بواعث الثّنائيّات في شعر ربى سابا حبيب

Views: 1199

د. جيمي عازار

 1-الباعث النّفسيّ

غربة ربى سابا حبيب بداية المسار، فالمتناقضات الحسيّة النفسيّة تحدد جزءًا مهمًّا من ديوانها، وقد انطلقت من جوهر الانطباعات والأفكار(التشكّل الحسّيّ).  والمسألة عندها ليست إضافة أيّة زيادة، بل تنظيم العلاقات الصّوريّة بين الرّموز، من خلال التحوّلات الجزئيّة أوّلاً، والكاملة ما بعد أفول الحالة (المنفى والحضور). أتذكّر معها قول بولس طوق في ديوان ” طيوب الغروب”:

” غريبٌ بين أهلي والنّاس

غريبٌ عن رؤاي وإحساسي

غريبٌ في المكان والزّمان

سيرسو زورقي، يومًا،

في الأمان.

وألتقي، في الوطن البلوريّ،

كياني” ([1]).

فالغربة قاسم مشترك بين سابا وطوق، لأنّ التّناص ولّد حالاً من التّفاعل على الرّغم من اختلاف المواقف أو تبدّلها ، وهذا خير دليل على انصهار الأدب في بوطقة الشّعراء وإن غابت عنهما الوحدة أو حتى المعرفة الشخصيّة.

” أيّها الدّير تناص ضدّ النّزف

ضدّ السّواد

لأنّ النّص الذي هو أنا

يغيب وأنت الحاضر في الكيان

لذا دونك

أمحو حيث أكتب سواك” ([2]).

أتذكّر في هذا المشهد ” تسبيس” الإغريقيّ وعربته، فهو من ابتكر مسرح المأساة، ونسبوا إليه إدخال الأقنعة في التّمثيل، وهي الشّاعرة المقنّعة بملامح الوجد والحنين، تروم الثّبات في الزّمن من خلال الحجر (الدّير)، والأثر (النّص). وما حضورها الدائم سوى ثورة على الغياب في مرحلة الحال ومسار الحلول.

أمّا صورة المستحيل والممكن فترسم إطارًا اجتماعيًّا ثائرًا يرفض المنفى المزيّف، وهو الاختلاف والتمايز العنصريّ، واللغة المتحوّلة الغريبة، المرتبطة عفويًّا باللغة الأمّ، بالهويّة.

” من نظراتهم الزّائفة

من مطارداتهم وكأنّنا لسنا من عوالمهم

أعود إليك كأمواج كلماتي

سَكرى مزحة

بحورًا إلى الشّواطئ

أوزانًا تترندح بين اللّهفة واللّقاء

بين المستحيل والإمكان

لغاتٍ أليفة تربطنا بأهل بأصحاب

براية البلاد” ([3]) .

أخذتني ربى سابا حبيب معها إلى فكر الأخوين رحباني:

” وحبّة من ترابك

بكنوز الدني

بحبك يا لبنان

يا وطني” .

إنّ الارتباط بالأرض اللّبنانيّة جعل حالة تناصيّة، تتبادل المواقف والمشاعر، بين أبناء هذه الأرض، نظرًا إلى رمزيّتها، وتكوينها الملجأ، والأمان، والتّصوّف، والحوار، والإيمان.

تجسّد الأديان صورة الصّفاء، هو صفاء الفكر قبل المكان، وغالبًا ما يحاور الإنسان خالقه ليرتاح.

يقول القديس متى في إنجيله: ” تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والمثقلين بالأحمال وأنا أريحكم”([4]).

متعبةٌ أنتِ شاعرتنا من نير الغربة، تبحثين عن السّكينة ، وهي الرسوّ في أحضان الوطن/ الأمّ/ الخالق:

” أنت من يجترح لي مراكب العودة

من يوسّع البرّ في وطني

كي أبقى

أنتَ اللّمع الباقية في عتمة النّسيان

تهزج للعودة العودة

توحدني بأرضي

أرضي أبدًا

ومسرحي الرّائع الأخير ” ([5]).

