شوقي أبي شقرا في “حبر ترجمات كالخمر يعتق”

Views: 642

د. محمود شريح

ولد الشاعر شوقي ابي شقرا لمجيد فارس ابو شقرا ومنيره مخايل ابو شقرا في منزل في محلة نهر بيروت عام 1935، وترعرع في الاشرفية ، ثم انتقل مع اهله إلى رشميا من جبل لبنان زمن الحرب الثانية ، اذ كان والده دركيا وحارسا للمنطقة ، وهناك تفتحت عين الصبي على حقول فتكونت لمخيلته مسارح، ودرس السريانية والعربية، قبل ان ينتقل إلى مدرسة ” الحكمة” في الاشرفية ويتغذى من المنهاج الرسمي فاكتملت عدته الثقافية مع فوزه بالبكالوريا الأولى قبل ان يطوف بها في عوالم جديدة لا عهد للعربية بما من قبل.

امتهن التدريس (1957-1963) ثم كان محررا في صحيفة “الزمان” ( 1961-1963) وكان بدءا من 1956 اسس حلقة الثريا إلى جانب ادمون رزق وجورج غانم وميشال نعمه. ثم انضم إلى مجلة ” شعر ” في 1957 ومنذ 1964 اطلق الصفحة الثقافية في جريدة “النهار ”  على مدى ثلاثة عهود، ثم ملحق النهار الاسبوعي إلى جانب انسي الحاج.

هو الذي فسح للحداثة حين نقح مسوداتها لثلاثة وثلاثين عاما في مكتبه في مبنى النهار ، من الصباح إلى المساء، قابعا متنسكا، يدقق وينقح ويرأف ويرفق، وكانت رؤيته ان تكون القصيدة مشعة وقائمة على التماسك وعلى كينونتها الاكيدة ، واعتبر الشكل واجب الوجود قبل المضمون، وان الشكل الذي يقدمه الشاعر هو الذي يجعل القصيدة جوهرة نادرة تقاوم فعل الزمن.

 

ومنذ ديوانه الاول” اكياس الفقراء” 1959 اكتسبت قصيدته غبطة صوفية وحدسية، حيث يفيض النور قبل ان تفيض العتمة. قصيدته قرية لبنانية مضافة اليها ثقافته الشخصية. في عمارته بحث عن لغة وصورة ومضمون، فالعالم الذي رآه مجبولا في شكل اخر اضاف اليه الغنى الذي امتلكه والطريقة التي جملها بها كأنه غير موجود او كانه غير حقيقي، وهو الذي ترجم إلى العربية قصائد رامبو وريفردي وابولينير.

لم يات ابي شقرا منخارج التراث، الا انه انشق من التراث بعد ان استوعبه، نما عليه ونهل منه ، واغتذى به. وما الوقوع في قصيدته على تقنيات الحداثة التي راجت في الشعر العربي، من خليل مطران إلى خليل حاوي، الا برهان على ان صاحتهما هضم تلك التقنيات.

هو الشاعر المستقل بمدرسته والناقد الملتهم برؤيته والمترجم الحاذق في تعريبه، الطالع من “حكمة” الاشرفية معلما إلى بيت شباب فصحافيا في بيروت وموجها فكريا يعيد كتابة القصيدة بشكل ومضمون مشبعين بطقس الجبل ومذاق فاكهته، وتبقى عبارته نضرة ومزدانة بقوس قزح لا تخفت الوانه، يصل اعالي صنين بساحل لارناكه.

حول شوقي ابي شقرا القصيدة إلى جوهرة نادرة تقاوم عاديات الزمان. لغته قائمة على الصقل وعلى النفاذ الو الاعماق، إلى سر التكوين اللفظي، عبارته هي شاغله الخاص وعودة اللغة بكرا واعادة صوغ كانه صوغ للمرة الاولى في كل القصيدة اي هيئة.

شوقي ابي شقرا ، الشاعر المعلم، المستقل بمدرسته، الناقد الململم برؤيته، المترجم الحاذق في تعريبه، اصدر مؤخرا “حبر ترجمات كالخمر يعتق” مختارات شعر من رامبو ولتريامون وريفردي. ( دار نلسن مؤسسة انور سلمان الثقافية ، 2023، في مئة صفحة وصفحة وعملاق انيق تزينه صور هؤلاء الشعراء الثلاثة). 

هي قصائد لهؤلاء الشعراء كان اختارها شوقي ابي شقرا وترجمها عن الفرنسية ونشرها في مجلة “شعر” على مدى العام 1959 يومكان طري العود، واشفعها بنقد وتحليل وسيرة، فرأى في رامبو تكنيك الحلم، مما اوصله إلى الخلود، وكان ساحرا كبيرا اضاء قنديلا ضخما على باب الادب الحديث بكامله، وعند لوتريامون زلزلة القمم الفكرية والعلمبة والدينية والاخلاقية والاجتماعية والادبية إلى حد يصور مآسي النفس المعاصرة وتمزقاتها، فيما ريفردي يريح القارئ، اذ ان شعره رخاء اصيل يظهر في التقاطيع الداخلية للقصيدة كما يظهر في محورها الجوهري او في ركنها القوي الذي يسندها جمعاء. 

في مقدمته إلى مختاراته من قصائد رامبو ولوتريامون وريفردي، مع نصوص له شارحة، يقر الاستاذ ابي شقرا بان ترجمته هذه في تلك المرحلة من الصبا والحماسة ونشوة العنفوان كانت باهظة الكيان ، حيث اللغة عنده صاحبة ذلك الكيان، اي صاحبة الادب وان له هكذا ادبا من صنعه، ومن بصمته وتوقيعه ووعيه لكل مما جرى وكان ما اطيبه وما احيل ما تم وما صار إلى مرتبة الرقي وخاتم الموهبة. 

بهذه اللغة الانيقة يقدم ابي شقرا مختاراته، وهو اليوم طال عمره، تخطى الثامنة والثمانين ، فلا يأس عنده، اذ يرى نفسه في الرحابة وفي الوجود ، فلا جمرة كما هي العادة ، بل لان الخمرة هي الحب، فلا يرى خاتمته في المدى، في اي غاية، هو الدي اشعل غابة اللغة عندما تفتحت عيناه على حقول رشميا حيث نشا ودرس السريانية والعربية، فجاءت قصيدته قرية لبنانية مضافة اليها ثقافته الشخصية. 

شوقي ابي شقرا من جديد اناقة التعريب ورقي العبارة في بحثها على لغة وصورة ومضمون، فالغنى الذي امتلكه جعلها بما كأنه غير موجود، او كأنه غير حقيقي. 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *