“ودارت طواحين الزمان  بقصصها وحكاياتها” جديد سميرة مدوّر عن دار نلسن

Views: 437

 صدر عن دار نلسن في بيروت كتاب “ودارت طواحين الزمان  بقصصها وحكاياتها” للكاتبة سميرة مدوّر  صدّرته بالإهداء التالي: 

 لوالدي الغالي عبدالله وأمي الحبيبة جيهان…

غبتما عن أنظاري وأسماعي إلى عالمكما الجديد، وبقيتما في بحور خيالي ووجداني ونبضات أوتار فؤادي في حنايا الفكر ونبضات الفؤاد…

كنتما نوراً وضياءً في طفولتي ومدارج شبابي بما حملته من الذكريات من ركن العائلة السعيدة…

وكنتما خير رائدين لي والمفضل الأمثل في هواية القراءة والكتابة منذ وعيت جمع الأحرف والكلمات، واسترسالي برحلات الفكر والإلهام.

 في ما يلي مقدّمة الكتاب ومختارات منه.

 

 

مقدمة

         قصص وحكايات ما سمعت وتأملت وعايشت. فوجدت نفسي أعكسها بمداد صديقي القلم على صفحاتي البيضاء، كمرآة مصقولة بواقعها وحقيقتها… بدمعها وابتسامتها… بفشلها ونجاحها… بصدقها ومودتها وكذبها وغدرها. مدونة باليوم والشهر والسنة. قد لا تكون هناك تشابهاً بالبعض منها ولكنها صور حيّة نابعة مما يدور في هنيهات العمر، وامتداد سنواته وحتى مديدة للبعض، من الذين سمعت حكاياتهم، بهمساتهم وآهات البعض منهم.

        وكانت لي باقة من الفكر والإلهام لهوايتي الكتابة.

جمعتها من مفكراتي اليومية عبر سنوات لمجموعة قصصية. اخترت لها عنواناً “ودارت طواحين الزمان بقصصها وحكاياتها” تهمس أجنحتها وهي تدور بمركبة الزمان بقصصه من تلك القصص والحكايات التي التقطتها ذاكرتي بجلسات ولقاءات جمعتني مع أبطالها.

وكل الشكر لهم للثقة التي أغنوني بها وهمسوا ما يدور بفكرهم وأفئدتهم وأحاسيسهم ومشاعرهم بمسيرة الحياة. بفئات أعمارهم منذ طفولتهم وشبابهم وسنوات مسؤولياتهم وحتى استراحة مديد عمرهم.

من الأهل والأصدقاء، ومن عايشتهم بطبيعة عملي الاجتماعي وكانوا لي النواة لهذه المجموعة القصصية من واقع الحياة.

هي، اليوم، المولود الأول للفكر والإلهام لهواية الكتابة والهمس على صفحاتي البيضاء آملة أن تكون بمتناول أيديهم ومحطّ أنظارهم وبحر وغمار فكرهم وذاكرتهم.

ولمن يهوى رفقة الكتاب والقلم والهمس على الورق.

هي باكورة إنتاجي والأمل أن أستمر برسالة الفكر والإلهام ما دمت أتمتع بصحة العقل وعافية الجسد.

من قصص الحياة في بحر هذا الكون

 صقيع الوحدة والشيخوخة

الجمعة 28/1/2000

اليوم، ودبيب عمرها المديد يتسلل حثيثاً في أوصال عروقها التي جفّت، وجفّت في مسار عمرها الطويل، وتُركت في شاطئ الانتظار…

جناحاها هبطا باستسلام. تساقطت ريشاته وصعب عليها أن تنهض بهما… تنوي الطيران ثانية كعادتها منذ أمد بعيد. جناحان ساكنان متجمدان من صقيع عواصف الزمان. صقيع شيخوخة مثلجة، تشل كل حركة عاشتها بالماضي… شبه جسد تنبض فيه بقايا الحياة على شفير النهاية. هنيهات… ساعات… أيام، لا تدري بانتظار نفير سفينة  ترسو في مرساها وملاك عالم الغيب يأتي ملبياً ويسير بخطى متباطئة ليحضن هذه الروح ويمسك بها ويحملها إلى غياهب تلك السفينة، حيث ما دخلها راحل وعاد وروى ما رأى.  رحلوا جميعاً في سفرهم الطويل والطويل بلا أمل في العودة.

هي اليوم، وجسدها في صقيع يشل جناحيها التي طالما رفرفرت، ورفرفت وحلقت بهما عالياً في سماء المجد والشهرة والمال وجمال الحياة.

هي اليوم شبه مشلولة بدون حراك. في آخر نبضات لساعة زمان عمرها. اليوم وحيدة، وحيدة بعيداً عن الأضواء والأمجاد، اليوم صقيع الوحدة والشيخوخة يشل حتى حركة جسدها بالتنقل في غرف البيت.

الجميع  تفرقوا، نالوا منها الكثير ونهلوا مما قدمت لهم، ودخلوا في معترك الحياة. وتركوها في كهف يعمّه صقيع شتاء العمر.

هنيهات قد تمتد إلى ساعات وسفينة العبور على أهبة الاستعداد وقد أرست مراسيها في مرفأ الانتظار.

كم رست ورست، وحضنت الكثيرين وحملتهم في رحلاتها المجهولة إلى الأفق البعيد.

وتعود من جديد في ذهابها وإيابها كلما خف قنديل ضياء الحياة يأتي ملاك تنزل سلالمها ويلف الكثيرين يحضنهم بجناحيه. حان ميعاد رحلتهم في أعمارهم المختلفة، طفلاً في ملاعب طفولته، أو شاباً في ريعان أحلامه وفتوّته، أو شيخاً وقد طال مسار عمره المديد في شيخوخة على شاطئ الانتظار.

كم، وكم حطّ هذا الملاك سابقاً وحضن الابن والحفيد، والشقيق والصديق ورفيق العمر.

كم بكت مرارة الفراق وكم قست الأيام، وقست كلما هتفوا بخبر رحيل أحد الأحباب. كل تجعيدة في تقاسيم هذا الوجه خبر قصة وحكاية لغياب وفراق الأحباب.

اليوم، جاءت ساعة الوعد التي طالما انتظرتها وانتظرتها مع رحلات الأوجاع وحشرجة الأنفاس بالأمراض التي لم ترحمها، نادت، ونادت… ووصلت.

اليوم، سفينة العبور قريبة، وقريبة على أهبّة الانتظار. الملاك يقترب ويقترب. يمسك بالجسد المتعب والمثقل، يلفه صقيع شيخوخة الوحدة، الوحدة والأوجاع. وغمر الملاك هذه الروح، وحملها بجناحيه، وغاب بها في حنايا تلك السفينة التي تنادي بنفيرها. وهذه الأم الحنون في آخر رمق لها وهي على أهبة الاستعداد للسفر، والسفر الطويل  للأفق البعيد إلى عالمها المجهول!؟

افتقدت الكثيرين من الذين أحبتهم وأغدقت بالعطاء لهم، اليوم تفرقوا، وتفرقوا في معترك الحياة وصراعاتها ومباهجها. وتناسوها؟ أم تراهم نسوها وغارت ذكراها في بحر نسيانهم؟

الآن ساعة الحق تدعوها، لعلها عاشت في حلم، اليوم ترحل، وترحل مسافرة إلى عالم الحقيقة. إلى عالم روحي أبدي، سرمدي… بعيداً عن ماديات الحياة وصراعاتها وأنانياتها وجشعها وغدرها.

… وغاب الأحباب ولم يتركوا لها سوى الذكريات

(من قصص الحرب العبثية)

السبت 29/1/2000

أعادتني إطلالة هذا الصباح لذكرى سيدة عرفتها في عملي الاجتماعي. وطالما زرتها زيارات مفاجئة، أتسقّط أخبارها في وحدتها وصمتها الرهيب في بيتها على خط التماس في رأس النبع.

كانت تسعد وتفرح. تضمّني لصدرها وتمطرني بالقبلات والدعاء للزوج والأولاد، ونادراً ما أصابني من دعائها ولو الشيء القليل. كنت أبتسم وأنا اعتدت على سماع الشكر والدعاء كلما مددت يد المساعدة بطبيعة عملي الاجتماعي.

كنت أجلس بجانبها أتمتع بلذة فنجان قهوتها، وأنصت إلى تداعياتها مع أخبار أيام وحدتها وذكرياتها التي تتأنى، وتتأنى بالتحدث لي عنها. مع الزوج الراحل وولدين اختارت الحرب الكبير منهما في عمليات الخطف والتصفيات. هاجر الصغير في قوافل الهجرة لغياب شقيقه بغير عودة، بعدما أصيب بالانهيار.

امتدت يد مجهولة لتنتشله من ضياعه وتضمه إلى قوافل الشباب في رحلات الهجرة، لكن بدون عودة، كانت تأتيها أخباره بأزمنة متقطعة وتتباعد كلما علت غبار السنين أيام عمرها المديد.

اليوم، تعيش وحيدة في سكون وصمت. تعيش مع ذكريات العائلة السعيدة وأحلامها ما قبل الحرب العبثية، مع الزوج المحب المؤمن يحمل لها كل أول شهر راتبه المتواضع، يقدم الأمانة لست الحبايب، كما كان يهمس لها دائماً ويحاول طوال الشهر العمل في ساعات إضافية ليفاجئها بما جمعت يداه من أتعاب ساعات الصباح الباكر قبل الدوام الرسمي وما بعد الظهر حيث يلبي بهمة ونشاط كل ما يأمره به رب العمل وما يغمره به دائماً من مكافآت لنشاطه وإخلاصه، كان سعيداً بعمله المتواضع ومع أسرته، هانئاً بعيشه بقناعة وبساطة.

يمضي أمسياته مع زوجته، المرأة الأولى التي عرفها والأخيرة في حياته، كم همس لها في الليالي الدافئة. “أنتِ الأولى وستكونين الأخيرة في حياتي يا أم البنين”. عبارات وهمسات كان يهمسها لها في ركنهما الهادئ على مرح وفرح زياد وسمير في طفولتهما البريئة.

كان الحب والأمان والسعادة يلف بيتهما المتواضع، وكان القدر يخبئ لهما مفاجأة ليست في الحسبان. خُطف ولدهما الشاب زياد مع موجات الخطف المتبادل والتصفيات. وغاب في صمت مجهول، وبقي الوالدان على أمل عودته… سنة… سنتين وثلاث…

وبدأ المرض واليأس يدبا حثيثاً في أوصال الوالد. ساعات الانتظار في صمتها الرهيب. خطفت إمارات السعادة من زوايا هذا البيت، خبت خيالات الفرح على جدرانه وفي كل زاوية. إشاعة من هنا وإشاعات من هناك. أنه ما زال ينبض حياة في ظلمات أقبية الميليشات، أو في سجون التعذيب خارج الحدود.

وطال الانتظار ولفظ الزوج أنفاسه عل صدرها وهو يجهش بالبكاء من أنين الأوجاع وألم الحنين لفراق الولد الحبيب. كان يشعر من صميم أحاسيسه أنه لن يراه سوى في العالم الآخر.

غاب رفيق عمرها. وغاب ولدها الباقي لها من هذه الحرب القذرة، غاب في حالات الانهيار والضياع.

كانا شقيقين أقربين إلى التوأم في عيشهما المشترك في ملاعب طفولتهما السعيدة وفي دراستهما،  فارق العمر بينهما سنة. ترعرعا معاً، وأخذا من بعضهما البعض الكثير من الهوايات والأحلام، طالما رسماها معاً في الليالي الدافئة بجانبها وبجانب والدهما المتعب حتى في سباته العميق بعد نهار من الجهد في العمل، زفيره وشهيقه طغت كثيراً على سهراتهم في غرفة الجلوس المتواضعة، حيث اعتادت الأسرة أن تركن في زاويتها الهادئة، كما كان يهمس لها به شريك الحياة في الصيف أمام المروحة الكهربائية الصغيرة، وفي الشتاء حيث موقد النار يتأجج بجمراته الحمراء وفنجان القهوة يعبق برائحة الهال في يدها يتلذذ برشفه بتأنٍ وعبارات الثناء والدعاء للأنامل واليدين التي أعدته، رغم فنجان القهوة مساءً، كان التعب يحط رحاله على جسده فيستغرق بسباته العميق مع زفير الإجهاد والشهيق تردد صداه أجواء الغرفة.

كانت هانئة بعيشها في عش الزوجية الصغير مع الزوج المؤمن الهادئ الذي أحاطها بالحب والحنان وما حملته كفاه من أتعاب الحياة.

وولدان مطيعان هادئان في طفولتهما البريئة السعيدة، أغنيا أرجاء البيت المتواضع زقزقة وسعادة.

خطفت الحرب ولدها الكبير  ودكت إسفيناً في الركن الهادئ السعيد، ومات شريك الحياة بعد طول انتظار عودة الحبيب الغائب، علّ عمليات الخطف المتبادل يكون بديلاً لمخطوف آخر، ويعود الابن الحبيب إلى ركنه السعيد بدفء الأسرة الهانئة ببساطة عيشها والحب الذي يجمعها.

… وطال الانتظار. كثرت الوعود ومواعيد العودة للابن المنتظر من أقبية الضفة الثانية من خطوط التماس.

مات حبيب العمر من الأوجاع التي امتصت الحياة من أوصاله ثم فشلت كل محاولات العلاج وسقط كل أمل بالشفاء. مات على صدرها بحشرجة بكاء ونداء لولده الغائب في ظلمات أقبية التعذيب، لفظ أنفاسه مع آخر شهقة لما جاش في أعماقه ليهمد جثة بلا روح بين ذراعيها هامساً بنداء اللقاء، اللقاء مع الغائب ولدي، حبيبي زياد… زياد… وماتت الأحرف والنداءات مع آخر نبضة حياة في فؤاده.

وغاص ولدها سمير في غياهب الانهيار والضياع، تاركاً المدرسة والكتاب الذي تعلق بهما ورسم أجمل الأحلام في مستقبل  باهر مع شقيقه زياد المهندس المنتظر وهو الطبيب المداوي.

كم من جلسات في الأمسيات كان زياد يتفنن بتصميمات جميلة، وطالما همس لوالديه. هنا سيكون لكما الركن الهادئ الأنيق، وفي الحديقة بركة ماء تسبح فيها سمكات صغيرة بألوانها وأنواعها.. ويبتسم الوالدان ويربت الأب على كتفيه، الله يسعدني بسعادتكما ونجاحكما. وتضمه الأم إلى صدرها وتلثم خصلات شعره الذهبية.

يأتي سمير ويأخذ مكانه المعتاد بجانبها. “وأنا يا ماما سأكون طبيباً لامعاً سأنجح وأعمل جاهداً لمساعدة المرضى الفقراء، سأعالجهم مجاناً.

تدمع عيون الوالدين. تدمع من الفرح والسعادة الهانئة التي تغمرهما مع ولديهما.

سمير تخلى عن كل حلم همسه لوالديه ولشقيقه زياد. ماتت أحلامه في نوبات الضياع واليأس بانتظار شقيقه الغائب. الغائب على أمل العودة.

طالت ليالي الانتظار، وساعات اليأس أخذت مجراها في منعطفات أيامه. كلما حدّد موعداً جديداً للعودة، ويبقى الموعد سراب، وأضغاث أحلام، وإشاعة ورشوة كاذبة لوعد غادر مخادع لتلك الميليشيات التي، بالفوضى والعنف والرعب والضياع قضت على أعلام كثيرين من الأبرياء وقعوا تحت مخالبهم وفتك سلاحهم وصراعاتهم الدامية تحت لواء رؤسائهم.

غاص سمير في انهياره وبكائه وضياعه على صدر والدته في نوبات اليأس وعذاب الانتظار، وغاص أكثر يوم وقف صامتاً والمفاجأة ألجمت لسانه وجفت الدموع في عينيه وهو يرى والده في نزاعه الأخير جثة هامدة وحشرجة النداء تنفث آخر رمقه، “زياد… زياد… موعد اللقاء”. وتراه كان على موعد معه في عالم المجهول في غياهب الموت.

ازداد صمته ولطالما أصيب برحلات بشبه غيبوبة متأملاً في صور شقيقه زياد المخطوف المنتشرة في أرجاء غرفته وصورة والده الراحل. صور، طالما وزعها على السرير وفي أرجاء غرفته يتأملها في صمت.

بقي في ذهوله وهذيانه، والأم في عذابها ودموعها اليائسة، وولدها سمير شبه دائم في غرفته وعزلته.

وكان لا بد من يد كريمة تمتد لتمسك بالبقية الباقية من هذا الجسد الفتي وقد دبّ فيه الهزال، وتنتشله من عذابه وضياعه وتضمه إلى قوافل الهجرة، وغاب عنها.

ووجدت نفسها في وحدة يلفها صمت أشبه بصمت القبور. غابت ابتسامة الفرح والسعادة عن وجهها. انقطعت أخبار ولدها سمير في بلاد الهجرة أسابيع وأشهر، وأتاها بعد طول انتظار خبر استقراره ومباشرة العمل في كندا. وطالت الأيام والأشهر والسنين… وخبر عودة زياد أشبه بالمستحيل. وانضمت إلى قافلة أمهات المخطوفين. استجابت لدعوات مرة وثانية وثالثة.. ثم انزوت في ركن الذكريات واليأس. مات الأمل أيضلً بعودته إليها.

كان الأمل يكبر ويكبر كلما أتتها أخبار سمير من بلاد الغربة، حدّثها برسائل عن أول خطواته في معترك الحياة. وتلت سنة بعد سنة والأخبار تتجدد، وجاء فيها دعوته لها بعد أن جمع المال اللازم لسفرها لحضور حفل زفافه من الفتاة التي اختارها أميرة قلبه وشريكة حياته.

لبّت دعوته وشاركته الفرحة الغاصة بدموع الذكريات.. حفلة متواضعة سادتها البساطة كما عاشتها بذكرياتها الهانئة. اختار عروساً من عائلة لبنانية مهاجرة، متشابهان بالأحلام والآمال، باركتهما وغمرتهما والدموع الساخنة تنهمر وتروي. شفاه مرتعشة طالما تمتعت بنداءات السعادة الهانئة كما كان يرددها دائماً شريك حياتها في بيت الذكريات.

كانت أحلام ذكريات الأمس تلاحقها وبيت السعادة يناديها وقد افتقدت لها أرجاؤه وهو البقية الباقية من تعب شريك الحياة الراحل.

وتمتعت بلقاء ابنها سمير وعروسه، تركتهما في أحضان عش الزوجية مطمئنة بحسن اختياره لبساطة عيشها وحياتها.

وألحّت بالعودة إلى ركن الذكريات، رغم رجاء ولدها وعروسه بالعيش معهما والبقاء في بلاد الاغتراب.

كان سحر يشدها إلى ركن الذكريات… أصرّت بالعودة، لعل الأمل يطل ثانية بعودة زياد!

عادت لركنها ودخلته بعد طول غياب. عادت تنفض عنه الغبار وتحاول أن تبعث الحياة في كل حناياه، صور الأحباء منتشرة هنا وهناك، تمسكها كل صباح وتلثمها بقبلاتها، كم تساقطت دموع ساخنة تروي الحنين والصلاة للأحلام السعيدة الراحلة.

وصورة سمير مع عروسه في حفلة الزفاف المتواضعة في زاوية أمام سريره وكتبه وألعابه… ما زالت متناثرة هنا وهناك، حتى ثيابه. تركت في خبايا خزانته. والسرير الآخر لزياد، صورته الكبيرة تنام على وسادته بانتظار عودته. طال انتظاره سنوات وسنوات والأمل ما زال في قلبها وحلمها. تصلي وتناديه من ابتهال بنداء من صميم قلبها ليعود إليها.

صورة زفافها مع شريك الحياة سعيدة بثوبها البسيط، وذراع حبيب عمرها تحيط خصرها النحيل، ما زالت في مكانها منذ شهر عسلها الدائم الذي امتد سنوات قبل أن تأخذ يد الغدر أمرها بخطف ولدها زياد ورحيل حبيب عمرها بعد ثلاث سنوات من طول الانتظار بعودته، والأمل اليائس الذي ترك بصماته في خلايا جسده ليحمله ملاك الموت بىسفينة العبور إلى عالم المجهول.

اليوم، تضم إلى ركن الذكريات صور الحفيدين سعيد ونعمت، أتتها رسائل ولدها سمير وأخباره، بكنف العائلة السعيدة في ركنها الهادئ، يستعيد ركنه العائلي المفقود في طفولته السعيدة، يحاول أن يعيد ذكريات الماضي بركنه العائلي مع زوجته المحبة الوفية والصغيران سعيد ونعمت.

صور سعيد الصغير، يذكرها بجده سعيد شريك الحياة، وصور نعمت التي تحمل اسمها موزعة في غرفة الصالون وفي غرفة والدهما سمير أمام سريره بجانب صورة زفافه مع عروسه.

اليوم، وحيدة مع سكون وصمت يلف جدران البيت. بدأت الشيخوخة تأخذ طريقها بسنواتها على أبواب السبعين، الشيب يغطي رأسها، والتجاعيد ترسم حكايات وروايات في عمرها المديد، تروي سعادتها المفقودة، طالت أيامها وامتدت ذكرياتها تروي أيام الخوف والضياع والأمل والرجاء بعودة ولدها زياد.

اليوم، كل شيء ينطق ويتكلم ويروي رغم الصمت الذي يلف الغرف، السكون يعم أرجاء البيت، ولكن كل صورة تروي وتهمس بأكثر من حكاية وكل قطعة من هذا الأثاث تروي ذكريات منذ أول ليلة أمضتها في هذا البيت بين ذراعي حبيب العمر سعيد، وفي ليالي الحمل والولادة والرعاية، نثرتها من ثدييها وهي تضم طفليها وتعطيهما اكسير الحياة بأمومتها. كل قطعة في هذا البيت يعيدها إلى بحر الذكريات طوال ساعات نهارها مع أجمل وأسعد ايامها ولياليها. وتعود وتقلب صفحاتها لتغوص في أتون ذكريات فقدان الأحباء.

وتمضي الأيام وتمتد السنوات، وما زالت على الشاطئ تنتظر سفينة العبور إلى عالم المجهول.

تتدثر في صقيع شيخوختها برداء الذكريات الحلوة. أريجها يتسلل إلى أعماق صدرها وروحها بالذكريات الماضية. طالما همستها لي وهي ترشف فنجان قهوتها، وأنا أصغي إليها.

“ترى، هل بدأت أخطو نحو الخرف والضياع، كثيراً ما أكسر هذا السكون والصمت بأحاديث وهمسات، أمسك بتلك الصورة وأغيب معها وأناجيها مع بحر من ذكرياتها، وأعيدها وأمسك ثانية وأهمس بصوت عالٍ وكأنها تتجسد بالحياة أمام ناظري، وأتنقل في غرف الذكريات. غرفة زياد وسمير، سريرهما ما زالا كما كانا في طفولتهما ومطلع شبابهما، صورهما، كتبهما، هواياتهما، ما زالت في ركن الغرفة وانضمت إليها في زاوية سمير صورة زفافه مع عروسه وصور أولاده منذ ولادتهما، تأتيني كل إطلالة عام جديد فأوزعها بجانب ما سبقها.

أفتح الخزائن، أتأمل الثياب. فيها أشياؤهما ما زالت في مكانها منذ سنين، أفتح الأدراج هي نفسها، حتى الأشياء البسيطة. أفتح المكاتب الصغيرة هي نفسها كما تركتها أيديهما قبل الرحيل كل شيء باقٍ كما كان عليه.

أتنقل إلى غرفتي حيث الركن الهادئ مع حبيب العمر، هنا عرفت سعادة الحب الحقيقي في هذا السرير عرفت طعم الحب وعذريته وعفويته.

هنا كنت أمضي الصباح الباكر معه مع فنجان قهوته الساخنة، كان يصر أن يحضرها بنفسه بعد صلاة الصبح، ونتناولها معاً في ركننا الهادئ السعيد بنعمة البساطة والقناعة والحب الصادق، عرفت منه أسمى معاني الإخلاص والوفاء والإيمان الذي جمعنا حتى في الصلاة الواحدة مع الأولاد، اعتدناها واعتاد أولادنا مشاركتنا بها، وما أجملها في الأعياد والمناسبات بأحلى مشاعرها.

كم أركن لهذه الغرفة وكم أستغرق في صمتي وصلاتي وكم كسرت الصمت وتحادثت مع كل قطعة تذكّرني بالماضي البعيد. الصور، الملابس، الكتب، سجادة الصلاة، عباءة سعيد ومشايته وطاقيته البيضاء، أشياء كثيرة تهمس لي بالماضي… أسائلها بصوت عالٍ لأكسر السكون والصمت. أسائلها لتعيدني إلى ذكرياتي الحلوة في الأمس البعيد.

تعود وتبتسم متسائلة: ترى؟ هل بدأ الخرف بإماراته، وضياع الشيخوخة تأخذ طريقها إلى ذرّات كياني وعقلي؟

أبتسم وأبتسم، مع ساعة استغراق، أسمع دون كلل أو ملل ما تروي، كم جذبتني هذه المرأة من تداعيات ذكرياتها ودموعها تتساقط جافة كجفاف السنين التي تركت آثارها على التجاعيد في الوجه وخصلات الشعر البيضاء، المتمردة خارج جدائلها الملتفة خلف رأسها. السنين تركت بصماتها في صفحات الأنامل، والعروق ظهرت تضاريسها على يديها.

وتعود تهمس متسائلة مبتسمة ابتسامة تجمع ذكريات الأمس البعيد بصفائها وسعادتها، وابتسامة مستسلمة لوحدة الشيخوخة مع فراق الأحبة والعيش على شاطئ الانتظار في بحر من الذكريات حيث الأمواج تداعب الحنين في الأعماق في ركنها ووحدتها.

وتعود تهمس: هل دب الخرف؟ هل بدأت علامات الشيخوخة وخرفها تمسك بالبقية الباقية من عمري؟

وأبادلها الابتسامة والهمس، أبادلها تساؤلاتها. إنك أجمل عنوان للشيخوخة بهدوئك وبساطتك وجمالك، إنك أجمل وأسمى أمثولة لنا في الحياة.

لا تدعي الصمت الرهيب يلف أيامك. لا تدعي اليأس المرير يقتات من عذاباتك. خاطبيها واكسري جدار الصمت الرهيب، اكسريه دون خوف بصوت عالٍ. ردّدي كالأمس. ردّدي واستعيدي كل نبضة سعيدة من ذكريات الأمس البعيد.

اكسري جدار الصمت، وهو أشبه بصمت القبور، ازرعي نبضة الحياة من جديد في أرجاء بيت السعادة. ازرعي الأمل ولو في شاطئ الانتظار، وارسمي أجمل الصور والخيالات وترنمي بأجمل الألحان للغائبين في بلاد الاغتراب وللراحلين في عالم المجهول، لا بد يوماً من اللقاء، واللقاء الأبدي، يوم تحط سفينة العبور مرساها وتطلق نفيرها ويأتيك ملاك الرحمة يحضن جسدك المثقل بالأعوام المديدة ويحملك بسلام وأمان إلى عالم جديد حيث لقاء الأحباء، لقاء أبدي سرمدي…

لا تصمتي، لا تتركي السكون يصمت كصمت القبور، ارفعي الصوت عالياً، غنّي، ورتّلي وصلّي بصوت عالٍ، ناجي الأحباء كالأمس البعيد في ركنك السعيد.

لا خوف من خرف الشيخوخة، ولا ضياعها، أنت اميرة في ركن الذكريات، أميرة في شيخوختك الهادئة، جميلة في شعرك الأبيض،  وعيناك المستسلمة في إيمان وحب.

اليوم! وأنت على شاطئ الانتظار سفينة العبور إلى عالم جديد حيث لقاء الأحبة.

ودعتها وهي متمسكة بي وتشدني إلى صدرها بدعاء اعتدت دائماً سماعه ينطلق من شفتيها المرتعشتين.

كم أشعر بالأمان والاطمئنان كلما شاركتها تلك الجلسات وسمعت همساتها وتداعياتها والتي تختمها دائماً بالدعاء من القلب للقلب ومن الروح للروح.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *