سجلوا عندكم

حياد لبنان.. هل يُساعده على الخروج من محنته؟

Views: 162

د. حسن زين الدّين*

يمرّ لبنان بفترة قد تكون هي الأصعب منذ إعلان دولة لبنان الكبير قبل قرنٍ من الزمان. وقد نكون في مرحلة مخاض عسير تهيّىء لظهورِ كيانٍ جديد أو صيغةٍ جديدة. فما نعيشه اليوم يكاد يُحاكي ما عشناه ليلة سقوط نظام المتصرفيّة نتيجة التحوّلات التي أَمْلَتْها المتغيّراتُ الجيوسياسيّة التي كانت تحصل؛ فالنفوذ العثمانيّ بدأ بالتراجُع، بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالَميّة الأولى، أمام الاندفاعة الغربيّة، والفرنسيّة منها تحديداً؛ فتفاعلت إذّ ذاك النُّخبُ اللّبنانيّة، وعلى رأسها البطريرك المارونيّ إلياس الحويّك مع تلك التطوّرات التاريخيّة؛ وعملت على استثمارها بقوّة، ونجحت، في نهاية المطاف، بإعلان دولة لبنان الكبير.

تطوّرات الإقليم، وأحداثه الكبرى كانت تنعكس بسرعة على الوطن الصغير، الذي كان يتأثَّر ويتفاعل معها بقوّة. وكان له من المناعة المتأتّية من صيغته الفريدة ما يَحميه، ويدفعه، استطراداً، ليضْطلعَ بدَورٍ حضاريّ متقدّم في مُحيطه والعالَم. ولطالما أمَّن له هذا الدورُ الاستقرارَ والرخاء. غير أنّ النِّظامَ السياسيّ المعطوف على تلك الصيغة، شكَّلَ للبلد نقطةَ ضعفٍ كبرى، شرّعت أبوابه على أزماتِ المنطقة الكبرى، وتلقّى بالتالي ارتداداتها التي عصفت بأمنِه واستقراره، وكثيراً ما كانت تدفعه نحو مزالقَ حروبٍ مدمّرة.

تعيش منطقتنا منذ أكثر من عقدَيْن من الزمن غلياناً وحروباً وانهيارات. وكانت تعمِّقها تدخُّلات القوى الإقليميّة والدوليّة وتزيدها استعاراً وتعقيداً. ولم يكُن للبنان مفرٌّ من تلقّي سلبيّاتها؛ لذا نراه اليوم غارقاً في أزماتٍ تكاد تكون وجوديّة. ولولا بعض الأمل المتأتّي من الانفراج الاستراتيجي الذي سبَّبهُ الاتّفاق السعودي – الإيراني برعايةٍ صينيّة وعدم اعتراض ظاهرٍ من الولايات المتّحدة الأميركيّة، لأَكمل لبنان مَسارَه الانحداريّ الجهنّميّ نحو المجهول المُخيف. من هنا يعود الرّهان على النُّخب اللّبنانيّة ومطالبتها بالاستثمار على الانفراج، علّنا نَمنح شعبَنا فرصةَ التقاط أنفاسه والسَّير من جديد على طريق بناء وطن يستحقّ تضحيات أبنائه على مدى عقود.

لا يخفى ذلك على المكوّنات اللّبنانيّة التي بدأت تنخرطُ في نقاشاتٍ جديّة ومعمَّقة، علّها تَجِدُ مخارج وحلولاً لهذا الاختناق السياسي، وعنوانه العجز عن انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، على الرّغم من خطورة دلالات ذلك على انهيار الدولة ومؤسّساتها، ووقوفها عاجزة عن إيجاد الحلول لمشكلاتِ الشعب الغارِق في الفقر واليأس، والباحث عن البدائل، ولو من خلال الهجرةِ على ظهرِ سُفُنِ الموت.

ولكلِّ مكوّنٍ سياسيّ أو طائفيّ رأيه في مسبّبات ما وصلنا إليه، وله وجهة نظره في الحلول السياسيّة المطروحة والإصلاح المنشود. ما يُطمْئِن أنّه، على الرّغم من الاختلاف والتباعُد في توصيف مسبّبات الأزمة، وبالتالي كيفيّة إيجاد الحلول لها، يبقى مُجمل الشعب اللّبناني متّفقاً على التمسُّك بلبنان الواحد أرضاً وشعباً ومؤسّسات، وعلى سلوك طريق الحوار كممرٍّ آمنٍ للخروج بالوطن إلى برّ الأمان.

فالبطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي يرى في الحياد الإيجابيّ سبيلاً لإخراج لبنان من أزماته، وبالتالي الحفاظ عليه كوطنٍ آمنٍ مُستقرٍّ مُزدهر. وتُواكِبُ بكركي ذلك، برعايتها وتنظيمها لحواراتٍ معمّقة في الموضوع، وإطلاق ديناميّة تبحث عن مُقارباتٍ مُشترَكة بين مختلف المكوّنات الطائفيّة، لتوضيح معاني الحياد، والأهداف المتوخّاة منه، واستخلاص الصيغة المناسبة التي يُمكن أن تلتقي عليها شرائح واسعة من المُجتمع اللّبنانيّ. وفي هذا السياق أُقيمت ورشةُ عملٍ في جامعة القدّيس يوسف ضمّت نُخبةً من المعنيّين ناقشت مفهوم الحياد وإمكانيّة تحقيقه في هذه الظروف الحرجة واعتماده كبوّابة للحلّ المُرتجى.

صحيحٌ أنّ دولاً عدّة اعتمدتِ الحيادَ طريقاً للاستقرار والازدهار، وأخرى وَجدت ذلك في الفيدراليّة من ضمن الدولة المُتماسِكة. ولطالما شكّلت سويسرا أنموذجاً للحياد الذي اعترفت به دولُ العالَم، بعدما اعتمدته مكوّناتها بحُرّيةٍ مطلقة، وسارت به من خلال دولةٍ عصريّة قويّة، ما أمّن لها الهدوء والاستقرار والثروة. فهل يُمكننا استنساخ تلك التجربة كوصفةٍ ناجعة؟ وهل يتشابه واقعُنا مع الواقع السويسري لنعتمدها؟

البحث عن الجواب يدفعنا للدخول في عُمق مسبّبات الأزمة القائمة؛ وفي الطليعة بينها، تلكم الهواجس والمخاوف التي كانت، ولا تزال، تعتري المكوّنات الطائفيّة اللّبنانيّة، بعضها من بعض، ما يدفعها للتطلُّع نحو الخارج، إمّا طلباً للحماية او تأميناً لمُكتسبات. وهكذا كانت تُفتح الأبواب أمامَ دخول الأجنبي إلى بلادنا، وهو المُستعدّ دومًا ليُغذّي تلك المخاوف، ويبني عليها قواعد بقائه تأميناً لمصالحه. (Ambien/)

ثمّ تتوالى الأسئلة من مثل: هل تتوافق المكوّنات الطائفيّة اللّبنانيّة على مفهوم الحياد والقبول بتطبيقه؟ وهل ستعترف دولُ العالَم به؟ وهل في لبنان دولة قويّة يُمكنها السَّير بهذا الخيار من دون تعريض البنيان الوطني للتصدُّع؟

هذه الشروط ليست متوافرة الآن، يُضاف إلى ذلك هشاشة التوازُنات السياسيّة السلبيّة التي تقوم عليها الدولة، والتي هي غير قادرة بمؤسّساتها ودستورها وقوانينها، على الاستجابة لمتطلّبات اعتماد الحياد بمعناه المُتعارَف عليه. هذا من دون أن نُسقِطَ من حسابنا حدّة أطماع إسرائيل في أرضنا ومياهنا وثرواتنا، وكذلك الصراعات الإقليميّة والاصطفافات الدوليّة الحادّة. مثل ذلك أعاد عقارب ساعة الحياد إلى الوراء، حتّى في دولٍ عريقة بحيادها كفنلندا والسويد. فالمُعطيات إذاً، المحليّة منها والدوليّة، لا تُساعِد، ليس على إعلانِ حيادِ لبنان فقط، بل قد يُدخلنا ذلك في أتون مشكلاتٍ وأزماتٍ نحن في غنىً عنها.

هل يعني ذلك إبقاء لبنان أسيرَ مشكلاته والدوران العبثيّ فيها، وانتظار الحلول التي قد لا تأتي؟ بالطبع لا. فالبديل المُتاح، والذي يُمكن التوافُق حوله، هو النأي بالنَّفس عن أزمات المنطقة، وتحييد لبنان عن الصراعات بين الدول الشقيقة والصديقة. هذه المُقارَبة للحياد الإيجابي قد تؤتي أكلها، في الوصول إلى الهدف النبيل، وهو فتح الباب أمام إعادة الاستقرار إلى لبنان وإعادة بنائه وحماية حدوده وتثبيت قواعد إقامة الدولة العصريّة، التي يتساوى فيها جميع المواطنين، والتي تَحفظ خصوصيّة مكوّناته وتحميها، فلا تشعر أيُّ طائفةٍ بالتهميش أو بالخطر من أيّ نَوعٍ كان، ولاسيّما ما يتعلّق بمُعتقداتها وحريّة مُمارساتِها الدينيّة.

لقد سبقَ لاتّفاق الطائف الذي وُقّع في العام 1989، والذي أنهى الحرب في لبنان بتوافُقٍ إقليمي دولي، أن وَضَعَ العناوين الرئيسة لتثبيت الاستقرار فيه، عبر بناء الدولة القويّة والمُحايِدة في علاقتها بمكوّنات شعبها، والشفّافة لجهة إدارة مُختلف شؤون المجتمع، والقادرة على تحييد لبنان عن صراعات المنطقة، والصادقة في التزام مصالح الوطن العليا، باستخدام مرتكزات قوّتها، الاقتصاديّة والعسكريّة.

يُمكننا أن نبدأ الآن بالعودة إلى بنود هذا الاتّفاق، ولو متأخّرين، والسَّير على طريق الحلّ المنشود بانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة وتشكيل حكومة العهد الأولى، والتي يجب أن تضع نصب عَينَيْها برنامجاً يُعطي جرعةَ أملٍ للّبنانيّين بعودتهم مواطنين أحراراً في وطنٍ سيّدٍ حرٍّ مُستقلٍّ، وذلك عبر:

  • إقرار سياسات جديدة قائمة على المُساواة والعدالة في الحقوق والواجبات بين المُواطنين، وحتّى بين المجموعات لناحية احترام خصوصيّاتها العقائديّة ومُمارساتها الدينيّة. والوقوف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع يعني حيادها (الدولة) المُطلَق في ما يمسّ الموضوعات الآنفة الذكر.
  • رعاية الحوار الوطنيّ بين مختلف شرائح المُجتمع، وتشجيع التعاون بينها، ورفض كلّ المشروعات التقسيميّة والفدراليّة، كي لا نعود إلى تجربة المجرّب، وتحمُّل التبعات الكارثيّة لمثل تلكم المشروعات، وهنا لا حياد ولا تحييد للدولة في هذا المقام.
  • عصْرَنَة المؤسّسات الرسميّة وتحديثها والتزام الشفافيّة والمُحاسَبة لمُحارَبة كلّ أشكال الفساد، والتأكيد على الحَوْكَمة الرشيدة، وعلى حُسن استعمال موارد الدولة في خدمة جميع المواطنين، كما هو الحال في الدول المتقدّمة.
  • تعميق ثقة المواطن بدولته، وتعزيز ثقة المكوّنات الطائفيّة بعضها ببعض.
  • استقلاليّة القضاء عن السلطة السياسيّة، وإعادة هَيْكَلَة السلطة القضائيّة بشكلٍ يُتيح لها لَعِبَ دَورِ الحماية لمصالح الوطن والمواطن، بعيداً من المحسوبيّات والمصالح والأنانيّات.

لا نرى أنّ الحيادَ الخارجيّ ضروريٌّ لتحقيق هذه المسلّمات المحوريّة لبناء دولة قويّة عادلة ومجتمع متوازِن. فلنركِّز على بناء المواطن المتمتِّع بالحسّ الوطنيّ السليم، الذي يقدِّر مصالح بلده، ويقرِّر وقتما شاء، وتبعاً لمصالح بلده متى يقف على الحياد وبين مَن ومَن. فالأولويّة يجب ان تُعطى لإعادة بناء دولة القانون والمؤسّسات وبناء المُواطن على قواعد العدالة والمُساواة؛ وهذا ما يوفّره اتّفاق الطائف لو تسنّى له حُسن التطبيق. فلنبادر إلى ذلك كي لا نبقى في ما نحن عليه من تفكّثكٍ وانهيار. ولنوفِّر على أنفسنا مزيداً من التعقيد والتأزّم بالبحث عن المخارج والحلول عبر أطروحات، مثل الفيدراليّة أو الحياد وما شابه، ما يرفع منسوب الخوف المُتبادَل بين اللّبنانيّين ويزيد من شكوكهم وهواجسهم.

تكلَّم “الطائف” على قانون انتخابٍ خارج القّيد الطائفيّ، وحتّى يُطمئِن الطوائف قال باستحداث مجلسٍ للشيوخ. كما تكلَّمَ على اعتماد الكفاءة في التعيينات، لكنّ ما طُبّق، ويا للأسف، كان قانون انتخابٍ طائفي بامتياز، واعتماد المحسوبيّة بدل الكفاءة في الوظائف. كما أَفرد فقرة عن التربية والتعليم، بالحديث عن إصلاح التعليم الرسميّ والمهنيّ وإصلاح أوضاع الجامعة اللّبنانيّة و”حماية” التعليم الخاصّ وتعزيز رقابة الدولة على المدارس الخاصّة.

بقيت هذه الإصلاحات حبراً على ورق، ولو تسنّى لها أن تُبصر النور، لما كنّا نعيش الانهيار الحاصل، ولا كنّا بحاجة إلى سلوك مخارج قد تأخذنا إلى الأزمات بدل الحلول؛ فالطبقة السياسيّة لم تكتف بعدم تطبيق مندرجات اتّفاق الطائف، الذي أضحى دستوراً في ما بعد، بل كانت في كثير من الأحيان – مع الأسف – تُطبّق عكسه.

أثبت النقاش الهادىء بين النُّخب السياسيّة والفكريّة قدرته على تظهير القواسم المُشترَكة بين المكوّنات اللّبنانيّة وتعميق التفاهمات على الثوابت الوطنيّة، واستبعاد الأطروحات الشعبويّة. وقد تجلّى ذلك في ورشة العمل التي ذكرناها بداية؛ ما يشجِّع هو رغبة الأطراف المشاركة في استكمال النقاش، وبلْورة مواقف موحِّدة تُرشِد صنّاع القرار، وتخلق حيويّة وطنيّة تقبل الآخر، وتفرض نفسها بديلاً من التعصّب والتقوقُع.

لا يزال لبنان عالقاً حتّى اليوم في شراك الأزمات، ولا يزال أبناؤه يدفعون الثمن من خلال هجرة لا تتوقّف. والأُمم تُمعن في قهرنا بتشجيع بقاء ملايين النازحين عبر تغطية نفقات إقامتهم ودمْجِ مئات الآلاف من أبنائهم في المدارس الرسميّة، ما يُهدّد مستقبل سورية ولبنان معاً. وما زلنا نغمض أعيننا ونتلمّس سُبل الخروج، ويا للأسف، من الخارج.

إذا صَفَتِ النوايا، وإذا تواضَعَ اللّبنانيّون وقرّروا الالتقاء في منتصف الطريق، يُصبح الحلّ المنشود في متناول أيديهم.

لدينا ما يكفي من الأمل والرجاء.

***

*أستاذ جامعي من لبنان

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *