نصف قرن على “شِعر ” العدد 44 الاستعادي

Views: 335

د. قصي الحسين

أستاذ في الجامعة اللبنانية

لماذا نستعيد مجلة شعر، بعد توقف قطارها، بل مقطوراتها “ال44″، في محطة1969، قبل نصف قرن من اليوم؟.سؤال يختلف الباحثون والدارسون، ومعهم المحللون والخبراء، عن معنى مجلة شعر في حاضر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حين وجدت نفسها أمام مرحلة جديدة من الصعب أن تقتحمها بالعدة نفسها التي صنعت منها إسما لمسمى، بدأ يشعر نفسه بنفسه بالإختناق. صار من الصعب أن يعلو صوتها فوق أصوات الهياج. صار من الصعب أن يتابع الإختراق، وهو يرى كيف يمكن لها أن تسدد، حين تسد عليها الجهات.

 كانت الدشم تعلو الشوارع في بيروت عصر ذاك. كان الصراخ. كان العصف. كان القصف. كان الرمل يعلو أكداسا أكداسا. وكان من الصعب على مجلة بقامة  “مجلة شعر”، أن تتابع تفتحها، مثل نبتة برية، تحت وطأة أكياس الرمل التي تهندس الشوارع. وتحت الأقدام التي بدأت بأعادة رسم المدينة. بإعادة رسم بيروت. بإعادة رسم الشوارع. كان من الصعب على مجلة شعر أن تواكب الإنقلاب على الإنقلاب. لذا توقف القطار بها فجأة، في خريف الإستقلال، من العام1969. نزل ناسها من العربات. أدوا التحية لها. أقفلوا بوابة العبور خلفهم، كي لا يصيبها الغثاء المزبد، بأي أذى. مكثت تنتظر، حتى يذهب الزبد جفاء، ويأتي ما ينفع الناس.

هذة هي حقيقة توقف مجلة شعر، قبل نصف قرن من الآن. طال بها الوقت، وهي تنتظر، حيث توقف القطار. ونبتت الطحالب والأعشاب، في جميع الفجوات التي فتقتها. في جميع المحاولات التي حاولتها. في جميع الخطوط التي كانت ترسمها. تشق بها دروب الرحلات، إلى ما بعد مرافئ الحداثة. بل إلى “الحداثة البعدية”، التي كانت تؤملها، وهي تشقق الأقلام مثل المحاريث. وهي تعبد الصفحات. وهي ترصف الآفاق، بالمحطات الواعدة. تماما كما في رحلة الطيور الموسمية. كما في رحلة الطيور المهاجرة. كما في رحلة الطيور العابرة للمحيطات وللقارات: كان ذلك شغف مجلة شعر، في الستينيات من القرن الماضي. وصدمتها في التحولات. كان إذا،  لا بد أن تتوقف. أن تستريح. أن ترى في أمر التحولات المفاجئ. في أمر التحولات الصادم لها.

أن تكون هناك، مجلة شعر أخرى، إذا صح التعبير، بعد هذا الزمن الذي إستجد وإستحكم بعد نصف قرن، ليس أمرا ساذجا. ولا يمكن أن تكون مثل هذة المحاولة، عبثية أو بسيطة، أو ساذجة. بل ربما تنتظر بناء القدرات الثقافية. وإستطلاعها. بل تحكيمها في شؤون مصير مكلوم. في مصير غير معلوم. فكيف تكون مجلة شعر في الخمسين سنة القادمة، بعدما قطعت مجلة شعر نفسها، مع الخمسين سنة الماضية؟ ذلكم هو السؤال. سؤال المجلة الراقية.

  الأستاذ سليمان بختي في العدد الإستعادي ل: “مجلة شعر. ٤٤ السنة الحادية عشرة- خريف1969. تحية إلى مجلة شعر. العدد الأخير رقم٤٤، خريف١٩٦٩  عدد تذكاري. نصف قرن مضى. دار نلسن. رأس بيروت- صيف ٢٠٢٣”، إنما يحاول إستعادة الزمن المفقود، للمجلة الخارقة لجميع الجهات. فهل يستطيع القائف/ الناشر هنا، أن يصيب في إستشراف المرحلة. فليس قديما جدا من ذلك، ما صاغه الشاعر عمر أبو ريشة، في معنى محاولة الأستاذ سليمان بختي، حين أنشد يقول:

“شرف الوثبة أن ترضي العلى/ غلب الواثب أم لم يغلب.”

 وهو الذي يختم اللمعة التي أتى بها، في مقدمة العدد التذكاري/ الإستعادي اللامع، بقوله:

” ليس أمام الأصيل نقاط وفواصل وقيود. وليس أمام المبدع الحقيقي مراحل زمنية تقع عليه كالأسر. صحيح أن مجلة “شعر” بكلام إنسي الحاج: “باقية إلى الأبد حدا فاصلا في تاريخ الشعر”. ولكن الصحيح أيضا، أن على كل جيل أن يصنع مجلته ومغامرته وثورته وأحلامه. إنها إذن دعوة إلى عدد جديد ووعد جديد وبداية جديدة”.

في تقديمه لهذا العدد الاستعادي، التذكاري، تحت عنوان: “الخاتم يلمع”، يجدد الشاعر الصانع/ الصائغ، شوقي أبي شقرا، هذا المعنى. يمهره بخاتمه. خاتم أبي شقرا، لا يقل شأوا عن خاتم سليمان، خصوصا حين يبدأ القول:

” كأنما لا إشارة معلقة، ولا ما يوجب الإقفال والرجوع إلى البيت. إلى السكون وإلى الصمت.  وإلى أن يكون هذا الإياب مثمرا وجيد المصير وحلو الإقامة معه في خيمة الرضى، وعدم الإقفال. وفي بسط المغامرة من جديد. وهو هذا المصير الحلو والجيد ونحن بإنتظاره. وفي القبض على السكون. تلك الجوهرة. تلك العذوبة الكامنة في قصر الوجود. وفي كوخ الإبداع، ونحن على ضوء الشمعة حين لا كهرباء.”… ثم نراه يبدع الخاتمة:

” وهكذا كنا منذ البدء منذ التكاوين البكر والأولى. ومنذ صرنا الخمر قبل الخمر. وقبل أي مدار سوى نجمة البلاغة. وسور ضوء الوجود الذي لا ينام. وإذا حالة النوم هي سطرت على العيون وعلى القامة الملهمة، فنحن الحارس الذي نظل القيوم وخاتمه يلمع في الظلام ولا نهاية ولا ينطفئ.”.

والأدب والشعر على الأخص؟

إنه يعكس الحياة. يقول يوسف الخال، في مفتتح هذا العدد الجميل، لعصر جميل، بعد خراب جميل، منذ نصف قرن. ودائما تحت عنوان: الفكر والحرية….

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *