قراءة في نصّ “رحلة البحث عن وطن” لمكرم غصوب
هدى الخوري
رحلة البحث عن وطن…
حين كان أبي، بمعوله
يقلب تراب الأرض
ليتنفّس الشهداء
كانت أمّي،
بخيط من نور،
تحوك الثقوب السوداء
في قميص طفولتي…
كان أبي يقول لي:
النبتة المزروعة في الماء
يقتلها العطش إلى الانتماء،
حتّى لو كانت “نبتة الخلود”.
وكانت أمّي تقول لي:
تحبّ العصافير
ازرع شجرة،
ولو في قلبك…
يومها، كان البحر أبعد من الشمس؛
لكنّي، كنت أصنع سفناً من ورق
أرسم عليها الشمس بحّاراً
بعينين وضحكة
ليبحر فوق ظلّي،
يموج به التراب
كما يموج في عينيّ الغرق…
وحين كبرت
واقترب البحر منّي،
سألته عن ظلّه
أجابني: غرق في أعماقي…
وأكمل: لي في الأرض جذور
كأنّها الأنهر
وكأنّ السماء،
إن أرادت، إلى الأصل، أن تعود…تمطر!
حينها، أدركت أنّ الشمس بلا عينين؛
ولكنّي ما زلت أراها مبتسمة.
ثم أكملت السير أبحث عن وطني،
في طريقٍ ذاكرتُها مفقودة،
نبت فيها الزهر،
حين هجرتها الأقدام…
فصارت الحديقةَ
التي التقيت فيها امرأة
قالت لي:
الحبّ رياح.
ونحن أجراس من قصب…
فظننت حضنها وطني،
وقلت لها: تعالي ننتمي للموسيقى.
قبل أن ندرك، سويّاً،
أن الرياح لا تستقرّ
لأنّها تبحث عن جذورها!
فأخذت معول أبي
أقلب التراب في قلبي،
وأسقي شجرة زرعتها في طفولتي
كي تعود إليها العصافير..
مكرم غصوب
***
تلج هذا النصّ بقدمي طفل يتأهّب للقفز بين دوائر تبدو كلوحات فسيفسائية صغيرة، يغلب أحد الألوان على تشكيلها فتدعوك للانتقال الى جارتها وأنت على يقين بانهما منفصلتان بفعل تغيّر السطوة اللونية، فهنا غلبة لألوان السماء وهناك كانت الغلبة لألوان التراب.
قفزة أخرى تنقلك الى مادّية عملية تحاول تجسيد الانتماء، تليها قفزة تذيبك بألوان العاطفة وتفتح فضاءات الروح، هنا تدرك أنّ اللوحات تطوف بك على مدارات تحملك الى ترابطها من خلال ما تتركه ظلال الخيال على الوعي فتتشكّل المعاني لتزيل اللَّبْس عن المسافات غير أنها تنسج دائرية الزمن.
وعلى مسار الزمن الدائري تفقد الدروب ذاكرتها فيكون التطلّع الى الأمام تطلّعًا الى الخلف، فكلما ابتعد الماضي اقترب من الآتي وانبتت الدروب زهر النسيان فتولد ثنائية اللقاء بالحب وفيه حركة الرياح، كأنّما الحركة بحث عن الجذور.
كلما أوغلتَ في النصّ ابتعدت عينك الرائية عن سطح اللوحة لترى شمولها فتنجلي الدائرية الكلّية الحاضنة لدوائر الجزئيات بانسجام وانسياب وترتبط النهايات بالبدايات، وتستعاد الكلمات بقصديّة مراكمة الأثر فتصاغ بالكلمات نفسها معانٍ جديدة تفتح على آفاق الدهشة والأسئلة الوليدة.
***
*ناقدة وشاعرة