” إنّ إحساس الشّاعر وشغفه جعلاه يقيم صلات بين نفسه العاشقة وهو في حال الهيام، وعالم الواقع الذي ينظر إليه نظرة خاصة” ([6]).

هذا العشق المزدوج للذّات الأرض، والذّات الروح الكونيّ،  عند ربى سابا حبيب هو وعدٌ بالحياة، على عكس مرحلة  النسيان حيث الزّوال.

هو (الخالق) وهي (الأرض)، محوران يمثّلان سلام التّكامل في نفس الشّاعرة، ويمنحان رؤيتها هذا التّوازن بين ما هو معيش وما هو وراء، ما هو آخر.

وفي وصف حال الشّاعرة هنا، رأيت أنّها لم تكتفِ بتصوير واقع العاطفة الواحدة، والعراك الداخليّ المقلق، بل صوّرت العواطف المتضادّة في النّفس الواحدة متذكّرة قول يونغ:

“كل ما هو إنسانيّ يرتبط كما في حال الاسترخاء بمتناقضات داخليّة، لأنّ الظّواهر كلّها من أصل حيويّ” ([7]).

 

2-الباعث الاجتماعيّ

 يتمثّل الواقع الاجتماعيّ عند ربى سابا في دقّات القلب وهي الحضور في واقع الآخر، أو الوعد الإنسانيّ / الألوهيّ/ الشفوفيّ، أما الاستسلام إلى نزوات الحياة العاديّة فهو النسيان أو الغرق في خراب المادة/ الخطيئة/ الأرضيّات.

” والبحر أمامك

أراك في أرض

يبست من كثرة الانتظار

في فمك الذّهبيّ الموعود

في خوابيك المنسيّة

ومن زهوٍ جديد

فوق ذهب حقولك

ونار الثّلوج

على تلالك

تُسمّر الأرض أبدًا

أراك

أرزةً

تتقدّم ضدّ الرّحيل

أرضًا عتيقة جديدة…” ([8]).

الأرزة والأرض علامتان لوعدٍ بالثبات، أمّا كثرة الانتظار فهو يساوي مرحلة مؤقّتة ربّما من الغياب أو النسيان.

لذلك أحسنت شاعرتنا عندما اختارت عناصر الطبيعة لتتعلّق بزمنها : (البحر- الأرض- النار…) متذكّرةً قول كلوديل:

” لا يستطيع الجسد أن يتواجد في محطتين مختلفتين، يجب أن يتواجد هناك بنجاح، وأن يتوقّف عن الحضور في المكان ليكون موجودًا”([9]) . وكأنّها هنا تمدّ أغصانها للعلى حتّى تعمّق جذورها في التراث، وتوقِن ضرورة تواصل العلاقة بين  العناصر لكي تبسّط نظريًّا موقفها ، لأنّه لا غنى للعناصر عن ارتباطها المطلق بعضها بالبعض الآخر، وهذا هو الأصل (إرادة الله).

 من الواقع الاجتماعيّ، اختارت الشّاعرة حال الرّحيل والقرب، وهما  عمليّتان متعاكستان من التّوالد الذّهنيّ أوّلاً ثمّ الجسديّ. وبحسب الشّاعرة تجسّد الأمّ هذه الصّورة، فهي الحبّ الأوّل والأخير، رحيل اللاشيء واقتراب كلّ شيء (الكليّة):

” أمّي كم تأتين في اقتراب البحر

وفي ارتحال السّنابل

لا قرية، لا منزلاً، لا سماء توقف

العتمة عن ساحات القلب

لا لهفة، لا حنوة توقظ النسيان

والغفلة عن  الفؤاد

أمّي وأبعد من الحنان

أمّي وأشرس من العشق عيناك

…” ([10]).

انماز هذا المشهد بجماليّة الضّديّة في فعل العشق: (أمّي أشرس من العشق عيناك)، فالشّراسة تحوّلت إلى الوداعة في قلب الأمّ الطّاهر، وها هي منمنمات العشق تسطو على العينين لتبرقا من وهج الحبّ الأموميّ (الأنا الكاتبة حوّلت المشهد إلى مطاف مختلف) متذكّرةً رمز يونغ الذي يساهم في وحدة الثّنائيّات:

” الرمز هو الوسيط حيث تلتقي المتناقضات بمقابل الحركة الجديدة، كجدول ينشر الخصوبة بعد فترة جفاف طويلة “([11]).

 

3-الباعث الدينيّ

” طهّرنا المدينة مدينتنا

لأنّك معي

ولأنني لك

تذوب ثلوج الغربة عن قرميد أضلعي…” ([12]).

مرحلة التطهّر سرٌّ من أسرار الله، وهذه الحالة هي الرسوّ في المكان الأحبّ. وتعبر الشاعرة من الخطيئة (الزّانيات – اللّصوص) من خلال العشق الإلهيّ إلى الطُهر، إنّه الاحتراق والاشتعال الروحيّ.

تحققت النار الروحيّة عند الشّاعرة بوساطة الجسد، ومن خلاله أدركت الموضوعات والأشياء الخارجيّة وصولاً إلى الدّاخل المتموضع (أضلعي).

” إنّ الشّاعرة ربى سابا تنتمي إلى التصوّف التأمّليّ الجماليّ وليس إلى الالتزام الدينيّ الطقوسيّ. وهي في بداية الرّحلة، صوفيًّا، تنزع نحو نزع الثنائيّة عن ذاتها، واستعادة الوحدة”([13]).

هي أسطورة من الشّرق، عابقةٌ بعطر البخور، وسابحةٌ في التّراث الروحيّ السّاميّ، وما وجودها بالفكر قبل المكان في أروقة دير البلمند، سوى رسالة خالدة على أهميّة الاستقرار الروحيّ في حياة الإنسان .

هو طريق إلى الوحدة قاربته الشّاعرة لكنّ القلق كان رفيقها الأوّل، وطبع حياتها بتأشيرات البحث المستمر.

****

1-بولس طوق، طيوب الغروب، بيروت: 2014، ط1،  ص 73.

1-ربى سابا حبيب، عبق الأمكنة أو تلك الكنوز، بيروت: درغام، 2009، ط1، ص 46، 47.

1-ربى سابا حبيب، م. س، ص 24.

2-الكتاب االمقدّس (متى 11/ 25-30).

1-ربى سابا حبيب، م.س، ص 131.

2-جيمي عازار، النار وأشكالها في شعر منصور الرحباني من خلال أنا الغريب الآخر وأسافر وحدي ملكًا،بيروت: دار كتابنا، 2018، ط1، ص 46.

[7]-Jung, L’ âme et la vie, traduit de l’ allemand par Robert cohen, Le livre de poche, , 1963,1er publication,  p 265.

(Tout ce qui esthumainest relative en tantquereposantsur des contrastesintérieurs, car tous les phénomènessont de nature énergétiques).

1-ربى سابا حبيب، م. س، ص 49.

[9]-Paul Claudel, Art poétique, Paris: Gallimard, 1984, p 49.

(Un corps ne peutêtre à la fois en deux points divers, ilfautdoncqu’ ils’ytrouvesuccessivement, qu’ ilcesse d’ êtrelà pour êtreici”.

1-ربى سابا حبيب، م. س، ص 71.

[11]-Jung, L’âme et la vie, p270.

(Le symboleest la voiemoyenneoù s’ unissent les opposés en vue d’un mouvement nouveau, ruisseau qui après une longue sécheresse ,répand la fécondité).

2-ربى سابا حبيب، م. س، ص  21.

3-ربيعة أبي فاضل، ربى سابا وفروسيّة العودة، بيروت: درغام، 2013،  ط1، ص 169.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *