خليل عاصي: شاعر الأبواب والمفاتيح

Views: 727

مكرم غصوب

 

قراءة نقديّة في شعر خليل عاصي

 

إنْ كانَ لِلُغزِ الوجودِ مِفتاحٌ فالشِّعرُ البابُ

وإنْ كانَ الوجودُ باباً فالشِّعرُ المِفتاحُ…

“خليل عاصي: شاعرُ الأبوابِ والمفاتيح.”

أجمَلُ الشِّعرِ كأنَّهُ بابٌ كأبوابِ بيوتِنا العَتيقة، في خَشَبِهِ رائِحةُ الوِجدانِ العَميقة. مِطرَقَتُهُ يَدٌ مِن حَديدٍ، تُمسِكُها يدُ الحياةِ وتَطرُقُ. تَطرُقُ خَيالاً، تَطرُقُ سؤَالاً، تَطرُقُ شَكّاً، تَطرُقُ يَقيناً، تَطرُقُ حَنيناً، تَطرُقُ جَمالاً، حتّى يتوّحَدَ الطَّرقُ في عَقلِ البابِ وفي قَلبِ الطَّارِق، في قَلبِ البابِ وفي عَقلِ الطّارق، وما أدراكَ ما البابُ وما أدراكَ ما الطّارِق.

كَثيرونَ هُمُ الذينَ بَنَوْا ويَبنونَ بيوتَهُم الفِكريّةَ في المُفتَرَقاتِ. بيوتٌ بأبوابٍ عِدَّة، كُلُّ بابٍ يَفتَحُ على طَريقٍ وعلى اتّجاه، ويَكذِبونَ ويُصدِّقونَ أنّ الطُرُقاتِ كلَّها تؤدّي إلى روما.     
وقَليلونَ هُمُ الذينَ بَنَوْا ويَبنونَ بيوتَهُم الفِكريّةَ ببابٍ واحدٍ، يَفتَحُ على طَريقِ العودةِ إلى المَعنى، طَريقِ الارتقاءِ إلى مَعنى المَعنى.       
بابٌ عالٍ كأنَّهُم لا يَخشوْنَ دُخولَ المارِد، كأنَّهُم يَهزَؤونَ من أبوابِ الموتِ في مقابِرِ الأحياء. بابٌ بأبوابٍ عِدّة، كأنَّهُ جسدٌ بأرواحٍ مُتعدِّدة أو روحٌ بأجسادٍ مُتَجدِّدة.

وخليلُ النَجّارُ العاصيّ، من هؤلاء القِلّةِ، صنَعَ بابَ بيتِهِ الفِكرّي من خَشَبِ الوِجدان المُعتّقِ، خشبِ الأرزِ القُطرانيّ الذي صَنعَ مِنه أجدادُنا سِكَكهم ليَفلحوا الأرضَ ونوارِجَهُم لِيفَصِلوا القَمحَ عن القشِّ والزُؤانِ.

الشاعر خليل عاصي

 

ورُغمَ مناعةِ هذا الخَشبِ الصَلبِ المُقاوِمِ، نَخَرَهُ السوسُ الخبيثُ المتكاثِرُ وشوَّهتْهُ العَواملُ الخارجيّةُ. أمّا خليلُ الأصيلُ، بتصالحِه مع ذاتِهِ، تصالُحَ اعتقادِ العقلِ مع اعتقادِ القَلبِ،فَفضَّلَ أنّ يُداويَ نَخرَ السوسِ في الوِجدانِ وأن يثقِّفَ المُعوَّجَ والمُنتَفِخَ في خَشَبِهِ على أن يَصنَعَ بابَه من خَشَبٍ غَريبٍ. فتراهُ في قصيدةِ “لا شيءَ حولي ثابتٌ إلّا القَلق” متألِّماً على “وَطَنٍ تمزّقُهُ المواجِعُ والمَدامِعُ والفِرَق”، وطنٍ “كُلّما رُتِّقَت بِهِ مِزَقٌ تكشَّفَتْ مِزَق”يَلوكُهُ وجَعُ المسافَةِ بين قَلبهِ والتُراب، وتَجِدُهُ مُناجياً في حِواريةِ السؤالِ والحجرِ”أنا مَن نَجا مِن دَمارِ الحروبِ وهذي النُدوبِ تواقيعُ كلِّ الجراحِ التي هشَّمَت صدرَ امّي…” ويُنهي بِلِسانِ الحَجَرِ، ناشداً الحبَّ والارتقاءَ في الإنسان “أخبَروني…أبي قد تَحَجَّرَ بالحِقدِ حتّى انفجرْ ومُذّاكَ أبحثُ عن قَبرِهِ، أخبَروني…بأنْ قبرُهُ…في قلوبِ البَشَر”.

وبِعَكسِ النَبضِ المُتحجِّرِ في قلوب البَشرِ، فإنَّ بابَ الخَيالِ في شِعرِ خَليل، طَرقُهُ خَلقٌ مُتَجدِدٌ، ليَفتَحَ على أخيلةٍ وأسئلةٍ أبعدَ مِنَ الابتذالِ والتَقليدِ السائِدَيْنِ. فالتَّجدِيدُ لدى خليل ليسَ تَجديداً شكليّاً إنما هوَ تَجديدٌ في الفِكرِ والشعورِ وربما في النَّظرَةِ إلى الحياةِ، تَجديدٌ يؤدِّي إلى انحلالِ التَّعصُّبِ الدِينيّ، ويَقودُ تِلقائياً إلى إعادةِ صَوغِ العَلاقات الإنسانيّةِ. فخَليلُ يُسَخِّرُ المادةَ في شِعرِهِ لغاياتٍ نفسيّةٍ جَميلةٍ تَجعلُ وجودَنا الإنسانيَّ صَريحاً نيّراً ويُساعدُهُ على ذلك امتلاكُه نِظرَةً فَلسفيّةً ارتقائِيّةً يَكتَسِبُ مَعَها شِعرُهُ عُمقاً واتّساعاً.       
وعلى الرُغمِ مِن وُجودِ الأَلَمِ والحُزنِ والقَلقِ في شِعرِ خَليل، فهو لا يستَحضِرُ هَذِهِ العَناصِرَ كما يَفعلُ الكَثيرونَ لتَوليدِ الإبداعِ وتَجديدِهِ، فإبداعُ خَليل كما يقولُ أنطون سَعاده في الإبداعِ هو “مَقدِرَةٌ ذاتِيَّةٌ روحيَّةٌ فِكريَّةٌ تَتَغلَّبُ بِقوَّتِها وبفاعَليتِها على كلِّ صُعوبةٍ وتَنتَصِرُ بالرُغمِ مِنَ الصُعوباتِ لا بِسبَبِ الصُعوبات”.
الإبداعُ في شِعرِهِ هو ابنُ الخَيالِ والسُؤالِ.

وبَابُ السؤالِ لدى خليل مَسكونٌ بالقَلقِ الوجوديِّ، حينَ تَطرُقُهُ يَتسرَّبُ إلى نبضِكَ فيُحيلُكَ سؤالاً. ولَكِنَّ قَلقَهُ ليسَ ذَلِكَ القَلقَ الفَرديَّ الأنانيَّ، بَلْ هوَ خَوفٌ على الإنسانِ والأرضِ، على العَلاقاتِ القِيَميَّةِ التي تُعطي لوجودِنا الإنسانيِّ مَعناه. 
وليسَ هذا القَلقُ إلّا نتاجاً لِعُمقٍ مَعرِفيٍّ تَفاعُليٍّ، وبِعَكسِ هؤلاءِ الذينَ يُكدِّسونَ المَعلوماتِ في مَخازِنِ التَثقيفِ، ليَبيعوها في سوقِ المَعرِفَةِ، فَفي مَصنعِ خَليل الفِكريِّ تَخضَعُ الصورَةُ والفِكرَةُ والمَعلومَةُ للتأمُّلِ والتساؤلِ والتحليلِ والنَقدِ ليَستَنبِطَ مِنها رائياً مسؤولاً أو سؤالاً فَلسفيّاً، يُلبِسُهُ شَفافيَّةَ البَساطةِ العَميقةِ مُتماهياً مع فيورباخ حينَ يقولُ “الأسرارُ الأكثَرُ عُمقاً تَسكُنُ الأشياءَ الطبيعيّةَ الأكثرَ بَساطة”.  
والمِثالُ على ذَلِكَ، حين يُحوِّلُ أكيدَ شِكسبير إلى سؤال “هلْ الدُنى مَسرحٌ نَحنُ الشخوصُ بِهِ؟” ويُجيبُهُ بِسؤالٍ ” أمْ إنّنا المَسرحُ المَمهورُ بالضَّجرِ؟” سؤالٌ مَفتوحٌ على ألفِ سؤالٍ وخَيالٍ واحتمالٍ.    
يَتَمَظهَرُ التَّفاعُلُ المَعرِفيُّ لدى خليل في العَلاقةِ الدائريَّةِ بينَ الإدراكِ بالعَقلِ والإدراكِ بالقَلبِ وهذا ما أُسَمّيهِ الحَدْثَ الواعيَ أو العاطِفَةَ المُدرِكَةَ المُدرَكَةَ ويُعبِّرُ عنها في شِعرِهِ حين يقول “حَدَّثني حَدْسي المُتعالي عَمّا أوحيَ حينَ تَقمَّصَ دَورَ نبيّ”.

هَذِهِ العَلاقَةُ الدائريَّةُ الانسيابيَّةُ تُشكِّلُ لُغةَ خليل الشِعريَّةَ، التي حينَ تَطرُقُ بابَها لا تَسمَعُ طَرقاً إنما مألَفَةً بينَ موسيقى كلاسيكيَّة تَحمِل في عُمقِها المَعنى وموسيقى طبيعيّة نَيئة تَحمِلُ في عُمقِها مَعنى المَعنى.   
لُغَةٌ تَكونُ حيناً التَّفكيرَ وحيناً تكون التَّعبيرَ وفي كُلِّ الأحيانِ تُشكِّلُ العَلاقةَ بَينَ الوجودِ والواجدِ وكأنّني بِهِ، وِجداناً واتجاهاً وخَيالاً وسؤالاً يرفعُ التَّكبيرَ ومِن بَعدِهِ يُنشِدُ:

حينَ تزورُ بيتي/ لن تطرُقَ بابا/ فأنا يا عَدمي/ أسكُنُ الأبوابَ.

***

*ألقيت في احتفالية الملتقى الثقافي اللبناني بتوقيع 3 دواوين شعرية للشاعر خليل عاصي.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *