صراع الإمبراطوريّات على القارّة السوداء. مَن يُريد اجتثاثَ الفرنسيّين من إفريقيا؟

Views: 448

نبيه البرجي*

يقول وول سوينكا، الكاتب النيجيريّ (نوبل 1986) “هنا تتبدَّل الأدوار، وتتبدّل الوجوه. القبائل البيضاء هي التي ترقص الشاكو شاكو حول كومة الحطب”، صارخاً “إلى متى تبقى أفريقيا … كومة الحطب؟”.

منذ نحو ثلاثة عقود كنتُ أتجوّل في شوارع باريس مع صحافيٍّ من الكاميرون، وعندما أبديتُ دهشتي أمام التشكيل المعماريّ الفذّ لأحد القصور، قال لي “إذا ما حلَّلتَ هذه الحجارة في مُختبر للتاريخ، لعثرتَ فيها على عظام آبائنا. يا صاحبي، كلّ تلك القصور التي تراها في أوروبا صُنعت من عظام آبائنا”.

مَن يلقي الضوءَ على هذه الإشكاليّة أكثر من الباحثين الأنثروبولوجيّين؟ كلود ليفي شتراوس دعا في إحدى محاضراته إلى البحث عن “جذرونا”، كجنسٍ أبيض، في أفريقيا التي أثبتَ عُلماء الأحافير أنّ الكائنَ البشري ظَهر فيها منذ 3000000 عام. لم يَعثر على إجابة لسؤاله “لماذا بقيَ الأفارقة، هكذا، باللّون النحاسي؟”. وهل إنّ اختلالاً أنثروبولوجيّاً حَدَثَ حقّاً في العالَم جَعَلَ “الزمن الزنجي” يتوقّف هناك؟ ما المعنى من كلمة “هناك”؟

ملاحظة أخرى لليفي شتراوس “هؤلاء هُم أوّل مَن استشعروا ذلك الهاجس الأبدي حول ما، ومَن، وراء هذا الكون. وقوفهم أمام تلك الأسئلة المستحيلة حَمَلَهم على الهروب عبر الضجيج الجسدي. هذا ما يعكسه الإيقاع الذي يُحدثه قرعُ الطبول (التام تام)”، ليقول “ربّما تتوخّى الرقصات الصاخبة غسلَ الروح البشريّة من القلق الداخلي الذي تُحدثه تلك الإشكاليّات الماورائيّة”.

حضارة هيروشيما

نتوقّف عند الكاتبة الزنجيّة الأميركيّة توني موريسون (نوبل1993) التي تُثني على “البدائيّة الخلّاقة” لدى القبائل الأفريقيّة، وقد قرَّرت الإقامة في ذلك الزمن الذي يقود الإنسان إلى الخلاص لا إلى المتاهة؛ المتاهة الفلسفيّة بظلالها الأبوكاليبتيّة. وَصفت الحضارة الغربيّة، بما حقَّقته في مجال التكنولوجيا، بـ “حضارة هيروشيما”!.

في نظرها هذا واقع سيكولوجي شديد التعقيد، لتتحدّث عن قصور سيغموند فرويد في نظريّات التحليل النفسي. لماذا يقتل الإنسانُ الإنسانَ؟ لا تُقنعها المُقارباتُ الكلاسيكيّة التي غالباً ما توضَع لأغراضٍ هامشيّة أو زبائنيّة. في كلّ الأحوال، صاحبة “العيون الأكثر زرقة” تَرفض أن تكون امرأةً بيضاء. على الأقلّ “لأنّ الكُتب المقدَّسة دَعَتْ إلى عدم تدمير الزمن، أو تدمير الكَون الذي قالت الكُتب إيّاها إنّه صُنع من أجلنا أيضاً. ها إنّ البيض الذين حوَّلوا الكرة الأرضيّة إلى حطام، يُحاولون أن يفعلوا الشيء نفسه مع الكواكب الأخرى”.

ذاك الرقص الذي قالت المغنّية الأميركيّة الشهيرة إيلّلا فيتزجيرالد (النهر الذي يبكي) إنّه يرمي من خلال إثارة الجلبة في الجسد البشري إلى تفريغنا من الأرواح الشرّيرة، وتَستدرك “مَن غيرنا الأرواح الشرّيرة؟”. أَلَم يتّهم ديزموند توتو، كبير أساقفة جنوب أفريقيا، الأوروبيّين بأنّهم لم يكونوا أبداً حَمَلَةَ الإنجيل منذ أن بدأوا بغزو القارّة؟ قال “إنّهم لم يكترثوا، قطعاً، لتعاليم السيّد المسيح بل ضربوها في الجوهر، وكرَّسوا ثقافةَ العبوديّة حين تعاملوا مع الزنوج كما الجرذان في قعر السفن كامتدادٍ لقعر جهنّم”. توتو سألَ “هل تتذكّرون على أكتاف مَن، وبثرواتِ مَن، بَنَيْتم إمبراطوريّاتكم؟”؛ تَرَكَ لنادين غورديمر (نوبل1991) أن تكتب أنّ مَملكة مالي الإسلاميّة “حاولت أن تصنع الإنسان الذي لا تجرّه الحبال”. سوندياتا كيتا قامَ في العام 1230 بتشكيل اتّحادٍ للقبائل في ما يُعرف بأعالي نهر النيجر، لتَنشأ إمبراطوريّةٌ تمتدّ من شواطئ الأطلسي في الغرب إلى ما وراء تخوم النهر إيّاه في الشرق، ومن حقول الذهب في غينيا شمالاً إلى ملتقى القوافل التجاريّة جنوباً عبر الصحراء.

الإمبراطور المالي مانسا موسى حَجَّ إلى مكّة المكرَّمة في العام 1324، عبر القاهرة، ليستقبله المماليك بحفاوةٍ مُنقطعة النظير. المُثير أنّ سعر الذهب في العالَم انخفضَ إثر رحلة الحجّ هذه لكثرة ما نُثِر من الذهب. وفي ذلك العام أصبحت العاصمة تمبكتو مركزَ تجارة الذهب، وكذلك مركز تعليم مبادئ الدّين الإسلامي، قبل أن يستولي الطوارق (بدو الصحراء الكبرى)، عليها.

الماسّ والقشّ

بأسىً ملحوظ أبدى الكاتب التنزانيّ عبد الرزّاق قرفح (نوبل2021) خشيته من أن تبقى القارّة نائمة بين الجمر والرماد: “تصوَّروا أنّنا نعيش في أكواخ القشّ، ولكن فوق حقول الماسّ. على الرّغم من ذلك، لم نرفع الرماح في وجه مَن كرَّسوا مُعادلة الماسّ للأبيض، والقشّ للأسود. لعلّ بعضنا، أو أكثرنا، ما زال يأخذ بشعوذاتِ بعض الكَهنة (كهنة النار) التي تقول إنّنا في طريق التحوُّل، ربّما التحوُّل المُفاجئ، إلى اللّون الأبيض. يا لسذاجتنا!”.

أين أفريقيا، أين أفريقيا، الآن؟ أمثلة كثيرة على “أزمة الزمن” في القارّة: الصومال، وقد تحوَّل إلى حطامٍ سياسي وإنساني، ليبيا التي يبدو المشهد فيها أقرب ما يكون إلى الغرنيكا (لوحة بابلو بيكاسّو الشهيرة)، السودان، بالحرب المبرمجة بين رجلَيْن وَصَلا إلى السلطة على دبّابةٍ يجرّها العصر الحجري. كلّ هذا من أجل السيطرة على ثروات بلدٍ كان يُمكن أن يكون “اللّؤلؤة السوداء”، فإذا به يتحوَّل الى حلبة أبديّة للصراع. الآن، ملايين السودانيّين على حافّة الجوع. أيضاً النيجر، حيث الانقلابات العسكريّة تحوَّلت إلى جزءٍ من الثقافة اليوميّة، وحيث الشبق إلى السلطة لا الرغبة في إنقاذ بلد يمتلك أضخم احتياطي لليورانيوم في العالَم، إضافة إلى النفط والذهب، حتّى ديمقراطيّة محمّد مازوم صناعة فرنسيّة. يُعلّق الكاتب أوي لاكمفا (الناشط في مجال حقوق الإنسان) ساخراً “لا تظنّوا أنّ ديمقراطيّتنا تقف على قدمَيْن مثل قدمَيْ بريجيت باردو”. كلّ تلك الثروات تذهب إلى الشركات الأجنبيّة ليكون على الحكومة أن تستدين مليارَيْ دولار من البنك الدولي لمشروعاتٍ إنمائيّة.

والآن الغابون، حيث ينتفي الفارق بين ديمقراطيّة علي بونغو الذي خَلف أباه، بعد حُكمٍ دامَ 41 عاماً، ليُنتخَب للمرّة الثالثة، وديكتاتوريّة الجنرال بريس أوليغي، من دون أن نُجازِف ونقول إنّه الانقلاب الأخير في لعبة الدومينو..

الشاعر السنغالي نداي كومبا دياخاتي يقدِّم صورةً رائعة للشخصيّة الأفريقيّة: “أغنّي سلالتي بصوتٍ عال/ أغنّي دمي الذي يُعلِن مَن أكون/ أنا خشب الآبنوس/ الذي يستهلك نيران الكذب البطيئة/ أنا الحصى الأحمر لدم آبائنا الشرس/ أنا الغابة النقيّة/ مَمْلكة القرود وهي تصرخ/ لست زنجيّ الأحياء الفقيرة/ المحشور في حفرةٍ قذرة/ مُلتصقاً بالسخام/ ها أنا أحطِّم السلاسل/ والصمت الخادع الذي ألقتني به”. ليكتشف أنّ السلاسل لا تزال تعذّب حتّى ضوء القمر …

الشعوذة البيضاء

هل الوضع في القارّة السمراء بائس الى ذلك الحدّ؟

الصراع الآن يبدو أكثر ضراوة، وأكثر تعقيداً. مثلما قرَّر دوايت إيزنهاور أن تحلّ الإمبراطوريّة الأميركيّة محلّ بريطانيا وفرنسا في الشرق الأوسط (السويس 1956)، قرَّر جو بايدن، وقبله دونالد ترامب، اجتثاثَ الوجود الفرنسي في أفريقيا. هذا يُمكن أن يَحدث بالانقلابات العسكريّة مثلما كان يَحدث في أميركا اللّاتينيّة. بدلَ جمهوريّات الموز جمهوريّات المانغا. المفاجأة كانت بتسلُّل الروس والصينيّين عبر الأصابع الأميركيّة والفرنسيّة، ليكون لهم وجودٌ مؤثِّر ليس في الأسواق فحسب، وإنّما أيضاً في الوجدان السياسي للمُجتمعات المَعنيّة.

لعلّكم تَذكرون بوب دينار، قائد المرتزقة الفرنسي الشهير، إذ شارَكَ في أكثر من 40 انقلاباً، أو محاولة انقلاب، أطاح بعددٍ من رؤساء الدول، ليُشهِر إسلامه في جزر القمر (بدلاً من اسمه الأصلي جيلبير بورغو أصبح اسمه سعيد مصطفى محجوب). قناة “فوكس نيوز” قارَنت بين دينار وقائد مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين (الأب يهودي من بيلّاروسيا). المجموعة موجودة في 8 دول أفريقيّة، وهي تتمدّد.

في 23 نيسان/ أبريل 2023، نَشرت “الواشنطن بوست“، حصريّاً، وثائق استخباراتيّة أميركيّة سريّة تشير إلى أنّ المجموعة تبذل جهوداً مكثَّفة لإنشاء كونفديراليّة تضمّ بلداناً مُعادية للغرب في القارّة، لتتحدّث عن أنّ “التوسُّع السريع للنفوذ الروسي هناك يُثير القلق لدى مسؤولي الاستخبارات والجيش في أميركا، ما يدفعهم إلى “البحث عن سُبلٍ لضربِ شبكات قواعد فاغنر غير العسكريّة، وواجهاتها الاقتصاديّة، مُستخدِمين في ذلك عقوبات وزارة الخزانة، وبطبيعة الحال الضربات العسكريّة”.

مشكلة فاغنر أنّه مثلما كان يَصِلُ بمُغامراته، أيّاً كان شكل هذه المُغامرات، إلى حدودها القصوى، كان يصل بطموحاته إلى حدودها القصوى. هنا اللّحظة التي تحترق فيها جثّته إمّا بقنبلة في الطائرة أو بعود ثقاب في غرفة نومه. احترقَ. حتّى عظامه احترقت. مثله لا يترك أيّ أثر.

الفايننشال تايمز” لاحظت كيف أنّ التنّين الصيني، الذي يُتابع بالأشعّة ما تحت الحمراء، مَسارَ الصراعات على الساحة الأفريقيّة، يُخطِّط، عبر الاستثمارات الضخمة، أن يحلّ، وقبل منتصف القرن، محلّ الجميع على هذا المسرح الذي يضمّ أضخم الثروات وأهمّها، ما يساعده على “التفرُّد بوجوده في تلك المقصورة التي تُدار منها الكرة الأرضيّة”.

نلسون مانديلّا تحدَّث عن “الشعوذة البيضاء”. أثارت ذهولَه كتاباتُ بعض الساسة البريطانيّين الذين كادوا يَصِفون أدمغةَ الأفارقة بـ “أدمغة القردة”. جماعة الكو كلوكس كلان في الولايات المتّحدة كانت تَستخدِم هذا الوصف، قبل أن يَظهر رجلٌ أسود في البيت الأبيض.

الـ “لوموند ديبلوماتيك” الفرنسيّة رأت أنّ القوى العظمى مُصابة بتلك الكوليرا التي تُدعى Aminus dominant، أي “روح الهَيْمَنة”، التي تختزلها، تاريخيّاً، ولاهوتيّاً، وحتّى فلسفيّاً، واقعةُ قتلِ قايين لهابيل.

كما لو أنّنا أمام أحد فصول التوراة، وحيث يُفترض إزالة الآخر، “ليتكرَّس المكانُ لنا وحدنا”. في هذه الحال ماذا تعني العَوْلَمةُ، بالحدود، والآفاق، المفتوحة؟ تقول توني موريسون “حَدِّقوا مليّاً بما يحدث على الخشبة. ذئابٌ تتربّص بعضها ببعض، وتأكل بعضها بعضاً. استعادةٌ هائلة لنظريّة توماس هوبز الإنسان ذئب الإنسان، ثمّ يرغموننا على إقامة قدّاس الأحد لهذه الذئاب”.

بلْقَنَة القارّة

لا أحد من البحّاثة والمُعلِّقين الدوليّين يتوقَّع الاستقرارَ في القارّة السمراء. كلامٌ عن “بَلْقَنَة السودان” في السياق الخاصّ ببَلْقَنَة القارّة بأسرها (باستثناء الشمال الأفريقي).

ماذا يفعل عبد الفتّاح البرهان ومحمّد حمدان دقلو، سوى أنّهما يَرسمان، بالجثث وبشلّالات الدمّ، الدولَ التي ستَنشأ على أرض السودان، ودائماً بأيدي أولئك العسكريّين الذين هُم بمُواصفاتِ وحيد القَرن، كما كان المارتينيكيّ إيميه سيزير يَصِفُ أصحابَ الخوذات “التي ما الجدوى منها، أيّها السادة، حين توضَع على رؤوسٍ فارغة؟”.

تراها رؤوساً بشريّة حقّاً حين يُهدِّد العسكريّون في النيجر (وإن كانوا يحملون شعارَ طرْد فرنسا من بلادهم) بتعليق رأس محمّد مازوم على باب القصر إذا ما حاولتْ حكوماتٌ إفريقيّة التدخُّلَ العسكري لإعادة الحُكم إلى المدنيّين. دائماً الجنرالات، وحتّى أصحاب الرّتب الدنيا وراء الباب. كيف سيتعامل الأميركيّون مع الروس والصينيّين إذا ما عُدنا إلى كلام الباحث الأميركي ليسلي غليب بأنّ القارّة ستكون أرض الحرائق الكبرى في العقود المُقبلة؟

المُثير قوله “كأميركيّين نُنفق مئات المليارات، ونكرِّس آلاف الأدمغة، من أجل البحث عن المستقبل، وعن الحياة، على سطح المرّيخ، أو على سطح أيِّ كوكبٍ آخر. هذا قد يكون رهاناً عبثيّاً إذا ما أخذنا بالاعتبار أنّنا جزءٌ ضئيل، وضئيل جدّاً، من ذلك الكون اللّامتناهي”.

سَأل “أَليس من الأفضل توجيه كلّ تلك الإمكانات لغزو كوكبٍ على مقربةٍ منّا والذي يتحدّر منه الكثير من مواطنينا؟”.

قَرن العذاب

إذاً، قرنٌ من العذاب. هذا ما يَستنتجه المفكِّر الكاميروني آشيل ميمبي الذي أبدى خشيته، في محاضرةٍ له في جامعةٍ باريسيّة، من أن يؤدّي صراع الإمبراطوريّات إلى “تعرية هياكلنا العظميّة”، مُعرباً عن صدمته “لأنّ تراثنا الذي لا بدّ أنّه أثَّر في الفلسفات “التأسيسيّة” هو في الطريق إلى الاضمحلال”. السبب “أنّ مَن يتولّون إدارة حكوماتنا من الخارج، ولو بخيوطِ العنكبوت، يريدون منّا أن نكون عراةً حتّى من أرواحنا”.

قادةٌ من دون أُفق. مسلسل الانقلابات العسكريّة لم يتوقَّف (كموضة مُستهلَكة). ماذا إذا علمنا أنّه منذ بداية استقلال بلدان القارّة وَقع 188 انقلاباً عسكريّاً. في السنتَيْن الأخيرتَيْن حدثتْ 7 انقلابات عسكريّة في غرب ووسط أفريقيا (انقلابان في بوركينا فاسو خلال عامٍ واحد). كذلك انقلابات في مالي، وتشاد، وغينيا، كما في النيجر الذي اشتهر بانقلاباته الدوريّة، ثمّ الغابون، من دون أن تتشكَّل آليّاتٌ إقليميّة، أو على مستوى القارّة، لحماية الحكومات المدنيّة، وإن كانت غالبيّة هذه الحكومات تتّصف بـ “الفساد العظيم” أو بالتبعيّة.

ماذا يُمكن للاتّحاد الأفريقي أن يفعل، كذلك الحال مع “المجموعة الاقتصاديّة لغرب أفريقيا إكواس “(ECOWAS)”، التي تضمّ 15 دولة. ولطالما حاولت، وبدفعٍ من فرنسا، تشكيلَ قوّة عسكريّة موحَّدة لإزالة الحُكم العسكري في النيجر. هذه المحاولة التي عارَضها الروس والصينيّون، إضافةً إلى بلدانٍ أفريقيّة لا تريد الوجود الفرنسي على أراضيها، وبذريعة عدم تحويل بلدٍ من منجمٍ لليورانيوم إلى منجمٍ للجثث. لكنّ الفرنسيّين يعتقدون أنّ خروجهم من النيجر يعني خروجهم من القارّة …

التأرجُح بين الغزو العسكري، بتغطيةٍ من الإليزيه، هو ما تحذّر منه الصحف الفرنسيّة “لسنا الأميركيّين والروس الذين يتقنون اللّعب والموت في المستنقعات”، والحصار الذي يكرِّس الستاتيكو. مَن يكترث بالضحايا؟ لا أحد.

على خطٍّ موازٍ، أَخفقت “الإيغاد” (الهيئة الحكوميّة الدوليّة المَعنيّة بالتنمية في شرق أفريقيا التي تضمّ 8 دول) في حمْلِ البرهان وحميدتي على الجلوس إلى طاولة المُفاوضات، بعدما أَظهرت مُحادثات جدّة ارتباط الاثنَيْن بأجنداتٍ خارجيّة، وبسيناريواتٍ خارجيّة، حتّى أنّ خبراءً في الشؤون الأفريقيّة لاحَظوا أنّ التطوُّرات الميدانيّة أَفلتت من الرجلَيْن.

لم تَعُد هناك بريطانيا وفرنسا لتَرسما الخرائط بالشوكة والسكّين. فرانز فانون، صاحب “معذَّبو الأرض“، وَصَفَ ذلك بـ “تفخيخ التاريخ” لتفجيره ساعة تقتضي المصالح ذلك. الآن، الجنرالات، بثقافةِ قطّاع الطُّرق، يقودون بلادهم إمّا إلى الموت السريري أو إلى التفكُّك. ألَيس هذا ما فعله عُمر حسن البشير، بعصا الماريشال (وكانت أقرب إلى عصا الحواة) حين وقَّع على انفصال الجنوب بثرواته النفطيّة والمعدنيّة الهائلة؟

لنتذكَّر أنّ السودان عضو في جامعة الدولة العربيّة ـ ولطالما أَنتج الأدمغةَ الفذّة ـ ولكنْ متى كان لهذه المنظّمة التي أُنشئت منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن أن تحلّ مشكلات العرب التي يبدو أنّها ما زالت تَستوطن عظامَنا منذ أيّام داعس والغبراء؟

السودان أمام احتمالاتٍ مروّعة، كذلك النيجر. نعود إلى الشاعر السنغالي دياخاتي “قد يكون علينا أن نطلي وجوهنا باللَّون الأبيض كي يستضيفنا الزّمن، وليس التاريخ فقط، ولكنْ مَن يستطيع أن يزيل من ظهورنا آثارَ الفحم الحجريّ؟”.

لكأنّه يَستعيد قولَ مواطنه، ورئيسه الراحل ليوبولد سيدار سنغور، “حين كنتُ أتجوَّل ليلاً في شوارع باريس، كنتُ أشعر أنّ وجوهَنا، كزنوج، تُضيء قناديل المدينة”. البانوراما الإغريقيّة في أفريقيا. أميركيّون وروس وصينيّون على صهوةِ أحصنة مجنونة. من بعيد تتناهى إلينا … قهقهات الجحيم!!

***

*كاتب ومُحلِّل سياسي من لبنان

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *