“حقيقة الموت” هل هي انتقال من عالم إلى آخر؟

Views: 452

وفيق غريزي

إن أعظم ظاهرة احاط بها الانسان وتصرّف معها بالهيبة والوقار هي ظاهرة الموت، لقد انقرضت طقوس التلقين والسيامة في مجتمعات كثيرة، وتراجع الاهتمام بالمراسيم الدينية في الزواج والميلاد، لكن الموت ما زال يفرض قداسته ويبعث في الانسان احاسيس روحية. الموت هو ظاهرة وحيدة بقيت منذ عشرات الألاف من السنين حتى يومنا هذا محل اهتمام الانسان وعنايته، فالشعوب كلها والمجتمعات كلها باختلاف عقائدها وبيئتها ومستوياتها الحضارية تهتم بالموت وتمنحه مكانة مقدسة في حياتها، وتحيط امواتها بعناية فائقة وكأنهم احياء، بل وفي بعض الأحيان ترفع درجة الأموات اكثر من درجة الاحياء، فالأموات لهم ايضا حقوقهم، التي يجب على المجتمع أن يتكفل بها.

لقد كان للموت دور كبير في تخليد آثار الانسان، اذ لولا الاهتمام بالأموات لما عرفنا أي شيء عن حضارات الامم القديمة. 

الباحث بوسامة أحمد تناول اشكالية الموت في كتابه “حقيقة الموت” في نظر الديانات، وفيه يحاول أن يتطرق لاشكالية الموت ليس كظاهرة بيولوجية ولكن كمجموعة من طقوس وشعائر ورموز دينية، كانت تشكل الاطار الامثل الذي يتعامل من خلاله الانسان مع الاشخاص الذين اختطفهم الموت. الى جانب هذا يحاول الباحث فك بعض الرموز، وبعض اسرار اللغة الرمزية التي يعتمدها الانسان اثناء الموت، وكأنه في حوار معها.

 

ما هو الموت؟ 

إن الموت ما هو الا رحلة، وميلاد من عالم الى عالم آخر، حيث تعود الروح الى المكان الذي غادرته قبل الميلاد، فالصحوات والدعوات والطقوس المرافقة للموت، ما هي الا محاولة لتزويد الانسان المتوفى بطاقة روحية اثناء رحلته في العوالم الأخرى. يقول الباحث في هذا الصدد: “إن أخطر تهديد واجه الانسان حتى اليوم هو الموت، هذه الظاهرة التي فرضت نفسها كحتمية لا مفر منها، وكقانون طبيعي عام لا استثناء فيه ولا شذوذ، وموقف الانسان امام الموت، هو موقف من لا يستطيع اي شيء سوى الاستسلام امام ارادة القدر “.

وفي الحقيقة، الموت هو عودة الى احضان الاله الخالق الذي خلق البشر، وهو من خلال الموت سيعيدها اليه. واذا قارنا كلمتي الام واموت في اللغة الفرعونية فنجدهما تشتركان في اللفظة نفسها وهي “موت”، ونجد اللغتين العربية والعبرية بدورهما، واللغة البربرية كذلك تمنح للموت اسم “ثامثانت”، وهذه الكلمة قريبة من حيث جذرها بالكلمة الفرعونية السامية، والجذر المشترك مو “مت”. ويشير الباحث الى أن لفظة الموت لا تعني الفناء التام للانسان، كما أن النصوص والحكم الدينية بدورها، تؤكد أن الموت ما هو الا الرجوع الى الله، ومن خلال هذا يمكننا أن نقول إنه لا وجود للفظة او عبارة ما، تحمل في معانيها مفهوما مطلقا عن الموت، فكل العبارات والكلمات الدالة عل الموت لا تشير اليه الا على اساس كونه رحلة من عالم الأرض الى عالم السماء. وبعبارة اخرى الموت هو عودة الانسان الى الله، الملجأ الوحيد حين ينقطع الانسان نهائيا عن كل ما يربطه بالأرض. ويؤكد كل من “بيري” و”روسلافد” أن فكرة الآخرة ورحلة الأموات عند الشعوب الاندونيسية ترتكز على مبدأي “العودة او الرجوع”، وفي الصين فإن الروح مضاعف ويتكوّن من مبدأ “كاي وشان”، فمبدأ كاي نجد من بين دلالاته العودة، أو الرجوع. وفي اللغة البربرية وبعض اللهجات العربية فان كلمة “روح” تعني العودة أو الرجوع من مكان ما. يقول الباحث:  “إن كلا من اللغة والنصوص المقدّسة الرمزية تؤكد بصدق أن الانسان لا يتعامل مع ظاهرة الموت إلا على اساس أنها تواصل لحياة الانسان في عالم آخر، هو عالم الالوهة، ولولا هذا الاعتقاد لما اولى الانسان ابسط اهتمام لظاهرة الموت، فهذا الاهتمام في حد ذاته يعكس قيمة الموت وقداسته”.

 

أصل الموت وحتميته 

تعرض الكثير من الاساطير الدينية بالاشارة الى أصل الموت، وربطت ظهوره بارتكاب الانسان الأول أو الجماعة الأولى لخطأ يتعارض مع الأوامر والوصايا الالهية، أو نتيجة سوء تقدير للاختيار بين الموت والخلود، هذا الاختيار الذي منحه الله للبشر الاوائل، ومن هنا يمكننا القول حسب رأي الباحث: “إن الله لم يفرض الموت على الانسان ولم يحرمه من الخلود، ولكن الانسان هو الذي اختار”. ومما يؤكد هذه الحقيقة هو أن معظم الاساطير التي تحدثت عن اصل الموت تظهر الله في حالة غضب من سلوك الانسان بتفضيله الموت بدل الخلود، وبالتالي جاء الموت كجزء بفعل حماقات الانسان. ويعتقد الباحث بان الرواية القرآنية قد ربطت ظهور الموت بوجود الانسان على الأرض، كما ربطت الخلود بوجود الانسان في الجنة. وهذا ما لا يتعارض مع ما جاء في روايات الاساطير الاخرى كرواية الاقزام التي اشارت الى وجود الانسان في مكان يتمتع بالسعادة، أي في الجنة، وانه لم يكن يعرف الموت، ولكن بمجرد اكله من شجرة “تاهو” فرض عليه الموت. ومن خلال ذلك نلاحظ أن الانسان حين اختار الموت، كان يعتقد انه أحسن الاختيار وانه تحصّل على الخلود، ولم يدرك أنه اختار الموت بما يحمل من قيمة سلبية، وأن السبب لا يعود بالدرجة الأولى الى سوء تقدير الانسان في اختياره بقدر ما يعود الى عدم التزامه بوصية الاله، فلو لم يخالف هذه الوصية، فإنه لن يتعرض للموت بل يبقى خالدا في الجنة.

الموت هو مصير الانسان وكل كائن حي، ولا يستطيع أي احد أن يرفضه، او يتحصن ضده، مهما بلغت درجة زهده وتدينه ومهما امتلك من قلاع وحصون، فالموت نهاية كل انسان سواء كان فقيرا أو غنيا، مؤمنا أو كافرا، ولقد اكدت الديانات على أن الموت حتمية وليس اختيارا.

 

الموت انواع 

المقصود بأنواع الموت هو التمييز بين الموت الحقيقي والموت الرمزي، وإذا كان الموت الرمزي يقترن بطقوس العبور التي يخضع لها الاطفال اثناء السيامة، فإن الموت الحقيقي هو بمثابة اعلان نهاية وجود الانسان على الارض. ويرى الباحث بو ساحة احمد أن الموت الرمزي يستعير بعض مظاهر الموت الحقيقي ولكنه يبقى دائما موتا رمزيا لا يتعدى حدود تمثيل الطفل لدور الانسان الميت وهذا في وضعيته وثباته وانعدام حركته، وطقوس العبور كلها تدور حول فكرة الموت والميلاد، ولكن هذا الموت يستدعي الانتقال من عالم الأرض الى عالم آخر فالروح تبقى ملازمة لجسم الانسان، وكل ما في الأمر أن الموت الرمزي يعبر عن نهاية فترة الطفولة، والميلاد يعبر عن بداية مرحلة جديدة هي مرحلة البلوغ. 

وبالنسبة الى الموت الحقيقي حسب اعتقاد الباحث، فالأمر يختلف، لأن التغيير الذي سيحدثه على وجود الانسان يختلف عن تأثير الموت الرمزي، ويقول إن: “الانسان اثناء الموت الحقيقي سينفصل نهائيا عن كل ما يربطه بحياة الارض، وعندها تتخلى الروح عن الجسد الذي يتحلل الى عناصر طبيعية، وهذا الموت في حد ذاته يمكن تصنيفه الى موت طبيعي وموت غير طبيعي”. قد لا يطمئن البعض الى هذا التصنيف لأن الموت الحقيقي مهما كان نوعه يبقى دائما هو الموت، وهذا ما عبّر عنه شعب المينا جنوب التوغو، بقوله إن الموت غير الطبيعي هو ذلك الموت الذي يصيب الانسان بفعل حادث ما، وقد يكون هذا الحادث بفعل ارادي كالانتحار او بفعل لا ارادي كالموت في الحرب، او الغرق في البحر، او السقوط من مكان مرتفع، او التعرض لحيوان مفترس الخ …

 

رمزية الميلاد في الموت 

ليس من المعقول بنا ونحن نضع ايدينا على الكثير من العلوم والاختصاصات الحديثة، أن ننظر ببساطة الى اعقد مسألة شغلت بال الانسانية منذ القدم، وهي مسألة الموت كما سبق وذكرنا، هذه الكلمة التي تبعث الحيرة والخوف والفزع لدى كل الناس. ” فلو طرحنا على أنفسنا سؤالا بسيطا: لماذا اهتم الانسان منذ بداية وجوده حتى اليوم بظاهرة الموت؟ ما هو مصدر هذا الاعتقاد؟ هل الطبيعة بعناصرها والكون بأجرامه هما اللذان اوحيا للإنسان بفكرة الخلود واستمرارية الحياة ما بعد الموت، كاستمرارية نمو النبات وموته، او كشروق الشمس وغروبها؟ ام أن الانسان ادرك أن ذاته ما هي الا عنصر من عناصر الطبيعة تولد وتكبر وتموت مثل النبات؟ ” وبتعبير آخر نقول هل الانسان يعيش كغيره من عناصر الطبيعة دورة ارضية، ثم يتجاوزها بعد الموت ليصبح عنصرا سماويا يعيش ضمن دورة كونية اخرى؟ إنها تساؤلات كثيرة تولدت من تساؤل كنا نعتقد انه بسيط جدا، ولكنه يجرنا الى تساؤلات معقدة. يرى بعض الباحثين الذين تناولوا اسكاتولوجيا الانسان القديم، أن مصدر فكرة الحياة، بعد الموت اوحت بها عناصر الطبيعة وعناصر الكون التي لاحظها الانسان في ظهورها واختفائها من خلال دورات معينة، ثم عودة ظهورها من جديد واختفائها، وهكذا دواليك. مشرق الشمس وغروبها المتكرران، وميلاد النبات وموته وعودة ميلاده وموته من جديد، هي مواضيع وظواهر كافية لتجعله يعتقد بان الانسان يمر بالدورة نفسها، وبدل اللجوء الى فهم ادق والصحيح للرمزية الجنائزية، نجد حسب وجهة نظر الباحث بو ساحة احمد اصحاب هذه النظرية يقومون بدراسة البيئة التي وجدت فيها رمزية جنائزية معينة، ويتطرقون الى الدورة الفلكية لكل من القمر والشمس، وكأن هذه العناصر هي المسؤولة عن ظهور فكرة الحياة ما بعد الموت، ولولاها لم اعتقد الانسان في حياة ثانية بعد الموت، فالوحي الالهي غائب، أو تم تغييبه، وهذا على الرغم من اشارة كل الديانات القديمة منها والبدائية السماوية الى ما بعد السماء كمصدر لهذا الاعتقاد. ويقول الباحث: “للاجابة على كل هذه التساؤلات، ندرس الرموز الجنائزية، اذ بدونها لا نجد اي معنى للموت”. وفي الرموز الجنائزية القديم: “الصليب – التل – والهلال”.

 

إن الحياة تحمل في شقها الآخر معنى الموت، والموت يحمل في طياته معنى الحياة، فالإنسان يحيا من اجل أن يموت، ويموت من أجل أن يحيا، فمن الحياة يتولّد الموت، ومن الموت تتولّد بذرة الحياة، هكذا فهمت كل الديانات في العالم معادلة الوجود، وهكذا تعلم الانسان الديني سر الوجود، كل الاديان متفقة حول حقيقة الوجود، وان اختلفت في التعبير عنها نظريا لاختلاف البيئات والمستويات الحضارية…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *