الديبلوماسيّة الثقافيّة وفائض القوّة

Views: 527

د. عبد الحسين شعبان*

إذا كانت الديبلوماسيّة أداةً تنفيذيّة للسياسة الخارجيّة للدولة، فإنّها تقوم على ثلاثة أبعاد أساسيّة، أوّلها – سياسيّة؛ وثانيها – اقتصاديّة؛ وثالثها – ثقافيّة. ومنذ مطلع القرن التّاسع عشر، بدأ البُعد الثالث يأخذ حيّزاً كبيراً في العلاقات الدوليّة، باعتباره عاملاً مُضافاً ومؤثِّراً في تحقيق أهداف السياسة الخارجيّة، وقد أولته الدولُ والحكومات اهتماماً كبيراً، واتّسعت مكانته في القرن العشرين في ظلّ الصراع الإيديولوجيّ والحرب الباردة (1946 – 1989)، بين المُعسكرَيْن الاشتراكيّ بقيادة الاتّحاد السوفييتيّ، والرأسماليّ بقيادة الولايات المتّحدة، بخاصّة بعد انتهاء الحرب العالَميّة الثانية.

لا أدري كيف خطرَ ببالي وأنا أتناول موضوع الديبلوماسيّة الثقافيّة، أسماء بعض المثقّفين البارزين الذين لعبوا دَوراً ديبلوماسيّاً أيضاً، وأَسهموا، بما يمتلكون من ثقافةٍ ومَعرفة، في بلوغ الحدّ الأعلى من الرسالة الديبلوماسيّة لبلدانهم، كوسيلة من وسائل تحقيق أهداف السياسة الخارجيّة. أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشاعر التشيلي بابلو نيرودا (1904 – 1973)، الذي عمل ديبلوماسيّاً في الأرجنتين وإسبانيا وسيريلانكا، وقد أصدر العديد من المجموعات الشعريّة مثل ديوان “عشرون قصيدة حبّ وأغنية بائسة” الذي أوصله إلى العالَميّة و”مائة قصيدة حبّ” ومذكّراته التي اكتسبت شهرة كبيرة، وهي بعنوان: “أعترف بأنّني قد عشت“.

ونزار قبّاني (1923 – 1998)، الذي احتلّ موقعاً دبلوماسيّاً مرموقاً مُمَثِّلاً لسوريا في كلٍّ من بريطانيا وتركيا والصين وإسبانيا، وقد كان من إصداراته الأولى “وقالت لي السمراء” و”طفولة نهد، ومن أشهر مجموعاته الشعريّة “الرسم بالكلمات” و”قصائد متوحّشة” و”إلى بيروت الأنثى مع حبّي و”أشهد أن لا امرأة إلّا أنت“، التي غنّاها الفنّان كاظم الساهر، و”بلقيس” و”هكذا أكتب تاريخ النساء” و”أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء“.

ومحمّد توفيق، السفير المصري في واشنطن، الذي وُلد في العام 1956، وكَتب رواية “فتاة الحلوى“، عن دَور المُخابرات المركزيّة الأميركيّة في اغتيال العلماء المصريّين والعرب، وحين تمّ تعيينه سفيراً لمصر في واشنطن، كادت تحدث أزمة ديبلوماسيّة بين البلدَيْن، وسبق لي أن قرأتُ له رواية أخرى بعنوان: “ليلة في حياة عبد التوّاب توتو“.

ونجدت فتحي صفوت (1923 – 2013) الديبلوماسي والمؤرِّخ العراقي، الذي لبس قبّعة الديبلوماسيّة وقبّعة المؤرِّخ والكاتب، ومن مؤلّفاته “اليهود والصهيونيّة في علاقات الدول الكبرى و”العراق في مذكّرات الدبلوماسيّين البريطانيّين” و”الماسونيّة في الوطن العربي” و”الجزيرة العربيّة في الوثائق البريطانيّة“.

وغازي القصيبي (1940 – 2010) الشاعر والروائي وسفير المَملكة العربيّة السعوديّة في البحرين وبريطانيا، ومن مؤلّفاته “حياة في الإدارة” وديوان أشعار “من جزائر اللّؤلؤ“؛ و”حكاية حبّ” و”العصفوريّة” و”حديقة الغروب وغيرها.

وكان لقيام منظّمة اليونيسكو، كإحدى هيئات الأُمم المتّحدة بعد تأسيسها في العام 1945، دَورٌ كبير في الاهتمام بالديبلوماسيّة الثقافيّة، ولاسيّما في مجال التربية والعِلم والثقافة، وهي أدوات للقوّة الناعمة، أي بمقدورها إحداث الإقناع المطلوب والتأثير على الآخر عبر القيَم والأفكار والفنّ والثقافة بشكلٍ عامّ، فليست القوّة العسكريّة وحدها هي الأداة الجديرة بتحقيق أهداف السياسة الخارجيّة، وخصوصاً في ظلّ توازناتٍ دوليّة دقيقة، بحيث يُصبح اللّجوء إلى الوسائل العسكريّة، أحياناً، أمراً محفوفاً بمخاطر شتّى، وقد تعود سلباً على الدولة ذاتها بدلاً من تحقيق أهدافها السياسيّة.

ونظَّم معرض القاهرة الدولي للكتاب في العام 2023 حلقة نقاشيّة بعنوان: “كتابات ديبلوماسيّة“، سلّطت الضوء على علاقة الديبلوماسيّة بالثقافة بشكلٍ عامّ، والأدب بشكلٍ خاصّ. ومن نافل القول إنّ الديبلوماسي كلّما امتلك ثقافة واسعة ومعرفة ومعلومات، استطاع أن يقدّم خدمة أكبر لبلده، وخصوصاً بما يمتلك من قوّة إقناع وحجّة وخبرة، والديبلوماسي المثقّف المطّلع والمُلِمّ بثقافة الآخر ولغته، يعرف نقاط قوّته مثلما يعرف نقاط ضعفه في الآن عَيْنه. ويَعتبر جوزيف ناي أحد الذين كتبوا في ميدان اللّاعنف أنّ “الديبلوماسيّة الثقافية” هي أفضل مثال للقوّة الناعمة، أي إمكانيّة التواصُل عبر القيَم الثقافيّة والأفكار من دون إكراهٍ أو إرغام، بل عبر الإقناع وجاذبيّة التأثير والنموذج.

وأسهمت العَوْلَمة، وبخاصّة ثورة المعلومات والاتّصالات وتكنولوجيا الإعلام، بما فيها الثورة الرقميّة: “الديجيتال” واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي، في التبادُل غير المسبوق للأفكار والفنون، بما فَتح حواراً موضوعيّاً بين ثقافات وأُمم وأديان وشعوب عبر البشر المتنوّعين والمُختلفين مثل تنوُّع الحياة التي تزخر بالجديد كلّ يوم، وهو ما قرَّبَ المسافات أيضاً وخَلَقَ فُرصاً للتفاهم، حتّى وإن كانت خارج سياق السياسات الرسميّة، الأمر الذي زاد من حجْم الحيّز الذي تلعبه الديبلوماسيّة الثقافيّة في العلاقات الدوليّة المُعاصِرة لتنفيذ أهداف السياسة الخارجيّة، بل الاستثمار فيها لِما فيه من مردودٍ إيجابي، حتّى وإن طالَ أمده.

وعملتِ البلدانُ الصناعيّة المتقدّمة على تطوير برامج ثقافيّة متقدّمة تقنيّاً وبإمكاناتٍ ماديّة ومعنويّة كبيرة، وخبراتٍ عالية باستخدام العنصر البشري، لكي تسود تلك المفاهيم والسلوكيّات ومنظومة القيَم والخطاب الأيديولوجي ونمط الحياة على البلدان والشعوب الأضعف والأقلّ تأثيراً، والعديد من هذه البرامج تتّسم بطابعٍ شائق لتعميمها والترويج لها، سواء عبر التبادُل الأكاديمي والمهني والثقافي والمؤتمرات والمحاضرات والأدب أو السينما والموسيقى والمسرح والرسم وغيرها.

استُخدمت الديبلوماسيّة الثقافيّة كجزءٍ من فائض القوّة في العلاقات الدوليّة، وكمادّة للصراع في إطار فرض قيَمٍ معيّنة. وقد حاولت الولايات المتّحدة الأميركيّة منذ عهد الرئيس كينيدي استخدام نظريّة “بناء الجسور” لاختراق الكتلة الاشتراكيّة، التي قال عنها الرئيس جونسون: إنّها جسور ستعبرها البضائع والسلع والأفكار والسيّاح. وهكذا سعتْ واشنطن بوسائل التغلْغُل النّاعم والتوغُّل الطويل الأمد إلى إحداث التغيير من داخل البلدان الاشتراكيّة، بعدما فشلتْ عمليّات التغيير من الخارج. وكان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر قد تنبّأ بذلك حين وَصَفَ البلدان الاشتراكيّة بقوله: إنّها حصون منيعة وعالية، هكذا تبدو من الخارج، بحيث يصعب اقتحامها، لكنّها هشّة وخاوية وضعيفة من الداخل.

وتمكّن الغرب عبر الحرب النفسيّة ووسائل الضغط الاقتصادي والحرب الإعلاميّة والإيديولوجيّة من الإطاحة بالدول الاشتراكيّة من داخلها، مستغلّاً نقاط ضعفها، مثل طبيعة نظامها الشمولي التوتاليتاري، القائم على الأحاديّة الحزبيّة وعبادة الفرد، وشحّ الحريّات والاختناقات والأزمات الاقتصاديّة المستمرّة، فتمكّن من التأثير عليها وزعزعتها على نحوٍ تدريجي؛ وبحسب هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، كان اعتماد سياسة الخطوة خطوة لخلخلة بنيانها الفكري والثقافي، فضلاً عن سباق التسلّح المحموم، الذي اندفع فيه الاتّحاد السوفييتي، وكان آخره مشروع برنامج “حرب النجوم” في العام 1983، الذي خصّصت له الولايات المتّحدة تريليوني دولارٍ أميركي، ولم يكُن الاتّحاد السوفياتي قادراً على مُجاراتها فيه، فضلاً عن تعثّر خطط التنمية بسبب ميزانيّات التسلُّح الضخمة. وهكذا تهاوت البلدان الاشتراكيّة، الواحدة بعد الأخرى، مثل التفّاحة النّاضجة.

جدير بالذكر أنّ التمايُز الثقافي، بما فيه الاختلاف، لا يؤدّي بالضرورة إلى الصدام، ولكنّ المصالح الاقتصاديّة والسياسيّة والأطماع الجيوسياسيّة هي الأساس، حتّى وإن تمّ التعبير عنها ثقافيّاً أحياناً، في حين أنّ الثقافة والفنّ والأدب، بالعكس من ذلك، هي مجالٌ إنسانيٌّ وحيويٌّ لتقريب البشر بعضهم من بعض، وليست سبباً في تباعُدِهم أو بثّ روح الكراهيّة بينهم.

وإذا كانت البلدان الصناعيّة المتقدّمة تسعى إلى تصدير ثقافتها وأنماط حياتها وسلوكها الاجتماعي، فإنّ البلدان النامية تسعى إلى حماية تراثها الثقافي، والحفاظ عليه، خشيةً من الاختراقات التي تستهدف كيانيّتها وتهدّد وحدتها، من دون أن يعني الانغلاق، في عصرٍ لا يُمكن فيه وضع حواجز أمام الانفتاح على الثقافة العالميّة ومنجزاتها الكبرى في الأدب والفنّ والعمارة والتكنولوجيا، ناهيك بالعلوم والتقنيّات الحديثة. والانفتاح لا يعني تذويب الثقافة المحليّة والخصوصيّة الوطنيّة والهويّة الخاصّة لحساب الثقافات الكبرى التي تسعى مصالح القوى المتسيِّدة لفرْضِ الهيْمَنة من جانبها والاستتباع من جانب الدول والشعوب الأضعف، بقدر ما يعني التفاعُل معها كظاهرة كونيّة لا يُمكن الوقوف ضدّها أو مُجابهتها.

وتسعى العديد من البلدان اليوم إلى تطوير مؤسّساتها الديبلوماسيّة الثقافيّة، باعتبارها عاملاً من عوامل قوّة الدولة الكامنة التي لا بدّ من الاستفادة منها كتعويضٍ أحياناً عن القوّة العسكريّة أو الاقتصاديّة، التي كانت تشكّل الحيّز الأكبر من واقع السياسة الخارجيّة، وعلى أقلّ تقدير خطّ دفاعٍ سلميّ مقبول ومُعترَف به من ضمن إطار القانون الدولي وميثاق الأُمم المتّحدة.

وبهذا المعنى، فإنّنا حين نتحدّث عن الديبلوماسيّة الثقافيّة، فإنّها ليست ترفاً فكريّاً أو لعباً في الوقت الضائع، بقدر ما هي حاجة ماسّة، تُقاس نجاحات الدولة وقوّتها اليوم بمدى قدراتها الثقافيّة على تكوين علاقاتٍ دوليّة وتبادل المعلومات والمعارف والفنون، بما يؤدّي إلى خدمة الإنسان واحترام حقوقه الأساسيّة العامّة والفرديّة.

وأصبحت الديبلوماسيّة الثقافيّة اليوم ركناً متيناً من أركان دبلوماسيّة القرن الحادي والعشرين، حتّى أنّ بعض الدول النامية، أخذت تحجز لنفسها مكاناً متقدّماً فيها، ليس بسبب قوّتها العسكريّة، بل بفعل إمكاناتها الاقتصاديّة التي توظّفها في إطار دبلوماسيّة ثقافيّة تكون قادرة على الاستقطاب، لما تملكه من مقوّمات التأثير على الجماعات والشعوب والأمم الأخرى بالتجاوز على الوظيفة الديبلوماسيّة التقليديّة، أي أنّها تتضمّن الإبهار من جهة، واجتذاب الآخر بدلاً من ترويعه أو قهره بوسائل عسكريّة أو عنفيّة.

وكان شاعر أميركي، يُدعى كارل ساندبيرغ قد طَرَحَ في ستّينيّات القرن العشرين سؤالاً ملتبساً: أيّهما أكثر تأثيراً في سياسة الولايات المتّحدة، هارفرد أم هوليوود؟ والمقصود جامعة هارفرد، التي تأسّست في العام 1636، وسمّيت باسم المتبرّع الأوّل، رجل الدّين البروتستانتي جون هارفرد، وهي أقدم مؤسّسة للتعليم العالي في الولايات المتّحدة، وتقع في مدينة كامبريج في ولاية ماساتشوستس.

أمّا هوليوود فاشتهرت عالَميّاً بصناعة السينما وشركات الإنتاج والنجوم السينمائيّين العالَميّين. وهي منطقة في مدينة لوس أنجلس في ولاية كاليفورنيا، وكان أوّل فيلم صوّرته في العام 1908. وكان جوابه مُثيراً: هارفرد أنظف من هوليوود، لكنّ هوليوود أكثر تأثيراً من هارفرد في الوصول إلى أمدٍ بعيد.

وفي ذلك أكثر من مغزىً وأكبر من دليلٍ على قيمة الديبلوماسيّة الثقافيّة وأدواتها المتنوّعة. وإذا كان صرحٌ عِلميٌّ كبيرٌ مثل هارفرد، وهو مؤثّر بلا أدنى شكّ، أقلّ تأثيراً من هوليوود في نشْرِ القيَم الأميركيّة، فإنّ ذلك يعود إلى أنّ ما تُنتجه هوليوود يصل إلى جمهرة واسعة وعريضة من البشر، وخصوصاً أنّ ما يُحدثه الفنّ السّابع، يكاد يُهيمِن على القلوب والعقول معاً، في حين أنّ المُنتَج الأكاديمي يبقى محصوراً بنخبةٍ محدودة وخاصّة، وما تريده الدول الكبرى، وما تسعى إليه، هو تأمين مصالحها الحيويّة عبر التأثير على الآخر، وهو ما تسهم به هوليوود على نطاقٍ واسع.

لقد استثمرتْ دولةٌ صغيرة ومحدودة الإمكانات مثل الإمارات العربيّة المتّحدة، في الديبلوماسيّة الثقافيّة، فكانت ملتقىً لأكثر من 200 جنسيّة، ويزورها سنويّاً أكثر من 15 مليون سائح تعزيزاً لقيَمِ الصداقة والتسامُح والتبادُل الثقافي، وتأكيداً للمُشترَك الإنساني. وأظنّ أنّ الانفتاح الذي حصل في المَملكة العربيّة السعوديّة، ترافُقاً مع مشروع نيوم، يُمكن أن ينقلها إلى مصاف دولةٍ متقدّمة بمعايير الديبلوماسيّة الثقافيّة، بما لها من ترابُطٍ مع الديبلوماسيّة الاقتصاديّة، وذلك جزء من الاستثمار العقلاني البعيد المدى للثقافة والديبلوماسيّة الثقافيّة والاقتصاديّة، الذي يُمكن أن تنتهجه الكثيرُ من الدول النامية لتحقيق أهدافها ورفْع مكانتها في العلاقات الدوليّة.

***

*أديب وكاتب من العراق

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *