التنمية الإدارية: العنصر البشري أوّلاً
فيصل طالب
(المدير العام السابق لوزارة الثقافة)
لا تزال السياسة المتبعة في عمليات التنمية الإدارية في لبنان تفتقر إلى الرؤية الواضحة المبنية على فهم الواقع الإداري فهماً عميقاً، ورسم استراتيجية محدّدة ومتكاملة الأسس والأهداف والمسارات والآليات لعمليات التطوير، في ضوء التحدّيات التي يفرضها واقع التصدّي لمظاهر الاختلال والاعتلال الإدارية، وضرورة التناغم مع المتغيّرات المتسارعة للحاجات التي تتطلّبها الخدمة العامة، من المنظور الحديث لوظيفة الإدارة، من حيث كونها المجال الحيوي لتوظيف الموارد البشرية والمادية، على قاعدة تحديث البنيات والهيكليات والتنظيمات وجعلها أكثر كفاءةً وقدرة على توفير الخدمة وضمان جودتها، في سياق منظومة التنمية المستدامة التي لا تؤتي أكلها من غير إدارة نشطة وسليمة تتناغم مع مقتضيات النهوض والترقّي في جميع المجالات.
لا يزال العنصر البشري، وإلى أجل غير مسمّى، الحلقة الأهم في منظومة العمل في الإدارة العامة، وحجر الزاوية في الرهان على عمليات الإصلاح الإداري، أو ما اصطلح على تسميته حديثاً بالتنمية الإدارية المستدامة، تعبيراً عن أنّ عمليات التطوير في هذا النطاق لا يمكن أن تكون موسميّة أو طارئة أو مجتزأة، وأنّ ولوجها لا يتمّ من طريق واحدة، بل من مختلف العناصر والمكوّنات التي تشكّل بنيتها القانونية والتنظيمية والبشرية والمادية والتقنية، وبآفاق تحقيق أهدافها الأساسية التي تجعل الإدارة العامة الوجه الأقرب للدولة إلى مواطنيها، والتي ليست لها غاية سوى تحقيق مصالح المواطنين وتوفير حقوقهم، بالتوازي مع الالتزام بما عليهم من واجبات في هذا السبيل، تحت سقف الصالح العام والتقيّد بمندرجاته وموجباته.
تحتل مسألة اختيار الموارد البشرية للإدارة رأس قائمة الأوليات في سُلّم الإنماء الإداري. ولا يستقيم البحث في هذا المجال من دون التطرّق إلى الجهاز المعني بهذه الناحية، عنيت به مجلس الخدمة المدنية، وما أُسند إليه من دور في هذا النطاق، وما تحتاج إليه القوانين والأنظمة التي ترعى شؤون الإدارة العامة والعاملين فيها من تحديث وإعادة نظر، في ضوء المستجدات التي طرأت على البنية الوظيفية والعلم الإداري والواقع الميداني.
أوَّل الغيث في هذا المضمار يكمن في كيفية استقطاب العنصر البشري إلى الإدارة العامة، استناداً إلى المراكز المحددة في الملاك وتوصيفها الوظيفي الذي يجب أن يرتبط به حكماً سُلّم الرتب والرواتب، ثمّ تدريبه تدريباً متخصّصا ومستمرّاً لاكتساب المهارات والقدرات التي تمكّن أصحابها من أداء المهام القائمة والمرتقبة بفاعلية حسن التعامل مع مختلف المواقف والمتغيّرات الناشئة في بيئة العمل، ووضع نظام خاص للحوافز المادّية والمعنويّة، وبطاقة تقييم نافذة المفاعيل يرتبط بمندرجاتها الإيجابية تقرير المكافأت وسائر عمليات الترفيع والتدرّج والترقّي…، مع الإشارة إلى أن البحث في تطوير قدرات العنصر البشري بمعزل عن السعي إلى تطوير الأوضاع الإدارية ( قوانين وملاكات ومكننة وحقوق وواجبات …) لا يجدي فتيلاً ولا يفضي إلى الغاية المرجوّة.
وبانتظارتحقّق عمليات المكننة الكاملة في أعمال الإدارة العامة التي لن تستطيع، ولو تحققت بصورتها الناجزة، الاستغناء عن العنصر البشري المؤهّل لتسيير شؤونها، فإنّ الموارد البشرية لهذه الإدارة ستبقى عمادها وأصل النجاح في تحقيق أهدافها. ولذلك يقتضي العمل دائماً على رفع جاهزيتها وقدرتها الإنتاجية وتعزيز دورها المركزي في عملية النهوض والتغيير. وأولى المسلّمات في هذا السبيل اقتناع الموظفين بأهميّة دورهم وجدوى مشاركتهم في عمليات التخطيط وتبصّر الحلول للمشكلات الإدارية، والاستفادة من مقترحاتهم في هذا السبيل، وإلزامهم بما ألزموا به أنفسهم في عمليات التنفيذ. وهذا لن يتمّ بغير شعور هؤلاء بأنّ حقوقهم مصونة، ومستقبل أبنائهم في الحفظ والأمان، وبأنّ الحقوق والواجبات أمران متناظران لا وجود لأحدهما دون الآخر. على أنّ مهمّة القيادة الإدارية أساسية في هذا النطاق؛ إذ ثمّة علاقة طرديّة بين توافر مؤهّلات شخصية ومعارف ومهارات ومواقف مناسبة لهذه القيادة، وبين امتلاك مبادرات إبداعية وإقدام في العمل ورغبة فيه لدى المرؤوسين بصورة طوعية، على قاعدة تمكينهم من ثقافة العمل الفريقي الذي من شأنه تعزيز العلاقات التعاونية والإنسانية فيما بينهم، وهو ما يوفّر لبيئة العمل أسباب النجاح والتقدّم.
إنّ التقدّم التكنولوجي والثورة الرقمية قد ينتجان بعض الفائض في الموارد البشرية المتاحة. وهذا الأمر يبقى في حيّزالاحتمال لا الحتمية؛ إذ إنّ تقريره وتحديد مقداره يتوقّفان على طبيعة الهيكل الإداري والشكل التكنولوجي المرتبطين بطبيعة الأعمال وتنوّعها وتوافر الكفاءات المطلوبة، في سياق تلبية الاحتياجات العادية والطارئة والمضطردة للإدارة، والتي ترتبط بعلاقة طردية مع تلبية حاجات العاملين ومتطلباتهم التي تكفل لهم عيشاً كريماً، بما اكتسبوا من قدرات ومهارات متنامية توّهلهم للإبداع والتميّز، في فضاء الإدارة الحديثة التي تنحو نحو النمو والترقّي.