المصوِّر … ذاكرة العرب الفوتوغرافيّة
ممدوح مبروك*
تُعَدّ مجلّة المصوِّر واحدة من أعرق المجلّات المصوَّرة المصريّة التي لم تترك حدثاً مصريّاً أو عربيّاً إلّا ووثَّقته بالصورة والكلمة، الأمر الذي أَكسبها شهرةً واسعة لدى القرّاء منذ صدورها في العام 1924 على يد الأخوَيْن اللّبنانيَّيْن إميل زيدان وشكري زيدان، صاحبَيْ دار الهلال خلفاً لوالدهما جرجي زيدان، لتُقدِّمَ بذلك نموذجاً صحفيّاً متكامل الأركان، يجمع بين مهنيّة المدرسة الصحفيّة اللّبنانيّة، وزخم الأحداث التي عُرف بها الشارع السياسيّ المصري على مَدار تاريخه.
لم تقتصر المصوِّر على إحداث تغييرٍ في شكل المجلّة بصفةٍ عامّة فحسب، إنّما نجحت أيضاً في تطوير ذوق القارئ العربي؛ حيث أسهَمَت في جعْله أكثر إقبالاً على قراءة المجلّات، بعدما كان اهتمامه مقتصراً على قراءة الصحف فقط.
صَدَرَ العددُ الأوّل من “المصوِّر” في 24 تشرين الأوّل/ أكتوبر عام 1924 كمجلّة أسبوعيّة متنوّعة الموضوعات، حاملاً على غلافه رَسماً للملك أحمد فؤاد الأوّل. كما احتوى ظهرُ الغلاف على صورٍ لتمثالِ نهضة مصر للفنّان محمود مختار، والذي كان يجري نَصْبُه في ميدان محطّة مصر آنذاك.
وضعتِ “المصوِّر” لنفسِها مجموعةً من المبادئ الأساسيّة التي سارت عليها سياستها التحريريّة منها:
- ألّا تتدخّل في السياسة؛
- أن تُراعي التنوُّعَ في موضوعاتها وفي صورِها؛
- أن تكون الأسبق في نَشْرِ أهمّ الصور؛
- أن تجعل صفحاتها مرآةً تنعكس عليها حوادث العالَم وأحواله فضلاً عن الشؤون الداخليّة؛
- أن ترضي الرجل والمرأة على السواء؛
- أن تُدقِّق في اختيار ما يُنشر، وألّا تختار إلّا أجود الجيِّد وأهمّ المُهمّ.
أهمّ ما كان يميِّز “المصوِّر” منذ صدورها هو اهتمامها بالصورة الصحفيّة، معتمدةً في ذلك على مصدرَيْن أساسيَّيْن؛ أوّلهما ما تنقله عن المجلّات الأجنبيّة مثل: صور الزلازل، والبراكين، والحروب. أمّا الثاني فهو ما تأخذه عن الواقع المحلّي وتنفرد في نشره.
من أبرز الصُّور التي كان لها سبق النشر على صفحاتها صور خطاب الزعيم المغربي “عبد الكريم الخطابي” للشعب الفرنسي، التي تناقلتها عنها وكالاتُ الأنباء، والصحف الفرنسيّة، وكذلك صور أوّل مؤتمر مصري للتعليم دعت إليه نقابةُ المعلّمين في العام 1925.
ابتكرت “المصوِّر” العديدَ من الأبواب مثل: “لطائف وفكاهات” يقدِّمها القرّاء، وموضوعات أدبيّة مثل: “حكمة الغرب” وهي حِكَمٌ، ونصائح، وقصائد شعريّة، وقصص مُترجَمة، وموضوعات عامّة. كما حرصت أيضاً على إرضاء المرأة فخصَّصت باباً اسمه “في عالَم السيّدات”، نَشرتْ فيه صورَ الممثّلات والأزياء، وكلّ ما يتعلّق باحتياجات المرأة.
كيف أصبحت “المصوِّر” مجلّة سياسيّة؟
استمرَّت “المصوِّر” على سياسة عدم الخَوض في الشؤون السياسيّة حتّى شهر نيسان/ أبريل من العام 1928؛ حيث تحوَّلت إلى مجلّة سياسيّة بعد مُوافقة إدارة المطبوعات في وزارة الداخليّة آنذاك، ولكنّها ظلَّت مُلتزِمة بمبدأ الحياد في معالجتها القضايا المُختلفة إلى أن تولّى فكري أباظة رئاسة تحريرها في العام 1934.
أدخل فكري أباظة مجموعة من التعديلات، أهمّها الخوض في القضايا السياسيّة التي تهمّ الأمّة، وابتعدت عن موقفها المُحايد تجاه القصر والاحتلال، وبدأت في مُهاجمة الإنكليز والكساد الاقتصادي الذي سبَّبه الاحتلالُ البريطاني، وتلاعُب الإنكليز بالوزارات التي توالت على حُكم مصر.
أصبحت “المصوِّر” واحدةً من أهمّ المجلّات السياسيّة في المنطقة العربيّة، وانفردت بالعديد من الأحاديث المهمّة مثل: الحديث الذي أجرته مع أمين باشا عثمان، والذي وَصَفَ فيه المندوبَ السامي البريطاني اللّورد “مايلز لامبسون” بـ “الرجل العظيم”، مُشيراً إلى نجاح سياسة الودّ والإخاء بين الحليفَيْن مصر وإنكلترا.
ابتكرت “المصوِّر” عدداً من الأبواب السياسيّة مثل: باب “أحاديث المُجتمع السياسي”، وباب “بين أسبوع وأسبوع”، وباب “ميادين السياسة والحرب”، وغيرها من الأبواب والصفحات التي تهتمّ بمُناقشة الموضوعات السياسيّة والعسكريّة.
تناولَت المجلّة أهمّ الأحداث السياسيّة في تاريخ مصر والعرب، منها: حرب فلسطين 1948، وثورة يوليو 1952، والعدوان الثلاثي على مصر 1956، ومؤتمرات القمّة العربيّة، وحرب يونيو 1967، وحرب أكتوبر 1973، وغيرها.
كَتب فكري أباظة أيضاً العديدَ من المقالات عن الشؤون الاقتصاديّة التي كان يشهدها المُجتمع المصري في تلك الفترة منها مقال تحت عنوان: “البلشفيّة في مصر”، ناشدَ فيه الحكومةَ بإصلاح الأوضاع الاقتصاديّة في البلاد حتّى لا تتفشّى الشيوعيّة. كما نَشَرَ سلسلةً أخرى من مقالاتٍ يُوازِن فيها بين المصريّين والأجانب في مجال الإدارة، والسلوك الاجتماعي، مُنتقِداً ما يجري في المنازل الكبيرة من بذْخٍ، وإسراف، كما امتدحَ الأجانب لاقتصادهم في شؤونهم.
خاضَ فكري أباظة حملةً ضدّ الاحتلال الاقتصادي عالَج فيها مشكلاتٍ اجتماعيّة خطيرة تمثَّلت في استدانة الملّاك المصريّين من البنوك، والشركات الأجنبيّة لمجرّد التظاهُر بالعظمة، والثراء، وقضاء الصيف في أوروبا ثمّ يعجزون عن سداد ديونهم فتضيع ثرواتهم.
نُشِرَت صورُ الجامعة المصريّة لأوّل مرّة على صفحات “المصوِّر“، وصار من تقاليد المجلّة أن تفرد لها صفحاتٍ في أعدادها المتوالية، واستمرّ هذا التقليد خلال الفترة من العام 1932 وحتّى العام 1935 بتخصيص صفحة خاصّة.
“المصوِّر” والعرب
خصَّصت “المصوِّر“ أعداداً تاريخيّة خاصّة بمناسباتٍ عربيّة مُهمّة؛ فعلى سبيل المثال، نَشرت في العدد 13 صوراً عن الدولة السوريّة الجديدة التي سعت فرنسا لإنشائها لفصل بلاد العلويّين عن جسد الدولة السوريّة. كما تناول العدد رقم 87 نبأ إعلان الجمهوريّة اللّبنانيّة في 23 أيّار/ مايو عام 1926، وانتخاب أوّل رئيس لها وهو “شارل دبّاس”، فيما احتوى العدد 89 على صورِ أوّل وزارة لبنانيّة.
حرصتِ “المصوِّر“ على الاهتمام بمُعالَجة القضايا العربيّة التي تظهر على الساحة باعتبارها مجلّة تُخاطِب بالأساس القارئ المصري والعربي، الأمر الذي دفعَ رئيس تحريرها الأسبق “صبري أبو المجد” إلى خَوْضِ تجربة إصدار طبعاتٍ عربيّة من المجلّة، وفي هذا الصدد يقول صبري أبو المجد:
“استحدثتِ المصوّر طبعةً عربيّة خاصّة للتوزيع في البلاد العربيّة، كنتُ أحذف منها أبواباً معيَّنة وموضوعات كالجريمة مثلاً أو بعض الموضوعات عن القضايا والأحداث المحليّة البحتة، وأستبدلُ بها موضوعاتٍ عربيّة الاهتمام والمضمون، ولكنْ فوجئتُ بخطاباتٍ من قرّاء من مختلف أنحاء الوطن العربي ومن أميركا اللّاتينيّة وحتّى من أستراليا تثور ضدّ هذا الوضع، وتُطالِب بعدم حذْف الأبواب أو الموضوعات المحليّة الاهتمام، وأكَّدوا جميعهم على أنّهم يريدون أن يقرؤوا ما يقرأه القارئ في مصر، فالكلّ هنا يهتمّ بكلّ المسائل الصغيرة التي تجري في مصر التي يعتبرونها الأخت الكبرى القائدة، حتّى الأحداث التي نراها نحن محليّة بحتة يراها القارئ العربي أو يريد أن يراها بشكلٍ قومي”.
رؤساء التحرير
طرأت على “المصوِّر“ منذ صدورها العديد من التغييرات نتيجة اختلاف رؤى رؤساء التحرير الذين تعاقبوا عليها؛ ففي فترة تولّي أحمد بهاء الدّين وفكري أباظة رئاسة التحرير، على سبيل المثال، اهتمّت المجلّة بالتحليل السياسي والاقتصادي إلى جانب التركيز على النقد الفنّي، والأدبي، والرياضي.
وخلال فترة تولّي يوسف السباعي تميّزت “المصوِّر” بتدعيم الاتّجاهات الأدبيّة والثقافيّة السائدة في تلك الفترة بجانب الحرص على إعداد صفٍّ ثانٍ من القيادات الصحفيّة من بين المُشتغلين بالصحافة من دار الهلال.
أمّا خلال فترة تولّي صبري أبو المجد، فقد اهتمّت المجلّة بالدراسات التاريخيّة وبنشْرِ الوثائق والمُستندات الخاصّة بتاريخ ما قبل الثورة، وأشهر ما تميّزت به “المصوِّر” في تلك الفترة سلسلة المقالات التي نَشرها صبري أبو المجد بعنوان: “مع السادات في المسيرة الوطنيّة”.
وفي فترة تولّي أمينة السعيد رئاسة التحرير، اهتمَّت بالتركيز على كتابة المقالات السياسيّة إلى جانب إجراء الأحاديث مع عددٍ من نجوم السياسة، هذا فضلاً عن الاهتمام بقضايا المرأة.
وعندما تولّى مكرم محمّد أحمد رئاسة التحرير أصبحت “المصوِّر“ لسان حال كلّ الاتّجاهات والتيّارات السياسيّة والفكريّة سواء كانت مستقلّة أم مُعارِضة، وذلك من خلال باب “الحوار الأسبوعي” الذي بدأته المجلّة في العام 1981.
في ضوء ما سبق، يمُكن القول إنّ الحياد التامّ هو السمة الأساسيّة التي اتّسمت بها “المصوِّر“ خلال سنواتها الأولى إلى أن جاء فكري أباظة وجَعَلَ منها واحدة من أهمّ المجلّات السياسيّة تأثيراً في المنطقة العربيّة.
وبفضل المبادئ التي أرساها الأخوان اللّبنانيّان إميل وشكري زيدان، مؤسِّسا المجلّة وصاحبا دار الهلال، تميَّزت “المصوِّر“ عن غيرها من المجلّات باهتمامها الشديد بالصورة الصحفيّة، الأمر الذي حرص عليه الكُتّاب كافّة الذين تعاقبوا على رئاسة تحريرها على مدار تاريخها، حتّى أصبحت بمثابة ذاكرة العرب الفوتوغرافيّة.
***
*باحث في العلوم السياسيّة من مصر
*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق