دين الفناء

Views: 282

محمد إقبال حرب

كان يُشاورُ نفسَه عن أسلم الطُرق لاقتناص بضعة أرغفة تُسكتُ قرقرةَ معداتٍ خاويات تركَها في حيّزٍ اتخَذه سكنًا. العملُ مُتوقّفٌ منذ بضعة أشهُر، والجوعُ لم يتوقّف عن نحتِ شارتِه على صفحةِ ملامحِه أخاديدَ عوَزٍ ومذلّةٍ. لم يستنجِد بالقِرش الأبيض في هذه الأيامِ السوداء لأنه لم يتشرَّف بالتعرُّف عليه ذاتَ يُسرٍ لم يكُن. أرشدَته زوجُه إلى مراكز توزيع الإعانات، لكنه لم يستوعِب فكرةَ مُقايضَةِ كرامتِه بتبرُّعات يقدّمُها أصحابُ النفوذ لتلميعِ صُورهم في الإعلام على حساب فضحِ كرامة الجياع. فكلُّ ميسورٍ يُصرّ على أن يتصوّر مع الضحيّة التي يقدّم لها “صدقَته” لينشُرها على مواقعِ التواصل الاجتماعي متبجحًا بكرمِه فاضحًا جائعًا كان مستورًا. لم يُفكّر في سرقَةِ رغيفٍ من الفُرن المُجاور، أو سؤالِ قريبٍ عما يسُدُّ الرمقَ.

خرج مُتستّرًا بظُلمَة الليل، مهمومًا يبحثُ في زوايا الطرُقات عن رغيفٍ سقَط سهوًا من جُعبة أحدِهم، فخاب بحثُه. جال حول الدكاكين علّه يحظَى ببقايا طعامٍ أعدمَه التاجرُ، فلم يحظَ بطريدٍ من فصيلة المأكولات. بعد يأسٍ مُستمرّ تجاوز كرامَته المُنهكة واقتربَ من حاوياتِ النِفايات المُتلاصِقة. ضاقت به الدنيا، شعرَ بسقوطِ إنسانيّته في عُصارةِ الزِبالة التي تنِزُّ من نِفايات البشرِ. ارتعد لمُواء قِطّ يُنادي زُمرتَه للتلذُّذ بنفيس الحاويات. خافَ أن ينضمَّ إلى عالم القِطط فيموءَ لأُسرته مُناديًا. هبَّ راكضًا ليتجاوزَ الحدَّ الفاصلَ بين إنسانيّته وعالمِ الحيوان. أسرعَ وأسرعَ حتى تجاوز منزلَه الذي خجِل أن يدخُلَه خالي الوِفاض. تجاوز البِنيان، والطُرقات المرصوفة. بشّ له البحرُ فارتاحت سرائرُه. اقترب محاولًا التملُّصَ من بقايا خوفٍ، وقيودِ حنين.

لا تخَف من مِحرابِ العدم، حيث يفنى الألمُ، آمِن بالفناء تقدّسُك أمواجي.

ارتعد الرجلُ، ألجَمَه البحرُ، وتساءل بينه وبين نفسه “أكُفرٌ بعدَ إيمانٍ؟”

اقتربَت منه حوريّةٌ وركَعت أمامَه مُرتّلةً: دينُ الفناءِ هو دينُ المنبوذين، دينُ المُستعبدين المُستضعفين. دينٌ يحمِلُك إلى ربٍّ يُحبُّ خلقَه كما هُم. ربٌّ شوّهه البشرُ فاتّخذ من البحرِ قيثارةً يعزِف على أوتارِ أمواجِها لحنَ الخُلود.

قال لها حانيًا: آمنتُ بربّكُم الحكيم.

سارَت به الحوريّةُ إلى شاطئٍ منسيّ، فتيمّم برمالِ الشاطئ، وتوضّأ بالماءِ الأجاج قبل صلاةِ الفناءِ على بساطِ الموج.

تلاطمت جسدَه الأمواجُ مُعلنةً قُبولَ قُدسيّةِ عدميّته التي توهّجت لتوّها.

لم يكُن موجودًا كإنسانٍ في قاموسِ مَن حولِه، إذ لم يسمَع ضحكَته أو نحيَبه أحدٌ.

لم يحظَ بمُداعبةِ ظِلّه الذي لم يرسُمه نورٌ، أو بريقُ قمر ينعكِسُ على وَجنتيه مذ لفظَه رحمُ أُمّه رقمًا جديدًا في تَعداد التكاثُر البشري.

خِتمُ طائفتِه الممهورِ على جبينِه وضعَه في خانة الشُبهة، فلا هو خانعٌ لجلاوزة طائفتِه ولا صابئٌ لطائفة أخرى.

لكن مُعجزةَ رسول الجوع أقنعَه بدين الفناء فآمن به مُتحرّرًا من قيود وجوده.

لم يلفُظ البحرُ جُثّةَ المؤمن الجديد ولم يكتَرث أحدٌ لفُقدانه.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *