد المُباد العملاء رحلةً إلى الثورة والمستقبل يردِّدها شعرٌ لا تبلى جدّته ولا يغرب شبابه.. إنّه طار إلى المستقبل بجناحٍ أقدم عمراً” (مرايا جديدة، ص20).

ولقد تنبَّه الشعراء الذين عاصروا الجواهري إلى قوّة تجربته وعرفوا أسباب تفوّقها، فكان أن اتّخذوها “ظلّاً لهم. فهُم يكتبون شعرهم السياسي والاجتماعي على طريقة الجواهري وكأنّهم يحسّون بدرجاتٍ متفاوتة أنّ هذا اللّون من الشعر يكاد يكون مكتملاً إن لم يكتمل فعلاً على يد الجواهري” (الصراع بين القديم والجديد في الشعر العربي، محمّد حسين الأعرجي، ص43) ولم يكن بمقدور الشعراء العراقيّين والعرب التنافُس معه أو التأثير في قوّة قصيدته؛ يقول هاشم الطعّان وهو أحد شعراء تلك المرحلة: “كنّا نتسقّط أغلاط الجواهري في اللّغة والنحو فإذا بنا نجد أغلاطنا في تغليطه، وكنّا نأخذ عليه إغرابه ثمّ صرنا إلى حيث نعتقد أنّ الجواهري بثَّ حياة في هذا كلّه فما هو حوشي ولا هي أوابد”.

ولا ننسى أنّ الجيل الشعري الذي انتمى إليه الجواهري كان قد عاصَرَ حربَيْن عالَميّتَيْن، وعايش بقوّة نزوعاً واقعيّاً في الشعر؛ لذا لم يكُن يسيراً التوجُّه بالشعر بعيداً من هذا الواقع. وكان هذا هو التحدّي الذي نجحت حركة الشعر الحرّ في اجتيازه. ونجح الجواهري أيضاً فيه متحوّلاً بالقصيدة الكلاسيكيّة نحو الواقعي المحلّي أو الوطني جنباً إلى جنب العربي والعالَمي. فنَمتْ تجربته أكثر وغدت عابرة لا في إطارٍ فنّي، بل زماني منتميةً إلى جيلها وفي الوقت نفسه مُستبِقةً حالها ومتطلِّعةً بخطواتٍ واثقة نحو مستقبلٍ فيه سينتمي الجواهري إلى جيلٍ شعريٍّ جديدٍ قادم.

هذا العبور الجيلي وإن كان زمانيّاً، فإنّه يكاد يكون مُعادِلاً للتحوُّل الفنّي. وليس كلّ شاعر مُخضرَم عاصَرَ جيلَيْن توصف تجربته بالعابريّة، بل هو أمر مخصوص بظروفٍ ومقوّماتٍ توفَّرت في شعر الجواهري بخاصّة. ولعلّ خَير مثالٍ على قوّة عابريّة القصيدة الجواهريّة هو توافق أثرها الذي تركته في الشعر العربي مع الأثر الذي أَحدثته حركةُ الشعر الحرّ. ولا يخفى ما في هذا التوافُق من قوّة، وبسببها فشلت محاولاتٌ مُفتعَلة انطفأت بسرعة، وبعضٌ منها اتَّخذ من قصيدة النثر شكلاً للتصادي مع حركة الشعر الحرّ كما فعل شعراء مجلّة “شعر” اللّبنانيّة.

نغمة الشعراء الشباب

ولا بدّ لكلِّ جيلٍ شعريٍّ من أن يشهد تصاديات وصراعات، والافتعال في خلق الصراعات، وتأجيج التناحُرات، والتشهير بالعيوب، والمُنافَرة بالإيديولوجيا، والمُقارَنة بالأعمار..، وهي كلّها عوامل أَسهمت في أن يكون الجواهري خارج إطار الجيل الشعري الثاني مع أنّه واحد من أفراده. وتُعَدّ مقولة “”الشعراء الشباب”” واحدة من النغمات التي عليها يُراهن بعض الشعراء، وكأنّ للشعر عمراً، وأنّ لكلّ عُمر شعراً.

ولا نغالي إذا قلنا إنّ مَن يقول بالشباب والشيوخ في مجال العمل الشعري هو من المُدافعين عن التجييل العقدي والمعوِّلين عليه طريقاً يوصل إلى الشهرة ولفْتِ الأنظار. ومهما كانت الافتراضات وقوّتها، وأيّاً كان رسوخ هذه المقولات، فإنّ تعابُر الجواهري الجيلي، يظلّ حقيقيّاً وقائماً كمثالٍ شعريّ يتخطّى المراحل ويأبى الجمود.

وليس التعابُر في تجربة الجواهري الشعريّة بالازدواج، ولا هو استنفاذ أو اختلاط، إنّما قوّة المقوّمات هنا، هي التي تجعل الشعر سائراً في اتّجاهاتٍ يكمل بعضها بعضاً؛ فهو من جهة تمثيلٌ واستمرارٌ لجيلٍ سابق، وهو من جهة أخرى تطويرٌ وثورة من موقعٍ جديدٍ متواصل مع جيلٍ لاحق.

من هنا لا يتبيَّن بعض النقّاد في دواوين الجواهري خطّاً للنموّ إلّا بمشقّة كبيرة. فهذا جبرا إبراهيم جبرا يحتار في شأن الجواهري ويرى أنّه “يريد أن نأخذ شعره كمكمّلٍ فنّي واحد لا شأن للزمان بتفاصيله.. إنّ التسلسل الزمني أمر له شأنه الكبير في فهْم الجواهري وتتبُّع أفكاره.. بل إنّ الجواهري لا يمكن فصله عن الخطّ التاريخي طيلة السنين الأربعين الماضية”.

وعزا جبرا سبب قوّة تجربة الجواهري الشعريّة إلى بلوغها حدّها الأقصى من النضج والقوّة فكان لا بدّ من الثورة عليها. ورأى الشاعر فوزي كريم أنّ قوّة تجربة الجواهري هي في عدم انتمائه إلى جيله الذي نشأ في وسطه ولا إلى الجيل الذي أتى بعده، ولكنّ سياقات الحال الشعري تؤكِّد أنّ الجواهري كان شاعراً اجتماعيّاً وعامّاً وفاعلاً ومُنتمياً أيضاً إلى الجيلَيْن الشعريَّيْن، فلا الأوّل قيَّده ولا الآخر وقف ضدّه.

ولا مناصّ من القول إنّ مُقارَنةً بين فاعليّة الجواهري وفاعليّة الرصافي والزهاوي ستكشف لنا أنّ التعابُر كان متحقِّقاً منذ أن تميَّز الجواهري في طريقةِ نَظْمِ القصيدة مُختلفاً عنهما وعن شعراء عصره الآخرين. ولكن هل ينطبق هذا التعابُر على تجارب شعراء الجيل الشعري الثاني؟

لا شكّ في أنّ بعضاً من شعراء هذا الجيل ما زالت تلاحقهم الانتقادات، فطوَّرَ قسمٌ منهم تجربته، ومنهم من اتَّجه نحو قصيدة النثر، وبعضٌ منهم مارَسَ كتابة أنواعٍ من الشعر والسرد، غير أنّ تجاربهم بقيت تنتمي إلى جيلها حتّى وإن انتهى أوان الجيل بمجيء آخر جديد بعده ابتدأ عهده مع العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين.

والسؤال المطروح للمستقبل هو: هل يُمكن أن يَظهر من هذا الجيل شاعرٌ له تجربة يقدر من خلالها على التعابُر إلى الجيل الشعري الثالث، مُتزامِناً مع تحوّلات القصيدة العربيّة الحديثة، وتكون له إسهاماته، ويشقّ طريقه الخاصّ، ويثبت جدارته واستقلاله، ويوسِّع آفاق شعره ويطوِّر أدواته مُرتقياً إلى القمّة شأنه شأن الجواهري؟

إنّ التعابُر لا يلغي حقيقة التعاقُب الزماني للجيل، ولا يستهين بأدواره الحقيقيّة، وإنّما هو برهان موضوعي على أنّ لكلّ قاعدة استثناء. والجواهري هو الاستثناء الذي يتجاوز انغلاقات السنوات العشر وتخلّياتها، وهو الامتداد الذي فيه الانتماءات تشمل الأبعاد الفنيّة والتقويميّة.

***

*باحثة وناقدة من العراق

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *