المغرب والاتّحاد الأوروبيّ: نحو تغيُّر قواعد اللّعبة

Views: 338

د. محمّد المصطفى بن الحاج*

 

ظلّت علاقاتُ الاتّحاد الأوروبيّ بجواره الجنوبيّ، محكومةً بالتوجُّس والحيطة والحَذر، بفعل التهديدات الأمنيّة المُتعدّدة التي يرى ساسةُ بروكسيل أنّ مصدرَها هو عدم الاستقرار الذي عرفته الضفّةُ الجنوبيّة للمتوسّط، وخصوصاً خلال العقد الأخير، فسياسته تجاه المنطقة تشكَّلت وفق هذا المُعطى مع إطلاق مَسار برشلونة سنة 1995؛ وعلى الرّغم من مُحاولات تطوير تعاطيه الدبلوماسيّ مع حكوماتها وتحسينه، إلّا أنّ هذا النَّهج ظلَّ حاضراً في سياساته تجاه هذا الجوار.

لم تتمكّن سياسةُ الجوار الأوروبيّة، على سبيل المثال، من الاستجابة بشكلٍ مُناسِب للتغيُّرات والتطلُّعات المُتغيِّرة لشركائه الجنوبيّين (وثيقة الاستشارات المُشترَكة: european union external action service). وبقي المغرب خارج هذه الحسابات على اعتبار التقدُّم المُحرَز في علاقاته بالاتّحاد الأوروبي وأيضاً لكونه يُشكِّل أحد الاستثناءات داخل مُحيطٍ مُضطّرب ومُتّسم بعدم الاستقرار. فعلاقاته مع الجار الأوروبيّ طَبَعَها التعاون والشراكة، اللّهم إذا استثنيا التوتُّر الذي حصل بسبب جزيرة ليلى خلال بداية تولّي الملك محمّد السادس مَقاليد الحُكم، والذي أبدى بخصوصه الاتّحاد الأوروبي دعمه وتأييده لإسبانيا. حيث انخرط المغرب بشكلٍ جدّي في السياسة الأوروبيّة للجوار التي تمّ إطلاقها منذ سنة 2004، وهو ما جعله يحظى بالوضع المُتقدِّم في علاقاته مع الاتّحاد الأوروبي، بل إنّه أصبح شريكاً استراتيجيّاً أساسيّاً لهذا الأخير.

كما هو معلوم، فقد بنى الاتّحاد الأوروبي علاقاته مع دول الضفّة الجنوبيّة للأبيض المتوسّط، وفق عرضٍ مؤطَّرٍ بمشروطيّة سياسيّة، تقوم على مجموعة من الركائز لعلّ أهمّها سياسة التمايُز la différenciation ومبدأ “المزيد من أجل المزيد”، التي يُحاول من خلالها هذا التكتُّل الإقليمي نَشْرَ مَعاييره وفَرْضَها على كلّ طرف يودّ الدخول معه في علاقاتٍ اقتصاديّة (بشارة خضر، أوروبا والعالَم العربي). إلّا أنّ العلاقة بين الطرفَيْن، شأنها شأن علاقاته مع دول الضفّة الجنوبيّة للأبيض المُتوسّط بقيت محكومةً بنظرةٍ براغماتيّة أوروبيّة صرفة، تُركِّز على الجانب الأمني وضمان التزوُّد بالغاز والنفط ومنْع الهجرة غير النظاميّة نحو الحدود الأوروبيّة، بعيداً عن شراكةٍ حقيقيّة تَضمن لكلّ طَرف مزايا مُتوازية.

لكنْ، خلال السنوات القليلة الماضية، ستشهد العلاقات الأوروبيّة المغربيّة فتراتٍ مُتتالية من التوتُّر، بسبب مجموعة من الملفّات، كالهجرة واتّفاقيّات الصيد البحري والاتّفاق المُتعلّق بالمُنتجات الفلّاحيّة. ولعلّ أكبر تلك الملفّات وأعقدها هي التي لها علاقة مباشرة بالنّزاع حول إقليم الصحراء المغربيّة، وهو ما أدّى إلى التعثُّر الذي يَشهده مَسار اتّفاقيّة التبادُل الحرّ والشامل منذ سنة 2015.

حلقة من الحرائق

فقبيل اندلاع الأزمة الديبلوماسيّة مع ألمانيا، شعرَ الاتّحاد الأوروبي بالفعل أنّه مُحاطٌ بحلقةٍ من الحرائق. لكنّ قلّةً في بروكسل توقّعوا أن يشعل المغرب شرارة جديدة، فقد تسبَّبَ قرارُ الحكومةِ المغربيّة بقطْعِ جميع الاتّصالات مع السفارة الألمانيّة في الرباط بعد “سوء الفهم العميق” مع برلين، في عودة التوتُّر من جديد (بلاغ وزارة الخارجيّة المغربيّة)، ويبدو أنّ عنوانه هذه المرّة هو المَوقف من قضيّة الصحراء المغربيّة، والذي أَسهَم في تأجيجه الموقفُ الألماني من قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب القاضي بالاعتراف بالسيادة المغربيّة على إقليم الصحراء الغربيّة خلال شهر كانون الأوّل/ ديسمبر من العام 2021. لكن بطبيعة الحال هذه الواقعة ليست سوى الشجرة التي تخفي الغابة، فالقضايا الخلافيّة بين الطرفَيْن تتعدّى ما هو سياسي إلى ما هو أمني واقتصادي، فعلى سبيل المثال نجد إقصاء برلين للرباط من حضور الاجتماع المتعلّق بالأزمة اللّيبيّة، وتدخُّل بعض المؤسّسات الألمانيّة العاملة في المغرب في الشأن الداخلي للبلاد. هذا فضلاً عن الأطماع الألمانيّة في الحصول على المزايا الاقتصاديّة التي من المُفترض أن تنتجها عمليّة ترسيم المغرب لحدوده البحريّة بما فيها إقليم الصحراء، والمُرتبطة أساساً بالمَوارِد الطبيعيّة التي تحتويها منطقته الاقتصاديّة الخالصة، والتي لها علاقة وطيدة ببعض الصناعات التكنولوجيّة المُتطوِّرة في بعض الدول المُتقدّمة، والتي على رأسها ألمانيا.

هذا المَسار المُتأزِّم في علاقة المغرب بالاتّحاد الأوروبي، ستُكرِّسه استضافة إسبانيا لإبراهيم غالي زعيم جبهة البوليساريو قصد العلاج، وهو ما اعتبرته السلطات المغربيّة أمراً مُنافياً لعلاقات حسن الجوار مع شريكٍ استراتيجيّ كالمغرب، في حين كان ردّ إسبانيا أنّ الأمرَ حصلَ لدواعٍ إنسانيّة. وقد تزامَنَ هذا التوتُّر مع وصول آلاف المُهاجرين السرّيّين المغاربة والأفارقة ومن جنسيّات أخرى إلى التراب الإسباني، الشيء الذي دَفَعَ الخارجيّة الإسبانيّة إلى تصنيفه في خانة التوظيف السياسي لملفّ الهجرة من أجل الضغط عليها لتغيير موقفها من قضيّة الصحراء المغربيّة.

بيد أنّ القرار الأميركيّ القاضي بالاعتراف بالسيادة المغربيّة على هذه المنطقة المُتنازَع عليها، كان بمثابة تغييرٍ لقواعد اللّعبة، حيث مكّن المغرب على ما يبدو من خلخلة الوضع الراهن statut quo والقالب النمطيّ الذي نَحته ساسةُ بروكسيل للعلاقة بين الاتّحاد الأوروبي والمَملكة المغربيّة، القائم بشكلٍ أساس على العلاقة غير المُتوازِنة بين الطرفَيْن, تلك العلاقة التي وصفها زير الخارجيّة المغربي ناصر بوريطة بمنطق الأستاذ والتلميذ، حيث دعا إلى تجاوُز هذا المعطى، كما دعا المسؤولين الإسبان إلى تحيين معلوماتهم بخصوص المغرب.

شراكة مبنيَّة على النديّة

أسهَمت هذه التطوُّرات في إعادة ملفّ الصحراء المغربيّة إلى قمّة الأجندة السياسيّة للاتّحاد الأوروبي، وخصوصاً بعد قرار البرلمان الأوروبي الأخير الصادر بتاريخ 10 حزيران/ يونيو 2021 الذي أعلن من خلاله رفضه استخدام المغرب للمُراقبة الحدوديّة والهجرة، ولاسيّما القُصَّر غير المُرافَقين، كآليّةِ ضغطٍ ضدّ الاتّحاد الأوروبي. وهو ما خلَّف استياءً لدى السلطات المغربيّة التي اعتبَرت القرارَ تدخُّلاً وانحيازاً إلى الجانب الإسباني في العلاقات الثنائيّة التي تَجمع الطرفَيْن. كما أشارت إلى أنّه يتنافى مع السجلّ النموذجي للمغرب في ما يتعلّق بالتعاون في مجال الهجرة مع الاتّحاد الأوروبي.

غير أنّ هذه التطوُّرات جَعلت عدداً من صنّاع القرار في بروكسيل مؤمِناً بأنّ قواعد اللّعبة تغيَّرت بعد الاعتراف الأميركي بمغربيّة الصحراء. وهو ما أفضى إلى تحرير المغرب من الضغوط التي كانت تُمارَس عليه بخصوص بلْورة سياسته الخارجيّة، ولاسيّما تلك المتعلّقة بقضيّة وحدته الترابيّة.

حيث إنّه من المُرتقب أن تُصدِر مَحكمة العدل الأوروبيّة قرارَها بشأن قابليّة تطبيق الاتّفاقيّات التي تربط المغرب والاتّحاد الأوروبي على إقليم الصحراء، إذ إنّه من المرجّح في حالة فشل هذا القرار في الإجابة عن توقُّعات المغرب، أن يؤدّي ذلك إلى المزيد من التوتُّر مع الشريك الأوروبي، هذا الأخير الذي بات مُطالَباً أكثر من أيّ وقت مضى بالتحلّي بالواقعيّة في التعامُل مع شريكه الجنوبي وفق مُقارباتٍ جديدة تضع بالحسبان مكانة المغرب وعُمقه الاستراتيجي وتجاوُز منطق الأستاذ والتلميذ بإرساء أُسس شراكة حقيقيّة مبنيّة على النديّة وضمان المصالح المُتبادَلة.

***

(*) أستاذ زائر في كليّة الحقوق في أكادير – المغرب

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *