سجلوا عندكم

نحو نهوضٍ ليبراليٍّ عربيٍّ

Views: 272

واجَهَ الفكرُ اللّيبراليُّ العربيّ منذ ولادته حزمةَ عقباتٍ في مقدِّمها التقليد والمُحافَظة، والتركة العثمانيّة الثقيلة، والسيطرة الغربيّة الاستعماريّة، إضافة إلى القوى القوميّة والاشتراكيّة والدينيّة المتشدّدة التي غلّبت بمعظمها القرارَ الوطنيّ، وأولويّة الصراع مع إسرائيل، على الاهتمام بالإصلاح وإقامة دولة المؤسّسات والديموقراطيّة والبنى الاجتماعيّة والثقافيّة الحديثة.

فالقوى المذكورة لم تولِ ربطَ فكرها الاستقلالي بضرورة تحديث مجتمعات المشرق العربي، وخصوصاً كمُقوِّمٍ رئيس من مقوّمات اللّيبراليّة ومقدّماتها. ولأنّ هذا الانفصام استمرَّ قائماً أو ظلَّ يُراوِح مكانه، تراجَعَ التيّارُ اللّيبراليّ العربيّ، فكراً وقوىً فاعلةً ومؤثّرةً، في معظم دول المشرق العربيّ. وما إن سادت الرؤى المُحافظة والتيّارات القوميّة التي انغلقت على شعاراتها وبرامجها السياسيّة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، حتّى أَصبح الفكرُ اللّيبرالي حالةً هامشيّة وغير ذي شأن على الصعيد العلميّ، بخاصّة أنّ الاستقلاليّين العرب، على اختلافِ ميولهم وانتماءاتهم، حَصروا خطابَهم اللّيبرالي في مجالات الأدب والفكر وحريّة الصحافة والميدان السياسيّ…

شهدتْ مرحلةُ النصف الثاني من القرن التّاسع عشر حالةً تنويريّةً ليبراليّة في التعليم والثقافة والإحياء اللّغوي، كما عَرفت حقبةُ ما بعد الحرب العالميّة الأولى تيّاراتٍ سياسيّة التفتت إلى الإصلاح الداخلي، والتمسُّك بالحريّات. وفي السياق نذكر حركة “حزب الوفد” في مصر، و “الكتلة الوطنيّة” في سوريا، و”الكتلة الدستوريّة” في لبنان، و”الإخاء الوطني” في العراق… إلّا أنّها وغيرها لم تستطع ترجمةَ بعض توجُّهِها الحداثي اللّيبرالي في إصلاحاتٍ تأسيسيّة. فقد تأكّدت في التقليد المُغلق والصراعات الداخليّة وقيام الأنظمة العسكريّة بحجّة مُقاوَمة إسرائيل، والغَرق في العصبيّات المحليّة والولاءات المتعدّدة، وضغط الدول العربيّة ومصالحها. ونَستدرك فنقول إنّ التجربة العربيّة ذات المضمون الحداثي اللّيبرالي كانت على يد محمّد علي في مصر في النصف الأوّل من القرن التّاسع عشر التي حاولت التحديث من خلال مُحاكاة اللّيبراليّة الغربيّة (فرنسا)، إذ هي حقّقت إنجازاتٍ ملموسة في ميادين التعليم، وبناء الجيش، وإنهاض القطاع الزراعي؛ غير أنّ ذلك لم يستقم بسبب وقوع التجربة تحت مطرقة الصراع بين فرنسا وبريطانيا وانتصار الأخيرة عليها بعد حملها أعباء لا طاقة لها عليها. وهناك تجارب عربيّة أخرى، خاصّة في مصر في مرحلة ستّينيّات القرن الماضي التي حدثت من فوق وتلاشت إثر موقفٍ غربيٍّ مُضادٍّ لها.

عوامل كثيرة عرقلت، أو، بصورة أدقّ، أعاقت التحديث المُحاكي للّيبراليّة كدائرة من الرؤى والقواعد في بلدان المشرق العربي، على الرّغم من توافُرِ إطلالاتٍ فكريّة وثقافيّة ذات مضمونٍ ليبرالي؛ إلّا أنّ ذلك لم يتجسّد في مشروعاتٍ قابلة للتطبيق.

وفي هذا الإطار، نذكر كتابات خالد محمّد خالد، وقسطنطين زريق، وطه حسين، وعلي عبد الرّازق، وفرح أنطون، وميشال شيحا، وفي ما بعد عبد الله العروي، وهشام جعيّط، وناصيف نصّار. والمُفارَقة اللّافتة هي أنّ الإسهامات النظريّة لهذه الأسماء المذكورة بقيت في حيّزٍ فكري لم يشقّ طريقَه إلى الحياة الواقعيّة لأسباب عدّة منها أن الفكر اللّيبرالي العربي، بمراحله كافّة، بقيَ إلى حدٍّ بعيد مُبسَّطاً ومحدوداً بعددٍ من المُفكّرين والمُنظّرين حيال طاقِمٍ مُجابِهٍ من التقليديّين والمُحافظين والشعاريّين. إضافة إلى أنّ النموذج اللّيبرالي الغربي طغى على إمكانيّة ولادة نموذجٍ عربيّ لا يغرق في الآخر الغربي، ولا يُعادي المعطى التاريخي والحضاري العربي والإسلامي؛ فالعقلانيّة تأخذ من الذّات التاريخيّة، كما تأخذ من الآخر في الوقت نفسه. كما أنّ الحداثة تتّصل وتنفصل عن الماضي في آنٍ واحد. ويُمكن الوقوف عند أنّ الحداثة لا تُنجَز بالعنف والإكراه أو القفز الاعتباطي غير المدروس فوق المعطى التاريخي، أو فوق المعطى اللّيبرالي الخاصّ بالغرب وتجاربه، والخلاصة أنّه كلّما سار المُجتمع نحو العقلانيّة حقَّق الانفصالَ عن الماضي السلبي.

الآن، وبعد استراحة الحروب الداخليّة المتقطّعة، وحروب الخارج على الداخل المتّسمة بالتربّص وإمكان الاستئناف بأشكالٍ مُختلفة، باتت دولُ المشرق العربي عموماً مائلة نحو الانهيار والتآكل، وظهرت بلدان عربيّة خليجيّة تنفض عنها غبار التقليد والمُحافظة، وتسعى بوضوح نحو التغيير والتفتُّح والإصلاح في إطار ما تسمح به الظروف الإقليميّة والدوليّة وإمكاناتها، ثرواتٍ وإرادةً وانساناً وموقعاً تاريخيّاً. والواضح أنّ هذا التوجُّه نحو الحداثة في الممْلكة العربيّة السعوديّة وبعض بلدان الخليج العربي، يقوم على حريّة إعلاميّة منفتحة على حقوق الإنسان وإفساح المجال أمام التسامُح الدّيني، وإقامة المهرجانات الثقافيّة والفنيّة، وإعطاء المرأة بعضاً من حقوقها تدريجيّاً، واعتماد سياسة التخطيط، والعناية بالصناعات التحويليّة والغذائيّة، وإعادة المُواطن إلى ميدان المُشارَكة في العمل والإنتاج والتعليم وتعزيز علاقته بثورة المعلومات وتطوُّر التكنولوجيا.

هذا كلّه تجربة مُطلقة نحو التحديث وخطوات سليمة نحو الخروج من إرثٍ ثقيل من المُحافَظة. واللّافت أنّ المُبادرات المذكورة تُحقَّق بالعمل المُنظَّم والسَّلس، من دون القفز القياسي والاعتباطي فوق المعطى الاجتماعي والتراثي.

على الرّغم من أنّ تجربة المملكة العربيّة السعوديّة في المجال المذكور توفّرت لها الإرادة الداخليّة والرؤية الإصلاحيّة، إلّا أنّ المُجتمعات الخليجيّة العربيّة الأخرى لم تكُن بعيدة عن ذلك. ففي أربعينيّات وخمسينيّات القرن الماضي، لم تشهد هذه المُجتمعات الإعلامَ الحرّ، والجامعات الحديثة، وكليّات الطبّ والهندسة والعلوم البحتة، لكنّها سرعان ما قبلتها وتآخت معها وتبنّتها.

عدوّ وأنموذج في آنٍ واحد

حداثة نيو ليبراليّة تطلّ على العرب عموماً واكبها خوفٌ من انقلاب الغرب، وبعض الدول الإقليميّة وغير الإقليميّة عليها. فالغرب اللّيبرالي التوسّعي الذي يريد وضع اليد على الثروات والمواقع الاستراتيجيّة هو عدوّ وأنموذج في آن واحد. عدوّ لأنّه لا يريد لغيره ما أراده ويريده لنفسه، وأنموذج لأنّه يَملك مفاتيح التطوّر وطرائقه. غير أنّ هذا الغرب ليس عدوّاً دائماً، وليس نموذجاً يُحتذى في كلّ ما أنتجه وحقَّقه. فبلداننا العربيّة لها خصوصيّتها الحضاريّة والتاريخيّة ومشكلاتها الماضويّة التي لا بدّ من اعتبارها في أيّ عمليّة تحديث.

إنّ التطلُّع نحو التحديث ذي الطبيعة اللّيبراليّة يتحقّق بدولةٍ قويّة. ولا تحديث إلّا مع هذه الدولة، ومن دون الوقوع في الدولة الكيانيّة التي ظهرت وفشلت في معظم بلدان المشرق العربي.

كما في الإطار الفكري اللّيبرالي، كان باب الإصلاح يُفتح ويُغلق تبعاً لمُعطياتٍ عدّة: السيطرة الغربيّة أو ضعفها أحياناً، وقوى المحافظة الداخليّة والانغلاقات القوميّة والاشتراكيّة أو ضعفها في أحيانٍ أخرى. وفي معظم الحالات كان الدوران في الذّات القوميّة أو العقائديّة بشكلٍ عامّ، أو أخْذ الغرب وتقليده بكلّ ما فيه من أسباب عدم الوصول إلى الحداثة وبناء الدولة العربيّة القوميّة، ويشذّ عن هذا الواقع الذي عاشته البلدان العربيّة لأكثر من نصف قرن ما حقَّقه التحديثُ الذي جرى في بلدانٍ عاشت التقليد التاريخي كالصين واليابان والهند وغيرها.

على كلّ حال، كان الخلطُ بين الغرب الاستعماري والغرب اللّيبرالي النهضوي سقطة من زاويتَيْن عربيَّتَيْن: الفكر المُحافظ التقليدي من ناحية، والتطبيق القسري للتحديث في الدولة الكلّيانيّة العربيّة. ويحضر هنا ما يشبه فصل الدّيني عن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الحديث والمُعاصر وتجاوُزه، لأنّ هذا الفصل لم يتّسم بالواقعيّة، وما تتطلّبه الحياة الجديدة، ولا برؤيةٍ براغماتيّة للعلاقة بين الإيجابي والنّافع من التراث والسلبي منه، وهذا يعني بالضرورة وجود حداثيّين ليبراليّين لا يناصبون العداء لبيئاتهم.

إنّ توطين الحداثة في مسارها اللّيبرالي الطويل هو قلب قضيّة الانتقال من العقائد المُنكفئة والمُحافظة إلى عصر النمط الحياتي الجديد.

وفي السياق دلّت التجارب التاريخيّة الحداثيّة في دول الشرق والغرب على السواء، أنّه لا حداثة من دون رؤية فكريّة وسياسيّة ترافقها وتدعمها. فالتأخُّر الممتدّ قروناً في عالَمنا العربي لا يخسر أو يزول في ظلّ فقرٍ معرفي، علمي، أو تغييب الكلاسيكي أو النيوكلاسيكي العربي والعالَمي… فاليابان على سبيل المثال تستقبل سنويّاً 3% من عُلماء العالَم والخبرات والمُنجزات العلميّة للاستفادة منها، وكذلك فإنّ الولايات المتّحدة تَستورد ما يقرب 10% من الكفاءات العلميّة والتكنولوجيّة… والأمر نفسه ينطبق على ألمانيا وبريطانيا وفرنسا التي تستورد العُلماء من الهند.. هكذا لكأنّنا أمامَ مشهدٍ علمي تفاعلي آخذ في التوسُّع والحضور.

تفيد هذه المعالِم على الطريق نحو الحداثة بأنّ الدولة القويّة هي المدخل، رعايةً ومؤسّساتٍ وإنجازات، في إطار تحقيق المُواطنة وتكريس الديمقراطيّة والبنى الاقتصاديّة والعلميّة والتكنولوجيّة والثقافيّة الحديثة.

لا مناصّ من إقامة الدولة القويّة التي يتصدّر التحديث مهمّاتها في البلدان العربيّة كافّة، إنّما على مسافة بعيدة من تجارب بلدان المشرق العربي التي حوصرت وعُطِّلت في ظلّ السيطرة الأجنبيّة والأنظمة السياسيّة الكلّيانيّة والعقائديّات المُغلَقة.

***

*كاتب من لبنان 

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *