الهويّات المركّبة: خلفيّاتها وانعكاساتها على الفرد والجماعات

Views: 240

إعداد د. مصطفى الحلوة

نظّم “مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية” يَومَي 23 و 24 حزيران 2023 ، وبالتعاون مع مؤسّسة Hanns Seidel الألمانية ، مؤتمرًا علميًّا ، في مدينة جُبيل (القاعة 1188 للمحاضرات) ، بعنوان : “الهويّات المركّبة : خلفيّاتُها وانعكاساتُها على الفرد والجماعات ” . وقد تضمَّن المؤتمر ستّ جلسات ، اتخذت العناوين الآتية : الهُويَّة في سياقها العلمي / الهويّة في الإطار الاجتماعي/ الهويّة في الإطارين الفلسفي والنفسي / الهويّة في الإطارين القانوني والسياسي / الهويّة في الإطار الديني – الثقافي/ الهويّة المواطنيّة . 

 

داخَلَ في هذه الجلسات عشرة محاضرين ، هم على التوالي: د. نمر فريحة، العميد د. هيكل الراعي ، أ. جورج راشد ، د. عفيف عثمان، د. هشام شحرور ، د. عصام مبارك ، أ. عامر جلّول ، أ. إيمان منصور، د. يوسف سلّوم ، رئيس جامعة القديس يوسف الأب د. سليم دكّاش اليسوعي . وقد تولّى إدارة الجلسات تباعًا : أ. أمل صانع ، د. سيمون عبد المسيح ، د. بلانش أبي عسّاف ، د. خليل خير الله ، أ. كارن عبد النور ، د. كلود مرجي .

 

جلسة الافتتاح أُستهِلّت بكلمة تمهيدية لمقرّر المؤتمر د. مصطفى الحلوة، وتكلّم فيها رئيس “مركز تموز” د. أدونيس العكره ، المسؤول الإقليمي لـِ”هانس زايدل” ، السيد كريستوف دوفارتس (من الأردن عبر تقنية ZOOM) ، ومندوب “المؤسسة” في لبنان السيد طوني غريّب . وكانت كلمة لمنسق أعمال المؤتمر د. نمر فريحة ، أضاء فيها على خلفيات عقد هذا المؤتمر ، ومستعرضًا أوراق العمل العائدة للمداخلات العشر ، مع الانتظارات المرتقبة من هذه الفعاليّة . وقد طغى على الحضور طلبة جامعيون ، جُلّهم من الجامعة اللبنانية ، أتوا من عكار وطرابلس وقضاء المنية – الضنيّة ، ومن مناطق أخرى ، إلى ممثّلي فاعليات ثقافية واجتماعية ومهتمين . وقد جرى حوارٌ تفاعليّ ، شكَّل عنصر إثراء لما خلص إليه البيان الختامي ، الذي تضمّن المحاور الآتية : 

 

أولاً – في تحديد المصطلحات: 

لما كان سؤال الهويّة من الأسئلة الإشكالية ، وعلى تماسٍ مع جُملة من العلوم الإنسانية والاجتماعية ، مما يفترض مقاربته من منظورات مُتعدِّدة ، فقد تحتّم وضع الأمور في نصابها المفاهيمي ، وهي مسألة منهجية بامتياز : 

الهوية : من حيث الشكل ، هي وثيقة ذات صفة قانونية ، يحملها الفرد ليُحدِّد انتماءه إلى بلد معين . أمّا من حيث البُعد ، أي ما يتعدّى الشكل ، فهي مجموع السِمات الخاصة بأفراد وطن معيّن ، وتتمتّع بخصوصية ، وتتميّز عن غيرها من الهويات الأخرى ، كما أنها الوثيقة التي تعكس الذات والخصوصية والفرادة .  

 

الهوية ، يمكنُ تعريفها أيضًا بأنها السنن (الشيفرة / الكود) ، التي يمكن للفرد ، من طريقها ، أن يعرّف نفسه ، في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها ، كما يتعرّف عليه الآخرون ، باعتباره منتميًا إلى هذه الجماعة . 

الهوية الوطنية ، هي ، في أبسط تعريفاتها ، مجموعة الصفات والسِمات المجتمعية ، التي تختلف من إقليم جغرافي إلى آخر . ويقوم الفرد (المواطن) بامتلاكها ، نسبة للمجتمع الذي ينتمي إليه . ولكل مجتمع سِماتُهُ وخصائصه ، التي يتميَّز بها ، مما يجعل من هويته الوطنية مختلفة عن هوية باقي المجتمعات .

 

الهوية وجدانيًّا ، تتمثّل بإحساس الفرد بذاته المستقلّة ، بكيانِهِ الفردي، بمن هو ، ومن ينتسب إليهم . وهذه الهوية تُشعره بالتعاطف مع الذين يحملون مثلها من أهل بلده ، حتى لو لم يكن على معرفة بهم . 

الهويّة المركَّبة ، هي التي ترتبط بالوطن ، لكنها ، في الوقت نفسه ، مرتبطة باعتبارات فردية محليّة ، تتفاعل فيها عوامل مُتعدِّدة ، قومية ودينية ولغوية وسُلالية واجتماعية وثقافية وتاريخية وسواها . علمًا أنه لا تُوجد هويات بسيطة ، وإنما جميع الهويات ، التي تُعرّف الجماعات الإنسانية نفسها بها، هي هويّات مركّبة . 

الكاتب أمين معلوف يرفض حصر تعريفات الهوية والانتماء بالبلد الأم فقط ، بل تجاوز المكان الجغرافي . وهو يرى أن الهوية لا تتجزّأ ولا تتوزّع . فالفرد كائن معقّد جدًّا ، لا يمكنُ اختزالُهُ في هويّة واحدة . 

 

الهوية الرقمية ، هي  وسيلة الكترونية لتعريف الشخص ، تتكوّن من شهادة تحتوي على مفتاح ، يمكن مشاهدتُهُ ، ومفتاح خاص يظلُّ سريًّا ، ويُتيح المفتاح الخاص التوقيع على مستند الكتروني . 

هوية التبعيّة بالولاء ، هي هوية المستعبَد ، وكل تابع لسيِّد أو إقطاعي. وقد عرف العرب في الجاهلية هذا النمط من الهوية . ولدى تحرير العبيد في أميركا ، بعد الحرب الأهلية (1860 – 1864) تمّ تسجيل المحرَّرين كمواطنين أميركيين ، ولم يكن لديهم كنية عائلية ، فأُلحقوا ، هوياتيًّا ، بتسمية العائلات التي كانوا مُستعبدين لديها . 

 

الهوية من منظور علم النفس، سندًا إلى تعريف Erik Erikson ، فقد اعتبرها نطاقًا نفسيًا داخليًّا ، يدمج الذات الداخلية للفرد والعالم الاجتماعي والخارجي في كلّ مُتطابق . 

الهوية من منظور فلسفي ، انطلق مفهوم الهوية من قضية التماثل ، تماثل شيء مع شيء آخر ، أو تماثل الشيء مع نفسِهِ ، ببقاء خصائصه على ما هي عليه ودوامها . وقد راج مفهوم ” اللا تغيُّر”، أو الثبات ، عبر الزمن، ومن ثم ناقش الفلاسفة الهويّة من زوايا أخرى ، منها مسألة التغيُّر ، أي ما يلحق بالأفراد والأمم من تغيُّرات في عاداتها وتقاليدها ، أي ثقافتها ، بتبدّل الظروف المادية والسياسية والاجتماعية ، رُغم احتفاظها بخصائص أوّلية . 

 

ومن منظور فسلفي أيضًا ، تُعرَّف الهوية على أنها كل ما يجعل من الفرد مميّزًا ومتفرِّدًا ، في حدِّ ذاته ، ومميَّزًا ومتفرِّدًا عن الآخرين . وتتشكّل هوية الفرد بفعل التفاعلات الاجتماعية مع البيئة والمحيط والآخرين ، بالإضافة إلى التأثيرات الثقافية . 

-المفكر اللبناني علي حرب ، يرى إلى الهويّة “صيغة مركّبة ” ، تجمع بين التعدُّد والتعارض ، وتجمع بين الاعتدال والالتباس في آن واحد ، كما أنها تجمع الروابط والعلاقات والأهواء والميول أيضًا . 

 

ثانيًا – في بعض الأسئلة التي يستدعيها سؤال الهوية ؟ 

  • هل تعود الهوية ، بجذورها ، إلى نزعة إنسانية بشرية ؟ 
  • من منظور فلسفي : هل سؤال الهوية هو سؤال حقيقي أم سؤال زائف! هل هو سؤال تقدُّم أم سؤال أزمة ؟ هل هو سؤال حريّة أم سؤال تسلُّط ؟ أو هو ، نهاية المطاف ، سؤالي ثقافي سياسي إيديولوجي ؟ 
  • هل الهويَّة فردية بذاتها ، تعكس لا نهائية الإنسان وخصوصيته ، أم أنها جماعية ، تشمل شريحة أو مجموعة بشريّة محدّدة ؟ 
  • هل الهويّة فطريّة محض ، تنمو وتتشكّل مثل أعضاء الجسد البشري، أم أنها نتاج مجتمعي ، يكتسبُ سِماته من خاصِّيات البيئة المحيطة به؟ 

 

  • هل بإمكاننا فصل ، ما نصطلح على تسميتِهِ بالهوية النفسية، للإنسان، عن باقي هويّاته ، بمعنى أن هويته الثقافية تفترق عن تلك النفسية أو الوطنية ، وهكذا . 
  • هل نحن مستقلّون في رسم هويّاتنا النفسية الذاتية ، أم أنّ ثمّة قوالب جامدة وأنماط محدّدة تأسرنا وترسمنا ؟ 
  • ماذا لو ارتقت الهوية إلى مستوى الايديولوجيا (أدلجة الهوية)؟ 
  • هل اللوحة (الرسم ) والصورة الفوتوغرافية لأحدهم الحقيقي ،أو التمثال ، بمنزلة هوية ؟ (المسألة مطروحة للنقاش) 

 

  • هل للعنف هوية ذاتية شخصية ؟ وهل التطرّف نزعة طارئة ، أنتجتها ظروف معيّنة ، ولا دخل لأصل التكوين الإنساني فيه ؟ 
  • كيف يقدِّم الإسرائيلي نفسه ، بسؤالنا له : من أنت ؟ بل كيف يُعرِّف هويّته ؟ وما هو الوزن الديني أو القومي الذي يُضفيه على أبعاد هويته؟
  • هل يجب استخدام التعريف الديني أو القومي كي نُحدِّد من هو اليهودي؟ 
  • إلى أيِّ مدى يبدو الأمر مُعقِّدًا بالنسبة للكيان اليهودي / الصهيوني، الذي يدّعي الديمقراطية ؟ وهل تقبل الهوية اليهودية الإسرائيلية مسألة التعدّدية ؟ 

 

ثالثًا – في المعطيات والرؤى 

  • سؤال الهوية من الأسئلة الأكثر إشكالية ، لاسيما في زمن ما بعد الحداثة، ذلك أن مفهوم الهويّة ليس ثابتًا ولا نهائيًّا ، بل هو ديناميكي، ذو سِمة صيرورية ، سواءٌ على مستوى الفرد أو مستوى الجماعات ، كونه يغتني باستمرار من عناصر ثقافية مُتعدِّدة . وفي هذا المجال ، نستحضر قول هيرا قليطس : “إن الثابت الوحيد في الحياة هو المتغيِّر ، والشقاق (أي الصراع) هو أبو الأشياء وملِكها “. 
  • عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي Edgar Morin يرى أن السؤال عن هويّة الإنسان هو سؤال ثقافتنا المعاصرة . وهو يذهب إلى أن الهويَّة الإنسانية قائمة على الكثرة ، بحيث لا يمكن مقاربة الإنسان ، من جهة الوحدة ولا تعيين هويته ، كهويّة بسيطة . 
  • سؤال الهوية يزداد تعقيدًا إذا انطوت الجماعة على عدة هويّات في آن ، وتحديدًا على هويّات مستيقظة وهويّات نائمة قابلة للتيقّظ ، في شروط محدَّدة . وكذلك إذا انطوت على هويّات سالبةٍ بعضها بعضًا. 

 

  • قد يغدو الوعي الزائد بالهوية خطيرًا ، فينمّ عن نزوعٍ شوفيني، نافٍ لغيره من الهويّات ، بل قد يغدو دافعًا إلى القتل . 
  • الكائن البشري يتمتّع بصفتين وجوديتين تكوِّنانِهِ : الكرامة والحرية ، وذلك قبل أن يكتسب هوية جمعية دينية ، من طريق عائلته . 
  • الكائن البشري يتمتع بنهائية فردانيَّة ، ولكنه يغدو إنسانًا من المهد إلى اللحد ، ذا إنسانية متزايدة ، وذلك جرّاء تفاعله العائلي والاجتماعي والديني والثقافي والسياسي . وعليه ، فإن أنسنة المخلوق البشري ذات سِمة صيرورية ، ترتكز ، إلى حدّ كبير، على مسؤوليته الشخصية ، بمعنى أنه مسؤولٌ عن إنسانيته ، رُغُم أن لا دور له ، بكونِهِ بشرًا . 
  • إنّ الشعور بالفرادنية والتمتع بها لا يكون إلاّ ببناء وطن ذي دولة حقوق وقوانين . 

 

  • بتوقّفنا عند الكاتب والمفكر اللبناني الفرنسي أمين معلوف ، صاحب كتاب” الهويات القاتلة ” (1998) ، يُسأل : هل هو لبناني أم فرنسي؟ وإذْ يجيب بالقول : هذا وذاك (أي لبناني وفرنسي) ، فهو يصدُرُ عن إحساس بأنّه على تخوم بلدين ، وبغلتين أو ثلاث ، وتجتاح نفسَه تقاليدُ مُتعدِّدة ، وهذا ما يُشكِّلُ هويّته . 
  • الهوية ، بحسب أمين معلوف ، هي واحدة ، لكن بعناصر مُتعدِّدة ، والتنكُّر لهذه العناصر هو تمزيق للذات ، وفتح الباب للعنف على مصراعيه . 
  • يعتبر الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر أن البشر يمتلكون هوية، ولكنهم يتجاوزونها . وتتمثّل هوية الأفراد بما لديهم من قيم ومشاعر وأفكار بالإضافة إلى تجاربهم وظروفهم . وهو يربط بين الهويَّة والحريَّة . 
  • الفيلسوفة البلغارية – الفرنسية جوليا كريستيفا ، صاحبة أطروحة كيف نعيش مع الاختلاف ، والتي  ترفض التعريف الماهوي للهوية، ككيان بَدَهي مُعطى قبليًا ، أو أنه عقلاني بالمطلق ، ترى أن الغريب يسكننا ، بمعنى أنه الوجه الخفي لهويتنا . ومن خلال التعرّف عليه في أنفسنا ، فإنّنا ننقذ أنفسنا من كرهه ، في حدِّ ذاته. 

 

  • المفكّر المصري الراحل د. حسن حنفي يتقاطع مع الفيلسوف سارتر، إذْ يرى أنّ الهوية ليست موضوعًا ثابتًا أو حقيقة واقعة . بل هي إمكانيةٌ حركيَّة تتفاعل. فهي قائمةٌ على الحريَّة ، لأنها إحساسٌ بالذات ، والذات حُرّة . والحريّة قائمة على الهوية لأنها تعبير عنها. ويضيف د. حنفي بأنّ الهويّة ليست شيئًا مُعطى ، بل هي شيءٌ يُخلق باستمرار. 
  • نهاية الحرب الباردة وسقوط الشيوعية السوفياتية ، كنظام اقتصادي، كانا من الأسباب المهمة لبروز مسألة الاهتمام بالهوية وأزمتها. فقد انفجرت الهويات الفرعية المهدِّدة للهوية العامة المشتركة ولمفهوم المواطنية ، وبالتالي شكّلت خطرًا جدّيًا على كيان الدولة . 
  • بحسب هنتغتون ، إنّ الأسباب العامة لأزمة الهويّة تتجلّى عبر النقاط الآتية : العولمة الاقتصادية ، التحسينات الهائلة في الاتصالات والنقل، ارتفاع معدّلات الهجرة والتوسُّع العالمي للديمقراطية . 
  • عناصر كثيرة تلعبُ دورًا في تشكيل الهوية ، منها : الموقع الجغرافي، التاريخ المشترك ، الدين ، اللغة المشتركة ، العَلَم ، كرمز معنوي تمتلكه كل دولة ، النقود ، كأداة للتبادل والادّخار. وتؤدي الثقافة الاجتماعية المشتركة دورًا أيضًا في تشكيل الهوية الوطنية وشخصية الأمة . 

 

  • في تشكيل الهوية ، فإن أغلب روّاد الفكر القومي لدينا ، بنوا نظريتهم على الموقع الجغرافي ، كعنصر أساسي ، في عِدادهم المفكر النهضوي أنطون سعادة ، الذي أعار الحدود الطبيعية دورًا أساسيًا في بناء الأمم وإعطائها هوية مختلفة عن غيرها . 
  • اللغة تمثّل مَعْلمًا بارزًا في تحديد الهويَّة ، وذلك من منطلق كونها وعاءً ، يحوي مكوِّنات وجدانية ومعتقدات وخصوصيات لأي مجتمع. ويرى البعض أن اللغة هي السبيل الرئيس لحماية الهوية وتحصينها .  
  • للدين دورٌ مزدوج (مُوجبٌ وسالبٌ) في تشكيل الهوية . فهو يبلغ مداه في بلورة الهوية الوطنية ، في المجتمعات التي تعتمد في دساتيرها على دين معين ، في حين أن في المجتمعات المتنوّعة دينيًّا ، يتحوّل الاعتماد على الدين إلى عائق أمام بلورة هويّة وطنية متماسكة . 
  • الوراثة والبيئة والتربية والتجارب الشخصية والعوامل الثقافية، كما الاجتماعية ، كلها مصادر، تتفاعل فيما بينها لتشكيل الهوية النفسانية للفرد. 

 

  • القوالب الفكرية الجاهزة (المنمّطة) ، التي تحيط بنا، مفروضةٌ علينا، بشكل غير مُدْرَك غالبًا . والإنسان ، في المراحل الأولى من عمره، لا يكون محصّنًا ، وبالتالي فهو يتعامل مع هذه القوالب ، وكأنها أمرٌ واقع وبَدَهِيّ . 
  • حول تاريخية الهوية ، فقد ظهرت مع نشوء مجتمعات ، تستند إلى رابطة الدم ، مما جعل هوية الفرد مرتبطة بانتسابه إلى عشيرة أو قبيلة. ولاحقًا مع بروز الامبراطورية أو الدولة ، ذات المؤسسات ، أصبح الفرد ينتسب إليها ، وأصبحت هويته القبلية هي الهويَّة الثانوية. 
  • اليونانيون قرنوا الهوية بصفة المواطن (المواطن الحرّ) ، لتمييزه عن العبد أو الأجنبي المُقيم في أثينا . وقد قامت هوية الأثيني على المواطنة  . 
  • أخذ الرومان عن الإغريق مفهوم المواطنة ، وتولّوا إصدار شهادة مواطنة  ، هي عبارة عن لوحين خشبيين ، دُوِّنت عليها معلومات عن حاملها . ومع توسُّع الإمبراطورية الرومانية ، حصلت مجموعات كثيرة ، غير سُلالة القبائل الأساسية ، على الهوية الرومانية ، لاسيما من دخلوا في الخدمة العسكرية . 

 

  • أعضاء قبيلة (Maori of New Zealand) استعملوا “التاتو” (Tatoo) على وجوههم وأياديهم ، كدليل على هويتهم ومستواهم الاجتماعي. 
  • جواز السفر – وهو شكل من أشكال الهوية- استُخدم لأول مرة في بريطانيا عام 1540 ، بهدف انتقال حاملِهِ من مرفأ إلى آخر . 
  • أقدم وسيلة للتأكّد من هوية الشخص كانت البصمة ، نظرًا لدقّتها، وقد تطور الأمر راهنًا ، عبر الحمض النووي DNA . 
  • الليبرالية ، في بداياتها ، لم تشتمل على منحى متطرّف ، إذْ اقتُصِرَ اهتمامها على الاقتصاد . لكن بعد الحرب العالمية الثانية وإنشاء IMF و Mont Pelerin Society  ، شعر مؤيّدوها بقوتها، فراحوا بواسطة المؤسسات التي أنشأوها إلى التدخّل في أمور كثيرة، تتجاوز الاقتصاد والسياسة ، فأنشأوا “الاتحاد الأوروبي” ، خمسينيات القرن الماضي ، وواكب ذلك إنشاء هوية أوروبية ، إلى جانب الهوية الوطنية لمواطني أوروبا ، وقد تحقّق ذلك لاحقًا . 
  • في إطار العلاقة التفاعلية بين العولمة والليبرالية الاقتصادية من جهة، وبين الهوية من جهة أخرى ، بَاتَ يُمكن الحصول على هوية دولة أوروبية ، إذا استثمر فرد أجنبي مبلغًا من المال غير كبير (مثال: اليونان والبرتغال شراء منزل أو عقار إلخ .) ، وليس بالضروري معرفة هذا الفرد لغة البلد ولا ثقافته ولا تاريخه ! 

  • الليبراليون الجُدد في أوروبا وكندا وأمريكا يدعون إلى إسقاط مفهوم الحدود ، وتسهيل استيطان أي فرد في بلدانهم أو أي بلد آخر في العالم . وهذا ما عملوا عليه في تعديل قوانين الهجرة ، لاستيعاب أعداد كبيرة من المهاجرين . 
  • تُفيد الليبرالية من العولمة ، كونها تُساعدُ في توليد هويّات مركّبة ، تصبُّ في تقبُّل الآخر المختلف ، بشكل واسع . 
  • مع سيطرة مثلّث الليبرالية والعولمة والتكنولوجيا ، غدا العالم على صورة مُغايرة . فقد خلّف ذلك تأثيرًا على هوية الفرد ، التي راحت تنتقل من المحلي إلى الإقليمي ، وصولاً إلى العالمي . ومن تجليات ذلك ما بات يُعرف راهنًا بالمواطنة الرقمية . 
  • تشهدُ مجتمعاتنا عودة للأصوليات المتطرّفة ، التي تتحصّن في خنادق الدين والإتنيات والأعراق ، مما يُشكِّل عامل تهديد للمواطنة، ولكل ثقافة ديمقراطية ، وبما يردّ هذه المجتمعات إلى مرحلة “ما قبل الدولة ” ، متمثّلةً في صيغ الطائفة والمذهب والقبيلة ، وما إلى ذلك من انتماءات جهوية وكيانات مُغلقة . 

 

  • استكمالاً ، وفي الغوص على هذه المسألة ، يتحصّل أنّ العقل لدينا ما زال عاجزًا عن انتشال العربي من الذهنية الغيبية ، المرتكزة على مبدأ الحقيقة المطلقة ، بقدرِ عجزه عن العبور به إلى ذهنية تنويرية ، قادرة على تأسيس مجتمع مدني وسياسي حديث ، قائم على مبدأ التعاقد بالإرادة الحرّة ، ومبدأ الحق بالاختلاف . 
  • عن الهوية العنفية للجماعات الإسلامية المتطرفة ، فهي تقوم على سبعة أركان ، ولتنسحب على الأفراد ، كما على الجماعات ، في كل زمان ومكان: الشعب المختار (أي الفرقة الناجية) / الأرض (بمعنى كل أرض فيها مسلم أو رُفات مسلم هي أرض إسلامية ) / ناقلو الثقافة أو الزعماء الروحيون (نُخب النُخب، وهم ليسوا فقهاء وليس لديهم ثقافة إسلامية مُعمّقة بل هم نَقَلة ثقافة) / الوعي بالتاريخ (أي تاريخ الصراع وليس تاريخ السلام) / التخلُّص من البربرية (أي تطهير الأرض من الكافرين) / الادعاء بصفاء المقصد / شرعية الميتولوجيا والأساطير (أي معارك آخر الزمان) . 
  • مثلما يوجد توجُهات إسلامية متطرفة ، هناك أيضًا علمانية متطرّفة. ففي هذه الحالة لا يختلف التطرّف اليساري عن اليميني . كما لا تختلف دعوة “الهجرة” ، عند بعض الجماعات الإسلامية ، عن “تشي غيفارا ” وبعض اليساريين الذين دعوا للهجرة إلى البؤر الثورية في العالم . 
  • “داعش” قد يكونُ انتهى تنظيميًّا ، ولكنه لم ينتهِ فكريًّا ، فهو لا زال ماثلاً لدى بعض الأفراد والجماعات . 

 

  • التنظيمات الجهادية الإسلامية ، خطرُها على المسلمين لا يقلُّ عن خطرها على أتباع ديانات أخرى . 
  • مشكلة الهوية هي أم مشاكلنا الجمعيّة الوطنية برمّتها ، فهذه المشكلة غالبًا ما تضع لبنان واللبنانيين عند مفترقات طرق المتاهة . 
  • إن ما يثور ، لبنانيًّا حول الهوية ، من مخاطر ، هو مُتعدِّد الأوجه ، ولكن ما هو الأشد خطورة ما حدث لبعض النصوص ، وتحديدًا قانون التجنيس ، الذي تبيّن أن لا أساس له ، وما هو مفادُه من ناحية. و من ناحية أخرى، قانون تملُّك الأجانب ،الذي بالغت به السلطة السياسية ، إلى حدٍّ بعيد ، بما يُهدِّدُ الهوية اللبنانية . 
  • بما يخص لبنان ، فإن الأزمات والحروب التي عاشها اللبنانيون ، على مدى العقود الماضية ، والتي انتهت بتسويات واتفاقات ، أبرزها “اتفاق الطائف” (1989) – لم تُفضِ إلى بناء الدولة المدنية ولا بناء مواطن . فغالبية الجماعات بقيت أسيرة معتقداتها وخوفها على وجودها وامتيازاتها ، ولم تخرج من معتقلاتها الطائفية والمذهبية لتلتقي بالآخر ، وتبني معه دولة المواطنية . 
  • استكمالاً ، بعد حوالي نيّف وقرن على قيام لبنان الكبير(1920) ، لا تزال الهوية اللبنانية الوطنية الجامعة غائبة ، لمصلحة الهويات الفرعية والانتماءات العائلية والعشائرية والطائفية . 
  • لقد فشل اللبنانيون ، الذين تجمعهم عناصر مشتركة كثيرة، وهم يعيشون على أرض مساحتها عشرة آلاف كلم مربع فقط ، في بناء هوية وطنية ، في حين نجح الكنديون ، الذين يضمّون خليطًا من الأعراق والأديان والجنسيات ، ويعيشون على عشرة ملايين كلم مربع ، في بناء دولة العدالة والمساواة والرفاهية والمواطنية ، رُغم بعض العوائق والصعوبات . 

 

ملحق : في الهوية الإسرائيلية 

  • لما كان الصراع مع العدو الصهيوني ، مغتصب أرض فلسطين ، والعامل على طمس الهوية الفلسطينية ، هو ، في جانب كبير منه ، صراع هويَّاتي ، ولطالما كان يتردّد أنه صراع وجود أكثر منه صراع حدود ، وبهدف تكاملية الأطروحة ، التي يُقاربها مؤتمرنا العلمي ، تمَّ إفراد هذا الملحق، لتعمُّق الهوية الإسرائيلية ، في ظل مأزق وجوديّ ، تعيشُهُ هذه الدولة. 
  • منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول (1897) ، شهدت الحركة الصهيونية جولاتٍ ، لا حصر لها ، حول طابع الدولة العبرية ، ولم تُحسم المسألة حتى اليوم . فمن جهة ، ذهبت الأوساط اليهودية العلمانية إلى بناء دولة ديمقراطية علمانية (الأشكينار، وهم يهود أوروبا) ، تقوم على فصل الدين عن الدولة . ومن جهة أخرى ، ذهبت الأوساط الدينية إلى بناء دولة يهودية ، تحكمها القوانين الدينية. 
  • بالتوازي ، فإن قضية الهويّة الإسرائيلية هي مثار جدل كبير بين الأطراف الإسرائيلية ، تتجسَّد راهنًا ، عبر مشهديات مستمرة من الصراع العنفي . هذا الصراع يفضي إلى تصدّعات ، يعيشها المجتمع الإسرائيلي : صراع على أساس قومي (بين اليهود والفلسطينيين ) ، وعلى أساس ديني (بين العلمانيين والمتدينين ) ، ومن منطلق سياسي إيديولوجي (بين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار)، وعلى أساس إتني (بين الأشكيناز من جهة ، واليهود الشرقيين والفلاشة من جهة أخرى ) . بالإضافة إلى صراع اجتماعي اقتصادي (بين الأغنياء والفقراء ) . 
  • في إبراز مكوِّنات المجتمع الإسرائيلي ، فهو يضم الأشكيناز (يهود أوروبا) ، وهم مؤسِّسو الحركة الصهيونية . ويضم اليهود الشرقيين القادمين من البلدان العربية والإسلامية ، وهم بعيدون عن الإيديولوجيا الصهيونية الاشتراكية ، وكذلك عن مفهوم الديمقراطية، ويُعانون اضطهادًا في مختلف المجالات . وهناك اليهود الاثيوبيون (الفلاشة) ، أكثر الفئات تهميشًا ، ويعانون من التمييز ضدهم . وإمعانًا في هذا التمييز ، يتمّ فصل الطلاب اليهود الاثيوبيين عن باقي الطلاب . وفي إطار اليهود المتدينين ، ثمة الحريديّون”       ((Ultra-Orthodox ، وهم يرفضون الاندماج في المجتمع ، ويرفضون الخدمة العسكرية ، ولا يلتزمون المنهج التربوي الرسمي في مدارسهم الخاصة . وهناك فئة العلمانيين ، والعلمانيين الملحدين.
  • في تعمّق الفكر الصهيوني ، لدى المتدنيين ، بمختلف ألوانهم ، فإن أرض فلسطين ، أرض الميعاد ، مُنحت لهم من الله ، وحقهم فيها غير قابل  للجدل ، ولا يجوز التنازل عنه. وهم يذهبون إلى أن هدف الحركة الصهيونية “تحقيق مشيئة الله ” . 
  • بهدف “تضخيم” ، دولة إسرائيل سُكّانيًا ، يتمّ منح الجنسية الإسرائيلية لكل عائلة أو فرد ذي أصول يهودية ، حتى الجيل الثالث ، وإن لم يكن هو نفسه يهوديًّا . وقد أفاد من ذلك (قانون العودة للعام 1950 ) اليهود الروس ، إذْ اكتسب مليون ومائتا ألف روسي الجنسية اليهودية ، وهم لا زالوا يحافظون على تقاليدهم وأنماط عيشهم الروسية( لهم صحفهم التي تصدر باللغة الروسية ) . 
  • إن التظاهرات العارمة ، التي تشهدها تل أبيب راهنًا ، وللأسبوع الخامس والعشرين على التوالي ، هي تجلٍّ لعدة أزمات : أزمة الهوية ، وأزمة الانقسامات والتصدّع المجتمعي. وفي عِداد المطالب المرفوعة ، الاحتجاج على صرف مبالغ كبيرة على مدارس “الحريديين” ، ووضع خطة للإصلاح القضائي ، إذْ يُنظر إلى المؤسسة القضائية ، من قبل اليهود الشرقيين ، على أنها منحازة إلى الأشكيناز . ناهيك عن الخلاف بين العلمانيين والمتدينين (بكل أطيافهم) ، حول هويَّة الدولة ، دولة شريعة أم دولة قانون مدني . 
  • ثمة إجماع بين الباحثين في إسرائيل أن كل مرحلة وحدث ، شهدهما الكيان الإسرائيلي ، كان يحمل في طياتِهِ أزمة هوية ، تظهر حدّتها بطريقة مُتفاوتة . وقد شهدت إسرائيل أربعة تحولات ، الأول تمثّل بالعلمنة مع نشوء الحركة الصهيونية وانطلاقها . التحول الثاني مع قيام دولة إسرائيل 1948 ، حيث كان تجديد ثقافي ، قومي وديني. أما التحول الثالث ، فمع حربي 1967 و 1973 ، إذْ غدا الصراع العربي الإسرائيلي عنصرًا مركزيًّا ، في مسار الهوية الإسرئيلية . والتحول الرابع ، تجلّى في مقتل إسحق رابين، رئيس وزراء إسرائيل ، على يد متطرّف دينيًا ، إثر إبرامِهِ اتفاقية السلام 1991 ، التي رأى إليها المتطرفون اليهود خطرًا وجوديًّا على إسرائيل. 
  • إن غياب النواة الثقافية والقيم المشتركة بين مكوِّنات المجتمع الإسرائيلي ، يجعل منه مجتمعًا معطوبًا بنيويًّا ، ويستبطن عوامل تفجّره هوياتيًّا . ومن المفارقات ، من وجهة نظر دستورية ومن منظور علم السياسة، أن إسرائيل تُعرِّف نفسها بأنها “دولة يهودية وديمقراطية” . 

رابعًا – في المقترحات / التوصيات 

1- الهويّة المركّبة ، والمميِّزة للبُعد الإنساني في الإنسان ، ينبغي مقاربتُها من خلال فكر ، هو ذاته مركَّب ، منفتح على معاني الأزمة والفوضى واللايقين لوجودنا الراهن . 

2- ينبغي بناء الوحدة السياسية ، في إطار جماعي ، بحيث تكون مرجعيّة الحكم للقانون ، الذي يؤمِّن الحقوق ويحميها ، وهو الذي يحمي حرية الروابط الجمعية ، التي ينتمي إليها الفرد المواطن . 

3- لتأمين ديمومة الانتماء إلى الوطن ، يجب تعزيز الأخوّة البشرية (Philia) بيننا – وهي التي تكلّم عليها الفيلسوف أرسطو- والتي ندعوها اليوم الأخوّة . هذه الأخوّة هي ما يربطنا بالوطن ، ويوطَّد انتماءنا إليه. 

4- استكمالاً ، فإن قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الإمام أحمد الطيّب ، قد أوسعا لهذه الأطروحة (أطروحة الأخوة) في “وثيقة الأخوة الإنسانية” ، التي أبرماها في أبو ظبي 2019 . 

5- يجب أن يُشكّل الرابط الأخوي (أو الألفة) حجر الزاوية لبناء كيان سياسي ، ذي “دولة دستورية” ، حيث الاحتكام إلى القانون .

6- في إطار المجتمع التعدّدي ، يجب احترام الهويّة الثقافية والدينية لكل طرف من الأطراف ، على قاعدة احترام الاختلاف والتنوّع والإيمان بالإِخاء الإنساني واحترام كرامة الإنسان كإنسان . 

7- استكمالاً ، يجب تأصيل قضية قبول الآخر ، انطلاقًا من الكرامة الإنسانية للإنسان ، واحترام الفوارق دون تعزيزها أو تعميقها ، والإيمان بأدوار الآخرين ، ضمن النطاق المجتمعي ، إذْ لكلّ إنسان دور، ينبع من حريته ، كفاعل أصيل ، وأنّ كل فرد يُشكِّلُ جزءًا وليس الكلّ . ولا بد ، نهاية المطاف، من تناغم وتناسق ، في حركة الأجزاء ، بما يضمن التكامل وخلق حالة من التوازن بين جميع هذه الأجزاء . 

8- تعزيز ثقافة السلام الاجتماعي ، أو ما يُطلق عليه ابن خلدون “التآنس” الاجتماعي ، وذلك خدمةً للعيش المشترك . وهذا “التآنس” ينطلق من جُملة القيم الأساسية ، مِن مثل المساواة، والعدالة ، والاحترام المتبادل، والتسامح والكرامة الإنسانية .

9- لتحقيق العيش المشترك ، البديل من الاختلاف والتناقض والتباغض، وربّما الاحتراب ، يجب بناء حالة من التفاعل الاجتماعي ، عبر الحوار المجتمعي ، القائم على احترام الرأي والرأي الآخر . علمًا أن قبول الآخر المختلف يبني ثقافة حوار عامة ، ذات طابع إيجابي . 

10 – في عالم يتوحّد يومًا بعد يوم ، سيزداد اختلافنا وتنوّعنا ، وستقلّ قواسمنا المشتركة ، وتُصبح هويتنا الجمعية بحاجة إلى إعادة بناء ، لا بُدّ أن نُعيرَ التربية على المواطنية اهتمامًا ، إلى أبعد الحدود ، ونجعل منها قضية القضايا . 

11- إلحاقًا بالنقطة السابقة ، تلعب المؤسسة التربوية دورًا أساسيًّا، في التدريب على المواطنية ، لا على الصعيد النظري فحسب ، بل عملانيًّا ، وذلك عبر تسليك المواطنية ، أي جعلها سلوكًا يوميًّا . من هنا يجب ندبُ المؤسسة التربوية ، بكل ألوانها ، لهذه المهمة . 

12- يجب العمل على تعزيز الهويّة اللبنانية الجمعية ، عبر توحيد مناهج التاريخ والتربية المدنية في المدارس ، للوصول إلى مواطنية ، تتكرّس في النصوص ، وبما يجسّد واقع العيش التعدّدي ، في صيغِهِ الصحيّة . 

13- إن الخطوة الأولى ، في مشروع الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي ، تتمثّل في إعادة بناء العلاقة بين الهويّات الفرعية ، على أسس الحوار والاحترام المتبادل ، وصولاً إلى مبدأ المواطنة ، الذي يحتضن الجميع، ويجعلهم ، في سويَّةٍ واحدة ، بما يخصُّ الحقوق والواجبات . 

14- يجب على السلطة ممارسة مسؤولياتها بعدالة ، من دون تمييز أو تفرقة ، على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات . وهي بقدر ما تفعل ، في هذا المجال ، تدفع إلى تعميق اللُحمة بين المواطنين ، وتكوين الهوية الوطنية، التي هي نتاج تفاعل أفقي بين الناس ، وتفاعل عمودي بينهم وبين الأرض التي يعيشون عليها . وبالمقابل ، بقدر ما تتبلور الهوية الوطنية الجامعة، تضمحل الهويات الفرعية ، العائلية والعشائرية والمناطقية والطائفية . 

15- يجب النزول بالوثيقة “وثيقة الأخوة الإنسانية” ، بما تضمّ من منظومات قيم ، إلى الجامع وإلى الكنيسة ، لوضعها بين أيدي المؤمنين، من مختلف الطوائف والمذاهب . وبحسب الإمام د. أحمد الطيب ، فإن خطبة يوم الجمعة في المسجد يُعادل أثرها الإيجابي قراءة عشرات الكتب! 

16- المبادرة إلى وضع “الدليل التربوي” لـِ”وثيقة الأخوّة الإنسانية” ، الذي تمّ إنجازه مؤخّرًا ، من قبل هيئة دينية مسيحية إسلامية ، بين أيدي أساتذة التربية المدنية واستطرادًا بين أيدي الطلبة ، إذ أن  ذلك يشكِّلُ  ترجمةً عملية لهذه الوثيقة ، التي تفضُلُ “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” ، كونها نابعةً من صميم مجتمعنا وتلامس همومنا وقضايانا . 

17- تحويل “إعلان الأزهر” (للعام 2017) ، عن المواطنة والحرية والتنوّع والعيش المشترك ، من إعلان نوايا طيِّبة إلى إعلان تصميم على تحقيق العيش المشترك ، بإحقاق المواطنة والتضامن والتعاون والأخوّة الوطنية والإنسانية . 

18- بالتوازي مع تفعيل ” وثيقة الأخوّة الإنسانية ” ، لا بأس من اعتماد وثيقة ذات طابع لبناني ، أي “وثيقة الأخوّة اللبنانية” ، لاسيما أن الوثيقة “الأم” ، اقتُصرت على العالم المسيحي الكاثوليكي والعالم الإسلامي السُنّي ، ولم تكن ثمة فاعلية للطوائف والمذاهب الأخرى ، من مسيحية وإسلامية ومحمدِّية. 

19- المفكر علي حرب ، في كتابه (حديث النهايات / فتوحات العولمة ومآزق الهوية ) ، يذهب إلى أن الهوية ليست هاجسًا مخيفًا ، يجب أن ننهج تجاهه سياسة الاحتراز ، أو أن نقف ضده ، كحرّاس للقيم . بل هي إمكان منفتح ، يعطي قابلية للتطويع والتحويل ، لما يتلاءم معنا . وفي صميميّة عملية التحويل والتطويع ، يمكن للهوية – بل يجب في عُرفنا – أن تتجدّد وتتمدّد . فالهوية ليست شيئًا ثابتًا ، بل هي إبداعٌ مستمرٌّ للذات وللمجتمع . 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *