متحف سرسق البيروتيّ بين حُطامٍ وقيام

Views: 359

منى سكريّة*

نخلتان باسقتان انتصبتا بشموخٍ في حديقةِ متحف سرسق، مُتقابلتَيْن عند اكتمال الدوائر النصفيّة لدرجات السلّم المؤدّي إلى مدخل القصر/ المتحف. نخلتان سهرتا وتسهران كشاهدتَيْن برفقة صفوف أشجار “الجاكندرا” دائمة اللّون الأخضر على مرّ الفصول، على أحداثٍ مرّت، بحلوها ومرّها، أصابت جدران القصر/ المتحف، فأصابته بالحطام، ثمّ بالترميم، وكان أبرزها الحطام النّاجم عن انفجار المرفأ يوم الرّابع من آب/ أغسطس 2020، والترميم الذي انتهى بالافتتاح يوم 26 أيّار/ مايو من العام الجاري.

عند مدخل القصر تسمّرت منحوتةُ يوسف الحويّك “الباكيتان”، ولها قصّة تعود إلى العام 1930 عندما وُضعت المنحوتة التي تمثّل امرأتَيْن تبكيان الشهداء، في ساحة الشهداء في العاصمة بيروت، إلى أن تمَّ استبدالها بنصب شهداء 6 أيّار/ مايو 1962 ونُقلت المنحوتة إلى باحةِ متحف سرسق، أي في العام الذي تلا تحوُّل القصر إلى متحفٍ للفنّ المُعاصر والحديث، وكان بذلك أوّل متحف لهذا الفنّ المُعاصر والحديث في لبنان والمنطقة العربيّة، ووفقاً لوصيّة نقولا سرسق، قبل أن يتوفّاه الله العام 1952، إبقاء الدخول مجّانيّاً، ما استدعى نَوعاً من “المناورة” من لجنة الإشراف على المتحف بأن وضعت ما يشبه الصندوق الزجاجي في مدخل المتحف لإيداع التبرّعات دَعماً لاستمراريّته. مع الإشارة إلى أنّ افتتاحَ متحف الفنّ المُعاصِر والحديث في فرنسا جرى في العام 1947، مع ما يحمله ذلك من إشارة لتفاعل الثقافة والفنون مع العالم الخارجي.

في ستّينيّات القرن الماضي كانت بيروت تعيش أوْج نهضة ثقافيّة وفنيّة في الحركة المسرحيّة، ومَعارض الفنون التشكيليّة، وقد تنافَست فيها أسماءٌ بارزة، وحضورٌ لتيّاراتٍ فنيّة عالَميّة، ومدارس في الموسيقى، إلى حركة تأليف وطباعة الكُتب بشتّى الموضوعات، وضجيج أقلام تَستنشق حريّةً إعلاميّة سائدة، وحوارات ومُنقاشات على مستوى الأوجه الأدبيّة والتناقضات الفكريّة التي كانت تموج بها تلك الفترة. في هذا الجوّ الذي عَكَسَ صورةَ العالَم الخارجي، انفتحت أبوابُ بيروت أمام تشاركيّة في نهضتها، بين نُخبها من المُقيمين، وأولئك الذين آووا إليها، أو لما شكّلته في تلك الحقبة، وأكثر، من جسرٍ تواصليّ بين شرق وغرب، وفَيْضٍ من ترجماتٍ لهذا التواصُل الثقافي والفنّي. وغنيٌّ عن القول إنّ نقولا سرسق كان واحداً من عاشقي تخليد التراث الفنّي بأشكاله، وتدلّ على ذلك مقتنيات قصره، المتحف لاحقاً.

لم يكُن هذا الرجل يتوقّع، عندما اختار بناء قصره قبالة مرفأ بيروت، أن يشهدَ القصر/ المتحف أزماتٍ أربع اعتَدَتْ على جماله العمراني العثماني/ الإيطالي المُختلط، فأُقفلت الأبواب إلى حين انتهاء الترميم في كلّ محطّة منها، وتجاوزت سنوات الحرب الأهليّة (1975 – 1990)، ولكنّ انفجار مرفأ بيروت في الرّابع من آب/ أغسطس 2020 كان الأعنف، فقد هزَّ أركانَ جدران المتحف، وأغلقه، فَتَنَادَتْ مؤسّساتٌ محليّة ودوليّة لإنقاذه، وغَمَرت التبرُّعاتُ مشروعَ الترميم، وأُعيد افتتاح المتحف يوم 26 أيّار/ مايو 2023. وتأكيداً على الشفافيّة، تصدَّرت بهو القصر/ المتحف لائحةٌ بأسماء الجهات التي قدَّمت التمويلَ اللّازم، الأمر الذي حدا بلجنةِ الإشراف على الترميم لإصدارِ بيانٍ يتعلّق بكيفيّة الإشراف على الترميم والصرف (متوافر على موقع متحف سرسق الإلكتروني).

وكان لبعض التبرّعات السخيّة، وخصوصاً من إيطاليا وفرنسا، أن أَتاحت ترميمَ النوافذ الزجاجيّة الملوَّنة والطّابق الأوّل من المتحف، بما في ذلك الصالون العربي ومشغولاته الخشبيّة الدمشقيّة الإبداع، والخزائن الدائريّة الشكل بواجهاتها على شكلِ قنطرة عربيّة (كان يُطلق على هذا الشكل من الخزائن في الحيطان تسمية كُتْبيّة). فقد أَسهَم مركز بومبيدو في ترميم لوحاتٍ ثلاث فنيّة، ومنها البورتريه الشهير لباني القصر نقولا سرسق بريشة الرسّام الهولندي الشهير كيس فان دونغن، وأبقوا على بعض “إصابات طفيفة” في هذه اللّوحات للتذكير بجريمة انفجار المرفأ.

في الصالون العربي تزدان القطعُ الخشبيّة العريقة بأنواعٍ من الحِكَم المكتوبة والواضحة بألوانها العتيقة، ومنها: “هذه آثارنا تدلّ علينا”، أو “مَن ساءت أخلاقه طاب فراقه”، و”أتَّقِ شرَّ مَن أحسنت إليه”… إلخ.

نقولا إبراهيم سرسق، التّاجر التركيّ الثريّ الذي أتى من بلاده في العام 1912، ولعبَ دَوراً وسيطاً بين أهل البلاد والحكّام العثمانيّين، أقام في حيٍّ تحُوطه شجيرات الصبّار، فأَسَّسَ بذائقته الفنيّة الرّفيعة هذا الصرح المعماريّ الأنيق، فصار واحداً من قصورٍ عدّة تَسَمَّى الحيّ باسمها، أي حيّ السراسقة في محلّة الأشرفيّة في بيروت.

يتألّف المتحف من طبقات، أرضيّة وأوّل وثانٍ، وطبقات أربع ما تحت أرضيّة، وفيها المكتبة، وقاعات للعروض. ويحتوي على خمسمائة قطعة فنيّة وأثريّة، وحوالي ألفٍ وخمسمائة لوحة تشكيليّة، ومخطوطتَيْن نادرتَيْن تضمّهما مكتبة المتحف، واحدة نسخة من القرآن الكريم تحمل تسمية قرآن هامبورغ، وهي أوّل نسخة مطبوعة باللّغة العربيّة مع مقدّمة لإبراهام هانكلمان، وتعود إلى العام 1694، ونسخة من الإنجيل تعود إلى العام 1645 ومكتوبة بأربع لغات. وفي العام 2007 تمّ افتتاح المكتبة للباحثين والجميع، وبخاصّة أنّ الكُتب الموجودة تزخر بتاريخ الفنون العالَميّة، ومثلها على الصعيد المحلّي، كما وتضمّ أرشيفاً ومقتطفات/ مقالات من الصحافة في حقباتٍ مَضت، لكنّ المكتبة ما تزال تفتقد الرَّقْمَنة لاحتياجها إلى تمويلٍ أوسع وأشمل.

تتضمَّن المكتبةُ ملصقاتٍ لجميع المعارض الفنيّة المُمتدَّة من العام 1961 وحتّى العام 1975 ومنها ملصق لمعارض الفنّ الياباني والإسلامي ورودان وتولوز لوتريك. إضافة إلى غنى المكتبة بتقديم جورج داوود القرم مكتبته هِبَةً للمتحف على سبيل المثال، وأيضاً مجموعته من اللّوحات السورياليّة كإعارة دائمة (معروضة في الطّابق الأوّل)، ومثلها في أرشيف آمال طرابلسي التي قدَّمته هِبَةً أيضاً، وأرشيف “غاليري شاهين”، وأيضاً أرشيف نيغول بزجيان، وهو مُخرج وثائقي تابَعَ قضيّة الشعب الأرمني، وأيضاً مجموعة مجلّة الـ “ريفي دي ليبان“، وأرشيف زينة توتونجي، كريمة سامية توتونجي ابنة الروائي الرّاحل توفيق يوسف عوّاد الذي توفّي بقذيفة خلال الحرب في العام 1989.

منصّة تفاعليّة للفنون

لم يَقتصر دَور المتحف على اقتناء الأعمال الفنيّة والتراثيّة، بل كان لدوره، كما أوصى سرسق نفسه، أن يكون منصّةً تفاعليّة بين مدارس الفنون وتطوُّرات عوالمها، وتيّاراتها، وأن يكون مواكباً لتنمية الفنون التشكيليّة والنحت والتصوير الفوتوغرافي.

تقول مديرة المتحف كارينا الحلو إنّ مواكبة المتحف لتطوّرات الحياة الفنيّة والثقافيّة تستضيفها قاعات المتحف حاليّاً، وكان افتتاحها يوم 26 أيّار/ مايو الماضي مُتزامناً مع إعادة افتتاح المتحف بعد الترميم، وهي على الشكل الآتي: المعرض الأوّل بعنوان “موجات الزمن” ويستمرّ لغاية 11 شباط/ فبراير من العام المُقبل 2024 ويستطلع هذا المعرض ثلاثة جداول زمنيّة في سردٍ تاريخي للمتحف، ولمعارِضِه، وللأحداث الاجتماعيّة السياسيّة المحليّة المُوازية للنِتاج الفنّي في البلاد. وهذا المعرض يعتمد على الموادّ التوثيقيّة والمحفوظات الخاصّة بمتحف سرسق وأعمال إعادة التأهيل المُنصرمة، ويسلِّط الضوءَ على انقطاعاتٍ طوال سنوات من الإقفال القسري بين 1952 و1961، والذي نَتَجَت عنه معركةٌ قانونيّة، وصولاً إلى الإغلاق الأخير بانفجار المرفأ. ويتضمَّن “موجات الزمن” أعمالاً لعددٍ من الفنّانين اللّبنانيّين وطقوسهم الفنيّة الإبداعيّة.

وفي الطّابق الثاني من المتحف يُقام معرض بعنوان “أنا جاهل” (ويستمرّ لغاية 19 أيّار/ مايو من العام المُقبل 2024)، وهو من إرث صالون الخريف في بيروت منذ افتتاح متحف سرسق في العام 1961. وكان لصالون الخريف دَوره في صَوْغِ ميدانٍ للفنّ الوطني، وصرحٌ أكاديميّ لتدريب المواهب الشابّة، وبلْورة ذائقة فنيّة لدى الجمهور.

في الصالتَيْن المُتناظرتَيْن في الطّابق الأرضي يُقام معرض “طريق الأرض” (ويستمرّ لغاية 12 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الجاري 2023)، مُنطلِقاً من التفكُّر في قضيّة استملاك الأراضي وملكيّتها في لبنان.

أمّا في الطّابق السفلي الثاني في صالة المعارض الكبرى، فيُقيم الفنّان زاد ملتقى مَعرضاً بعنوان “إيجيكتا” (يستمرّ لغاية 24 أيلول/ سبتمبر من العام المُقبل 2024). المعرض عبارة عن تجهيز سمعي – بصري. وجاء في التعريف عنه أنّه “يُحوِّل الصُوَرَ الرقميّة لأعمالِ مجموعة متحف سرسق الدائمة إلى عناصر تتطوَّر وتتوالى عبر سلسلة من الأوضاع والحالات، كأن تنبثق على شكلِ مقذوفاتٍ بركانيّة ضوئيّة لتعود وتتدفّق عبر إطار الشاشة كالماء أو الحُمم. يتصدّى الفنّان ملتقى للانحلال والتدهور والهلاك والدمار من خلال عنفٍ عكسيّ يغمر حواسّ المُشاهِد بأسلحة الفنّ والثقافة والفكر”. في المعرض يستمع الزائر إلى عمل ملتقى بعنوان “تمارين على الأضواء” ألّفَهُ في العام 2017. “إيجيكتا” تعني المقذوفات البركانيّة إنّما لتقذِفَ الظلام وتخلقَ فوهةً من الضوء.

المَعرض الخامس في متحف سرسق حاليّاً بعنوان “رؤى بيروت” (ويستمرّ لغاية 11 شباط/ فبراير من العام المقبل 2024)، ويتضمّن صوراً فوتوغرافيّة من مجموعة فؤاد دبّاس وفيديو آيكونيم الرقمي. وبيروت هي المدينة المثاليّة لهذا الموضوع، لأنّها مدينة متغيّرة بشكلٍ دائم. وهذا الفيديو أُنتج بتكليفٍ من منظّمة اليونسكو بعد انفجار مرفأ بيروت، ويُظهِر 30 ألف صورة تمَّ دمْجُها بعضها ببعض لإعادة خلْقِ جولةٍ افتراضيّة للمباني التراثيّة الرّائعة في بيروت، وقد أعادت آيكونيم توليفها خصّيصاً لهذا المعرض.

لم يشأ القائمون على متحف سرسق في بيروت أن يكون جامداً، بل وضعوا جداول زمنيّة لمعارض متحرِّكة، ومتجدّدة، ومتنوّعة، لمُواكَبة حالتَيْ النكبات والترميم. بانتظار ترسيم توأمة مع معارض عربيّة وعالَميّة، وهو ما أخبرتنا به مديرة المتحف كارينا الحلو، “لأنّنا نرغب بالتبادُل الثقافي والانفتاح على المنطقة العربيّة والعالَميّة”. وعلى الرّغم من عدم وجود تواصل مع متاحف فنيّة عربيّة اليوم، إلّا أنّنا سنعمل على هذا الأمر في أسرع وقتٍ مُمكن. إضافة إلى معارض فرديّة لفنّانين سنقيمها، وعروض سينمائيّة، وعرض كوريغراف راقص في أيلول/ سبتمبر المقبل، وبمُشارَكة الجمهور، وندوات منها حول آليّة البحث في الكتابة الكرونولوجيّة، وكيفيّة كتابة الحرب الأهليّة، وهو ما يحاوله حاليّاً بيار فرانس، ويعمل مع “أوريانت أنستيتيوت” الألمانيّة، وأنشطة أخرى تبتهج بجماليّاتها، وتسرّ النّاظرين.

***

*صحافيّة لبنانيّة

*مؤسسة الفكر العربي-مشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *