أميرة غنيم وروايتها “نازلة دار الأكابر”

Views: 954

د. رفيف رضا صيداوي*

ما أن تنتهي من قراءة عمل الروائيّة والأكاديميّة التونسيّة أميرة غنيم: “نازلة دار الأكابر” (2020) حتّى تتبادر إلى ذهنكَ على الفور مقولة ميخائيل باختين، في كتابه المرجعيّ المُهمّ “الملحمة والرواية”، المُتعلِّقة بهدف الرواية كجنسٍ أدبيّ ومبتغاها، والمتمثِّل هنا في “الإعلام بالوقائع واستبصارها والتأثير في المستقبل الحقيقيّ، أي مستقبل المؤلِّف والقرّاء”؛ إذ لم تطلّ أميرة غنيم في روايتها التي تدور أحداثها في تونس الثلاثينيّات من القرن الماضي، على تونس فقط، بل شمل خطابها الروائيّ حاضرَ الدول العربيّة كلّها ومُستقبلها، ولاسيّما مُجتمعاتها وإنسانها.

بهذه الرواية التي لا تخلو من تأثُّرِها المحفوظيّ (نسبةً إلى عميد السرد الروائيّ العربيّ نجيب محفوظ)، تناولت أميرة غنيم تاريخَ عائلتَيْن من أعيان تونس (الرصّاع والنيفر) جمعتهما المُصاهرة عبر زواج “للاّ زبيدة الرصّاع” و”محسن النيفر”، جاعلةً من “النّازلة” ومعناها في معاجم اللّغة العربيّة “المُصيبةُ الشديدة” (وجمعها: نازِلات، ونوازِلُ) المؤثِّرَ والمُحرِّكَ المركزيّ لنصّها ذي البنية الفنّيّة المركَّبة؛ وهي بنية تحوَّل معها تاريخ هاتَيْن العائلتَيْن إلى شريطٍ زمنيّ شديد التعقيد، تداخَل فيه الذاتيّ (قصص الشخصيّات/ الأفراد وسياقات تنشئتهم الأوّليّة، الأسريّة تحديداً) مع الاجتماعيّ (المدرسة، وغيرها من المؤسّسات المُجتمعيّة ودوائر المُجتمع الكبير كالأصدقاء والمعارف والرفاق) في السياق السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ لتونس الثلاثينيّات من القرن الماضي.

ولعلّ تحرير السرد من رتابة الصوت الواحد، و”ديمقراطيّته” التي تجسّدت في إيلاء مهمّته – أي مهمّة السرد – لعشر شخصيّات روائيّة من العائلتَيْن، بين ذكور وإناث، و”أسياد” و”خَدَم”، تُركت لهم الحريّة المُطلقة في الكلام، لعلّ هذا السرد، عدا كونه قد كَسَرَ رتابة الحكي وحال دون الاستئثار به وفرْض رؤية أحاديّة الجانب أو المَصدر، فإنّه أَسْهَمَ، على المستوى التركيبيّ الفنّيّ، في ضخّ الرواية بالجِدّة، على الرّغم من كلاسيكيّتها، وأثرى قراءةَ البشر، على النمط المحفوظي، الذي، وبحسب رأي د. فيصل درّاج عن نجيب محفوظ، أنّه “يَقرأ البشر ويعطفهم على أقدارٍ ترضى عنهم، أحياناً، وتستبدّ بهم حين تشاء” (الشرّ والوجود: فلسفة نجيب محفوظ الروائيّة، 2022).

واللّافت خلوّ الرواية من الأحكام المُطلقة، أو من مَيلٍ إلى تتبُّع نموّ الشخصيّة على النمط الديستوفسكي وسبْر أغوار سيكولوجيّة الإنسان المعقّدة، في الوقت الذي تُركت فيه المساحة الروائيّة لقصص الشخصيّات/ الرواة العشرة، التي يروونها عن أنفسهم في سياق تتبُّع سرّ “النازلة” ومُلابساتها، والتي تعكس وجهات نظر مُختلفة ورؤى مُتنوِّعة للعالَم، فتتكشَّف من خلالها مدى تعقيدات الشخصيّة الإنسانيّة والعوامل المختلفة، الذاتيّة والاجتماعيّة، التي تتحكّم بها وبمساراتها وتحوّلاتها؛ فتُترك للقارئ حريّة تحليل أو تأويل لماذا تنحو الخالة لويزة، مثلاً، (وهي خادمةُ بيت الرصّاع التي اصطحبتها معها زبيدة عند زواجها إلى بيت زوجها، والتي جعلتها أميرة غنيم الراوية الأولى) تُخلِص طوال حياتها لزبيدة، حتّى أنّها اعتبرتها أختها قبل أن تكون سيّدتها، وهي في الوقت عَينه تَعلم وتُدرِك أنّ “الخادمة التي تنتظر الدّعة من رخام دار سيّدها كالبقرة التي تترقّب اللّذة من السكّين الشحيذ” (ص32)؟ وما مردّ الإخلاص الذي أبدته خدّوج، خادمة عائلة النيفر، المولودة هي وأُختَاها، وقبلهما أمّهما في دار عائلة النيفر، مع اعترافها بأنّ دار النيفر ما أنقصوا من احتفالاتهم شيئاً بمناسبة ختان ابنهم مُحسن وقت موت أمّها، و”لم ينتبه أحد إلى شكاتها طوال شهرَيْن؟” (راجع ص185)؛ وما هو مَنشأ كلّ الحقد والغيرة بين الشقيقَيْن امحمّد ومُحسن النيفر الكامن تحت عنوان الأخوّة؟، وكيف لكلّ هذه الضغينة التي يحملها امحمّد أن تجعله حنوناً على ابن شقيقه مُحسن، فلا يناديه إلّا بـ “محمّد الحبيب”؟ …إلخ.

صحيح أنّ بطلَيْ الرواية أو شخصيّتَيْها الأساسيّتَيْن، وهُما الطاهر الحدّاد وزبيدة، لم يُمنحا فسحة للكلام، ولم يكونا من ضمن الرواة العشرة، على الرّغم من أنّهما بؤرة السرد، إلّا أنّهما شكَّلا مَجازَ النصّ الروائي الباحث عن النهوض وبناء الإنسان والمُجتمع في زمن “السيولة” واللّامعنى. فاستحضارُ شخصيّة المُصلح والمثقّف التونسيّ “الطاهر الحدّاد” (1899 – 1935)، الذي اشتهر بنضاله السياسي والنقابي والحقوقي، كما اشتهر بدفاعه عن المرأة، ولاسيّما في كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” (1930)، الذي عايَنَ فيه أوضاع المرأة في تونس مطلع القرن العشرين، غير المُنسجمة مع روح الشريعة الإسلاميّة التي تنادي بالحريّة والمُساواة، لم يكُن إلّا استحضاراً لزمنٍ يبدو وكأنّه يُصادي الزّمن الحالي، من أوجه عدّة، سياسيّة (الاستعمار الأجنبي)، واجتماعيّة (الطبقيّة الحادّة وتمايزاتها على مستوياتٍ عدّة تعليميّة وعائليّة ومهنيّة وغيرها)، وفكريّة (الفكر الدّيني المُتزمِّت) …إلخ.

في تقديم الرواية تقول هند ابنة مصطفى النيفر (المولودة في العام 1963) حفيدة مُحسن النيفر وزبيدة (أو للّا زبيدة) الرصّاع، إنّها وُلدت ككلّ الأعيان في تونس مُصابة بتشوُّهٍ موروث، إذ “لا لوم على العائلات البلْديّة في مدينة تونس إذا تكبَّر الأعيان من أبنائها وتغطرسوا وتبختروا واختالوا. فليست خيلاؤهم رذيلةً يقترفونها عامدين، ولا معصيةً يرتكبونها تُخسر موازينهم يوم الدّين. إنّ التكبُّر سجيَّةٌ فيهم وطبعٌ مركوز. بل هو كالشفة المشقوقة في الوجه، أو الأصابع المُلتصقة في الكفّ: تشوُّهٌ وراثيّ يولَد المرء به، ولا ذنب له فيه”. وما اختيار شخصيّة الحدّاد المتحدّر من عائلة متواضعة وتلقّى تعليمه في المدرسة القرآنيّة (الكتّاب)، ثمّ في جامع الزيتونة، ليكون، من خلال قصّة العشق المتخيَّل للّا زبيدة ابنة “الأكابر”، محور الرواية، ما هو إلّا حجّة فنيّة أتاحت لأميرة غنيم أن تعرّي هذا المُجتمع التونسي بطبقيّته واحتكامه للأجنبي وللحداثة المزعومة، بقدر احتكامه للموروثات الدّينيّة وغير الدّينيّة المتحجّرة. فالفروقات الطبقيّة والاجتماعيّة جعلت علي الرصّاع، والد زبيدة، يرفض طلب زواج الحدّاد من ابنته، على الرّغم من إعجابه به كمثقّف وكمُصلح ومُناضل، وعلى الرّغم من المظاهر “الحداثيّة” التي تمتّع هو بها، سواء في ما أبداه من انفتاحٍ في بيته ومع أولاده، وفي أسلوب تعامله مع زوجته، وثقته بها وببناته، وفي الهامش الواسع من الحريّة الذي أتاحه لهنّ، وفي نوعيّة المدارس التي ألحقهنّ بها (المدرسة الفرنسيّة التي اختلطت زبيدة وأخواتها فيها مع بنات اليهود والفرنسيّين والطليان والميسورين عموماً)، حتّى بدا رجلاً فريداً “قياساً إلى معايير ذلك العصر” (ص35).

من خلال قصّة العشق هذه، واستحضار شخصيّة الطاهر الحدّاد الحقيقيّة، نجحت أميرة غنيم في التشبيك بين المجال الخاصّ (الأسرة)، والمجال العامّ (المُجتمع التونسي)، وهي التي كانت قد مهَّدت لهذا التشبيك بلسان هند حفيدة زبيدة (في تقديم الرواية) حين شرحت قائلة: “تاريخٌ عريقٌ من العنجهيّة والزهو والتباهي والتعالي تعلَّمتْ عبره أسرتُنا الحزينة كيف تُداري عن العيون جروحَها، لترسم على الوجه الذي كسته الندوبُ ابتسامةَ عُجبٍ وتيه، وتعتمر على الرأسِ المُجلَّل بالعار والصَّغار قبّعةَ المفاخر والمآثر، وترتدي من فوق اليدَيْن الملطّختَيْن بالرذائل والآثام قفّازاتِ المجد والشرف والمروءة”.

فمن خلال تعدُّد الرواة ومواقع السرد، بحجّة “النازلة”، التي وقعت بسبب خطابٍ أرسله الطّاهر الحدّاد سرّاً لزبيدة بعد زواجها، ووَصَلَها بعد وفاته، وكان سبباً لفضيحة هزَّت العائلتَيْن، لَمَسْنا، نحن القرّاء في سياق التطوُّر السردي، بعضاً من التشوُّهات الفكريّة والأخلاقيّة والنفسيّة والقيَميّة للعائلتَيْن الكبيرتَيْن المتصاهرتَيْن، أي عائلتَيْ الرصّاع والنيفر، وذلك بالتوازي والتشابُك والتداخُل مع التشوّهات الرديفة في المُجتمع ككلّ، والتي دعمتْها أميرة غنيم بوقائع وأحداثٍ وشخصيّاتٍ حقيقيّة ملموسة تُصادي الوقائع المتخيّلة، من ذلك مثلاًحفل التكريم الذي أُقيم للطاهر الحدّاد بمناسبة صدور كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” من قِبَلِ أصدقائه ومُناصريه في 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1930، ومن بينهم الصديق المُخلص أحمد الدرعي، والشاعر أبي القاسم الشابي، والشيخ محمّد السعيدي وغيرهم، والحملة التي شنّها عليه حسين الجزيري ومحمّد بن حسين وجلال الدّين النقاش وحمود بورقيبة وصالح السويسي.. فضلاً عن مشايخ الزيتونة الذين كاتبوا الوزير خليل بوحاجب مُطالبين بحجْز الكِتاب بحجّة مُخالفته الشريعة… وهي كلّها أحداث وقعَت وأبطالها شخصيّات حقيقيّة تذكرها كُتب التاريخ ويحفظها الأرشيف التونسي.

بين زمنيّةٍ روائيّةٍ تجلَّت في لحظةٍ زمنيّة حدثيّة واقعيّة محدَّدة عائدة إلى ثلاثينيّات القرن الماضي، فضلاً عن زمنيّة القراءة، التي تطابقت مع زمن ثورة الرّابع عشر من كانون الثاني/ يناير2010 (حيث هناك أزمة اقتصاديّة خانقة، وانسدادٌ للأُفق السياسي، وتنامٍ للخطر الإرهابي – راجع ص431)، من خلال شخصيّة هند المولودة في العام 1963، أقامَ نصُّ أميرة غنيم روابطَ بين الماضي المُعاش من قِبَلِ أناس الأمس وأناس اليوم. لكأنّنا في سلّم القيَم ذاته والأزمنة عَينها. أوَلسنا أمام نصٍّ روائيٍّ أعطى معنىً لتجربة تاريخيّة مُعيَّنة ممتدّة لنحو قرنٍ من الزَّمن ومفتوحة على أُفقٍ دلاليّةٍ متجدّدة؟ أوَ لم يدمجنا هذا النصّ، نحن القرّاء العرب، في الهويّة والمصير العربيَّيْن الجمعيَّيْن اللّذَيْن يجري سردهما وتأويلهما باستمرار؟

صحيح أنّ رواية “نازلة دار الأكابر” كشفت التشوُّهات في المُجتمع التونسي، لكنّ الصحيح أيضاً أنّها كشفت وعرّت بعض أسرار إخفاق المشروع التنويري النهضوي العربي وخفاياه فنّيّاً. لا بل إنّها ألقت بنا في لجّة السؤال حول مصير “ثورة الخبز” أو “ثورة الكرامة” التونسيّتَيْن، أو مصير شعارات الثورة في مصر “عدالة” و”كرامة” و”حريّة” وما تلاهما من ثورات واحتجاجات في ليبيا واليمن والجزائر والسودان وسوريا ولبنان… وكأنّنا بـ “نازلة دار الأكابر” أمام نازلة أوطان عربيّة بأسرها.

***

*مؤسّسة الفكر العربيّ

*نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *