جدلية التراجيديا والفلسفة

Views: 443

وفيق غريزي

التراجيديا كلمة غير واضحة الاشتقاق، تطبّق بصورة واسعة النطاق على الأعمال الدرامية وغيرها من الأعمال (في إطار توسيع نطاق الاستخدام) التي تتحرك فيها الاحداث باتجاه خاتمة مشؤومة أو تتضمن كارثة. وقد كان كتاب “الشعر” لـ ارسطو هو أول محاولة لتحديد خصائص التراجيديا وأثره في المشاهد، وتأثيره بعمق في المفهوم الكلاسيكي الجديد للتراجيديا في بريطانيا وفرنسا. وقدّم شكسبير وكتاب آخرون للدراما في المرحلة الاليزابيتية مفاهيم تراجيدية جديدة مستمدة في أحد جوانبها من سينيكا. وواصل هذا الجنس الغني الازدهار في المرحلة اليعقوبية، واعقبت ذلك مرحلة كئيبة اساسا. ولم يتم احياء التراجيديا بصورة جادة، باستثناء حالات محددة، إلا في القرن العشرين الماضي، حينما جلبت اعمال ابسن وستراينبورغ واونيل وميللر ووليامز وبيكيت جدية وواقعا واهمية جديدة الى الساحة المسرحية.

الباحث والتر كوفمان Walter Kaufmann تناول هذا الموضوع في كتابه “التراجيديا والفلسفة”. فالمشروع الذي ينجزه كوفمان هو في حقيقة امره خطوة متقدمة في نقده للفلسفة التقليدية، تتجاوز ما انجزه في كتابه “نقد الدين والفلسفة” وتضيف اليه، وصولا الى فهم اعمق للوضع الانساني. 

يخاطب هذا الكتاب الذين يهتمون بالتراجيديا، بما يكفي لدفعهم الى الاهتمام بكتاب “فن الشعر” لأرسطو وكتاب “ميلاد التراجيديا” لفريدريك نيتشه، وكذلك الى آراء افلاطون وهيغل.

 

افلاطون والتراجيديا 

يشير المؤلف الى أن ولادة الفلسفة الغربية كانت في مطلع القرن السادس قبل الميلاد، وولدت التراجيديا بعد ذلك بأقل من قرن من الزمان، وهذان التاريخان على نحو مغرق في التضليل، إلا أن الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد كانت مختلفة تماما عن فلسفة القرن الرابع قبل الميلاد، وفيلسوفا هذا القرن الأخير اللذان تناولا التراجيديا مطولا، أي افلاطون وارسطو، كتبا طروحاتهما بعد أن مضى الشعراء التراجيديون العظام، كما أن الفيلسوفين العظيمين لم يظهرا فحسب بعد اعظم كتّاب التراجيديا، وإنما بلورا التراجيديا، الضرب الذي ابدعاه من الفلسفة، في جانب من جوانبه، فقد واصل افلاطون بمعنى من المعاني التطور الذي انطلق من اسخيلوس الى “سوفوكليس 

ويوروبيديس، ويتوسط هذا الأخير الطريق بين اسخيلوس وافلاطون. ولقد كان افلاطون يكتب عن الشعراء كما لو كان نبيا، أما ارسطو فيكتب عنهم باعتباره قاضيا.

 قدّم بارمنيدس، الذي كان يصغر هيرقليطس بثلاثين عاما، مذهبه الجديد في صورة قصيدة، وتابعه زينون الإيلي في جنوب ايطاليا، الذي طوّر حججا لامعة لا تفارق الذهن تأييدا لآراء استاذه. 

ويوًكد الموًلف أنه إذا كان سقراط على حق في ما يتعلق بجهل الانسان الحتمي، فإن افلاطون وارسطو كانا شأن من استهدفهم سقراط بسخريته، يظنان أنهما يعرفان ما لا يعرفانه في الحقيقة، من هنا يفتقران إلى الحكمة. وينتقد افلاطون الشعر التقليدي، أولا لمضمونه، ثم لشكله، وتنقسم اعتراضاته على المضمون الى قسمين: فالشعراء اساءوا تقديم ما هو الهي ثم أن لهم تأثيرا ضارا على الاخلاقيات. ويقول افلاطون: “إن ما هو الهي مسؤول عن الخير وحده لا عن الشر، وانه لا يتغير قط، ولا يكذب أو يخدع، ومن المحتمل أن يقف المتلقي الى جانب افلاطون في ما يتعلق بهذه النقاط جميعها، حتى وإن كان قد خسر ايمانه بأي معتقدات دينية قوية، الأمر الذي يوضح أن افلاطون كان على حق في ما يتعلق بأهمية ما يتعلّمه الناس في الطفولة المبكرة”. هذا، ويختم افلاطون كتابه “الجمهورية” باسطورة. فبعد، انهاء جداله في مواجهة الشعراء، يعاود الظهور في دور الشاعر. أكثر من هذا، فإن المحاورة بأسرها هي نوع من القصائد بالمعنى الأوسع نطاقا للكلمة، وهو المعنى المألوف في اللغتين اليونانية والألمانية، والشعراء الذين يكتبون نقدا ادبيا يدافعون عادة عن قضيتهم، وافلاطون ليس استثناء في هذا الصدد، ونحن نسيء مطالعته اذا افترضنا أن الشعر الوحيد الذي يسمح به في نهاية الأمر هو شعر “بندار”، ويختم افلاطون حديثه بالقول: “علينا أن نهذِّب شعر هوميروس، بحذف ما يتضارب منه مع الفضيلة وأن نحظر التراجيديا، ونمط شعر بندار إنما يسمح به لأنه ينتمي الى نوعية اوسع نطاقا”، وظيفتها الأولى خدمة أدب افلاطون نفسه، وهذا يغدو واضحا بما فيه الكفاية بمجرد بحثنا لبداية و محاورة “الجمهورية” وخاتمتها.

لو أن أيا من الشعراء الجادين الذين ينظمون التراجيديا جاء إلينا وقال: “آه، يا للغرباء، هل لنا أن نمضي الى مدينتكم وبلادكم، أم أن ذلك لن يسمح به لنا، وهل نجلب معنا شعرنا؟”، اعتقد ردنا سيكون: يا خير الغرباء، اننا ايضا شعراء تراجيديون بقدر ما في وسعنا، وتراجيديتنا هي الافضل والأنبل. أنتم شعراء، ونحن شعراء، متنافسون وخصوم في أنبل دراما، القانون وحده يتمها كما نأمل. فلا تفترضوا اذن اننا سنسمح لكم في لحظة أن تقيموا خشبة مسرحكم في الساحة العامة، حسب قول افلاطون، فالتراجيديا محاكاة للحياة، ولكن من الواضح أن ليست كل محاكاة للحياة يمكن أن تكون تراجيديا.

 

القاضي العارف ارسطو

يؤكد المؤلف أنه لم يقدر لكتاب أن يؤثر في كل من التفكير حول التراجيديا، مثلما قدر للفصول الخمسة عشر الأولى من كتاب “فن الشعر” لـ ارسطو، التي يصل طول كل منها في المتوسط الى صفحة كاملة، ومع ذلك، فإن “فن الشعر” مفارق للفلسفة على نحو متزايد بطريقتين بالغتي الاختلاف، ورغم ذلك فما من شك في أن الطريقة الأولى التي يفارق بها الفلسفة تساعد في تبرير تأثيره الذي لا نظير له، على الشعراء والنقاد. 

إن التراجيديا لدى ارسطو هي محاكاة فعل نبيل تام، له طول معلوم، بلغة مزودة بألوان من التزيين تختلف وفقا لاختلاف الاجزاء، وهذه المحاكاة تتم بواسطة اشخاص يفعلون، لا بواسطة الحكاية، تثير الرحمة والخوف، فتؤدي الى التطهير من هذه الاختلافات. ويقول ارسطو عن التراجيديا إنها: “نمت شيئا فشيئا” بإنماء العناصر الخاصة بها، وبعد أن مرت بأطوار عدة، واستقرت بعد أن بلغت كمال طبيعتها الخاصة. إن التراجيديا لا تحاكي الناس بل تحاكي الفعل والحياة. والفارق بين التراجيديا والكوميديا ليس في الجوهر بل فارق في الموضوع، وانما هو يعتمد على منظورنا، فالحدث الواحد الذي يضم اناسا بعينهم يمكن أن يقدم باعتباره تراجيديا أو كوميديا، أي أن أي مفهوم واقعي للدراما التراجيدية ينبغي أن يبدأ من حقيقة وقوع كارثة، فالأعمال التراجيدية تنتهي بصورة سيئة.

 ويرى المؤلف أن ارسطو بعد أن قام بتعريف التراجيديا يمضي الى تمييز ستة اجزاء تتركب منها هي: العقدة والاخلاق والفكر والمنظر المسرحي والنشيد، ولا شيء غير ذلك، ولكن ثمة تساؤلا مهما وهو لماذا يعتبر ارسطو العقدة العنصر الأهم بين العناصر الستة؟ ولماذا يخصص معظم مناقشته لها؟ 

يتعين علينا لكي نفهم ذلك أن ندرك ما يقصده بالعقدة.

 العقدة هي محاكاة الفعل، لأنه يعني بالعقدة تركيب الأفعال المنجزة. 

وعقب ذلك يقول ارسطو: “وأهم هذه الاجزاء هو تركيب الأفعال، لأن المأساة لا تحاكي الناس بل تحاكي الفعل “.

 

التراجيديا بعد افلاطون وارسطو

حينما ناقش افلاطون الشعر، قام اساسا بتناول مضمونه، أما ارسطو فحينما ناقشه عالج شكله. ومن شأن استخدام منهج اصطفائي أن يفضي الى معالجة الجانبين معا، ولكن هناك ابعادا اخرى لا تقل اهمية عن اي منهما، وحسب اعتقاد المؤلف كوفمان، فإن افلاطون لا ينظر اطلاقا إلى عمل واحد باعتباره كلا واحدا، وهو يكتب مرارا وتكرارا عن شعراء التراجيديا وعن هوميروس، لكنه لا يناقش تراجيديا واحدة، هو يقتطف نتفا ضئيلة يعترض عليها، ويلجأ الى التعميم، بمزيد من الجرأة، فيحدثنا بأن الشعر، شأن التصوير، يقدم لنا شيئا زائفا، لكنه لا يتوقف لكي يتساءل عن الكيفية التي قد تعمل بها الفقرات التي يقتطفها حينما تكون في سياقها، وهو اقل تساؤلا عما تدور حول “الالياذة” أو تراجيديا لسوفوكليس، أو ما الذي كان يوربيديس واستخيلوس يرميان اليه.

التراجيديا حسب رأي المؤلف هي ابتداء شكل ادبي جرى تطويره في اثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، وكل الاستخدامات الأخرى لكلمة تراجيديا وتراجيدي مستمدة من هذا المفهوم القائل بأن الاحداث المنتمية الى نوعية معينة هي احداث تراجيدية، وأن الأعمال الأدبية تستحق اسم تراجيديا بالاشتقاق فحسب، هو مفهوم مناقض للحقيقة. إن الفعل في التراجيديا أو الكوميديا ليس كالفعل الحقيقي، الذي قد يثير بالصدفة ردود افعال عديدة، والأعمال التراجيدية والكوميدية تقدم افعالا رمزية، الأمر الذي يعني القول إنها تتضمن ايهاما تعايش وهميا، وانها تراجع الى حد كبير بما يتفق والأعراف التي تختلف من عصر الى عصر، وان القصة تختار بحسب تأثيرها الذي يقصد به على سبيل المثال أن يكون تأثيرا تراجيديا أو كوميديا أو تراجوكوميديا. 

وبعد أن يحدثنا المؤلف عن ميلاد التراجيديا مع هوميروس وموتها مع اسخيلوس، يحدثنا عن سوفوكليس. 

 

شاعر اليأس والبطولة

يؤكد المؤلف أن شأن الموسيقي موزار، لم يواجه سوفوكليس احدا يجد في الحد من قيمته، فقد احبه معاصروه، ومحضوه الاعجاب، ومنحوه الجوائز لمسرحياته كافة، وانتخبوه لمنصب رفيع، وحرصوا على الإشادة بشخصيته. وكانت مسرحيته “اوديب ملكا” التراجيديا النموذجية بالنسبة الى ارسطو، وهكذا كان لها، ليس تأثيرا فريدا على النقاد اللاحقين فحسب، وإنما كذلك على التراجيديا التي جاءت في اعقابها. وطوال ما يزيد على واحد وعشرين قرنا لم يقدر لأي نظرية اخرى في التراجيديا أن تحرز ما يقارب مثل هذا القدر من الاهتمام. 

وقد اجتذبت نظرية الفيلسوف الالماني هيغل هذا القدر بالفعل، وقد وجد المثال المطلق للتراجيديا، لا في اوديب ملكا، وإنما في انتيغونا لسوفكليس. ونيتشه لم يصف سوفوكليس فحسب بأنه اكثر الاثينيين جاذبية، وآخذا بمجامع القلوب، وإنما قال كذلك: “يتمثّل اللغز الأعظم في تاريخ فن الشعر في ما يلي: إذا اخذت في الاعتبار بكل ما كان الشعراء القدامى يجدون فيه عظمتهم، فإن الانسان يمكن أن يكون بربريا، مليئا بالعيوب ومشوّها من قمة رأسه حتى اخمص قدمه، ومع ذلك يظل اعظم الشعراء. كذلك الحال مع شكسبير، الذي إذا ما قورن بسوفوكليس، فإنه يبدو شبيها بمنجم حافل بزخم لا يقاس بالذهب والرصاص والحصى، بينما ليس سوفوكليس ذهبا فحسب، بل هو ذهب في اصفى اشكاله، الأمر الذي يجعل المرء يوشك على نسيان قيمته كمعدن. لكن الكم في اسمى تطوراته يحظى بقيمة الكيف. وقد تحرّك ذلك لصالح شكسبير. وفي معرض الدفاع عن يوربيدس، اعتقد المؤلف أنه لم يقدر الشاعر من الطبقة الأولى أن يتعرض للتقليل من قيمته على نحو ما حصل ليوربيدس، وقد كان من سوء طالعه أن تسع عشرة من مسرحياته قد بقيت حتى وصلت الى ايدينا بالمقارنة بسبع مسرحيات لكل من اسخيلوس وسوفوكليس. ويقول المؤلف في هذا الشان: “تمثل التراجيديات الباقية للشاعر الأكبر سنا مختارات مما اعتبر افضل مسرحياته. وهناك من الأسباب ما يدعو الى الافتراض بان معظم مسرحياته المفقودة لم تكن افضل من “الضارعات”، أو “سبعة ضد طيبة”، أو “اساس”، كانت من مستواها، فدعنا نفترض أن اسخيلوس وسوفوكليس قد مثلت لكل منهما اثنتا عشرة مسرحية اخرى مماثلة، بينما لم يعرف يوربيدس إلا من خلال “اليتس” و”ميديا” و”الطرواديات” و”اليكترا” و”الباخوسيات”. وينبغي تحديد الطبقة التي ينتمي اليها يوربيدس بين الشعراء، شأن سلفيه وكبار الشعراء الآخرين، بحسب افضل اعماله، ويتعين كذلك أن نكون ممتنين له للنصيب الذي ساهم به في جعل افضل مسرحيات سوفوكليس في نطاق الامكان.

 

شكسبير والفلاسفة

من بين الفلاسفة الستة الكبار الذين تناولوا التراجيديا مطولا، ركّز افلاطون وارسطو، ونيتشه اهتمامهم على التراجيديات الاغريقية، ورغم اهتمامه بهذه التراجيديات فإن نيتشه لم يغفل شكسبير. وقد اهتم هيوم وهيغل وشوبنهاور بصورة عادلة بالإغريق وشكسبير، وحتى الفلاسفة الالمان الثلاثة لم يتعرضوا للتراجيديا الالمانية إلا بإشارات عابرة. وقد يكون اختيار هؤلاء الفلاسفة الستة في مواجهة ابسن وستراتنبرغ أو مسرحيات القرن العشرين امرا مثيرا للاهتمام، ومن وجهة نظر المؤًلف فإنه لن يكون من الانصاف انتقادهم لعدم انصافهم لأعمال كتبت بعد موتهم، وبما أن احدا منهم لم يناقش مطولا اعمال كورناي أو راسين أو وضع ايا منهما في مرتبة شكسبير أو الاغريق فإنه يبدو من المناسب أن نركز على شكسبير.

 

 إن كتاب “التراجيديا والفلسفة” كتاب شيق في موضوع شائك، وحتى لو لم يخرج منه المؤلف والتر كوفمان إلا بتعلم طريقة جديدة في طرح التساؤلات حول القضايا الأكثر اهمية في حياتنا الثقافية، لكفاه وكفانا…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *