جورج يرق في “موت متواصل”*، القاعدة ليست أساساً والإبداع وليد الابتكار وغير المألوف

Views: 984

مارلين سعاده

#موت متواصل” لجورج يرق عنوان يجعلنا نتوقّع الكثير من الحزن والألم، إلّا أنّنا ونحن نقرأ نشعر، على خلاف ذلك، بالحياة، في كلّ زاوية وتفصيل، حياة بسيطة لا تعقيدات فيها وربّما لا مفاجآت سعيدة، ولكنّ شيئًا في طيّاتها يشدّنا لمعرفة المزيد، قد تكون بعض إيحاءات البطلة وما تورده من تعابير مكتنزة بالحكمة على بساطتها، كقولها: “مَن يعِش منتظرًا الموت يفقد الاستمتاع بالحياة. هذا الانتظار أصعب من الموت نفسه.” (ص 9) أو قولها: “أستعيد ماضيَّ متّكئة على عصا الأمل. بهذه العصا نفسها أضرب الخيبة تلو الخيبة. ولا أتوانى في بسطها لإنقاذ غريق…” (ص 14) أو ما تتضمّنه الرواية من مشاهد تبثّ الدفء في قلوبنا وتوقظ الحنين، ربّما لارتباطها بذكرياتٍ تخصّنا وتشابهها؛ وما تولّده لدينا من مشاعر ومواقف تجعلنا نستخلص العِبَر: “في قريتنا لا تمرُّ عواصف الثلج بهدوء. لكنّ الثلج في يومه الأوّل أجمل منظر قد تراه عين… يبقى المنظر بلا خدوش إلى أن يفيق الإنسان ويخرج من بيته”. (ص 12) كما أنّها تختصر بعددٍ قليلٍ من الصفحات، في الفصل المعنون “أمّي” (ص 15)، تقاليدَ وعقائد عاش عليها جيلٌ بكامله وأورثها لأجيال بعده.
من البداية، يعلن جورج يرق أنّ الشخصيّات والحوادث والأمكنة متعمّدة وغير مجرّدة من أيّ قصد، وبالتالي يتحمّل مسؤوليتها كاملة، وذلك على خلاف المتعارف عليه، حيث يتنصّل العديد من الكتّاب من مسؤوليّة تَطابق أيّ حدث أو اسم في رواياتهم مع واقع ما. وإذا بنا نقع، خلال السرد، على إشارات عديدة تؤكّد لنا أنّ بطلة الرواية من أسرة الكاتب، فاسم شقيقها هو اسم الكاتب نفسه، وهو مثله مهتمّ بالكتب: “قرب الصوفا لجهة الرأس، صناديق من الكتب العائدة إلى جورج” (ص 27) وكأنّ الكاتب ألقى مهمّة سرد سيرته الذاتيّة، أو ملامح من سيرته، وبطريقة غير مباشرة، على عاتق شقيقته، متكلّمًا بلسانها، ناقلًا من خلالها كلّ ما في ذاكرته من صور وما في رأسه من أفكار، تاركًا لها المبادرة بوصف ما يتخيّله هو، كما خلال حديثها عن غبار أعمدة السقف الخشبيّة، حيث تقول: “كان جورج يردّد أنّ النثار المتساقط ليس ناجمًا عن جوع الحشرات بل هو رماد أرواح الشجر التي كانتها الأعمدة.” (ص 27) وهو وصف يشي بشخصيّة مفكّر لديه خيال واسع وإحساس مرهف. وفي موضع آخر نقع على تفاصيل عن الحياة الشخصيّة للكاتب خلال وصف إحدى غرف البيت التي “مُلئت بأغراض لا تُستعمل دومًا، ما عدا طارة الصاج وجرّة غاز وصندوقين يحويان أعدادًا قديمة من مجلّتَي “الحوادث” و”الأسبوع العربيّ” جلبها جورج من بيت جارنا المحامي. وكثيرًا ما شوهد يقرأ أحدها. لا أدري هل هي قادته إلى العمل الصحافي لاحقًا أو أنّ ولعه بالكتابة حثّه على اقتنائها.” (ص 29) إذًا، شقيق البطلة صحافيّ مولع بالكتابة لذا صُنّفت هذه المجلات ضمن لائحة الأغراض التي “تُستعمل دومًا”. ويستمرّ في وضع الشواهد والإشارات والعلامات التي تشير إلى كونه معنيًّا بشكل مباشر في هذه الرواية: “…وأغنيات سرقنا كلماتها من دفتر يحتفظ به جورج من أيّام الكشّافة”. (ص 53) إلى أن يصل إلى قمّة التصريح وبشكل مباشر في الصفحة 150 حيث تخبرنا البطلة وهي تصف المباني التي تمرّ أمامها في طريق عودتها إلى القرية، بعد خضوعها لعمليّة جراحيّة في عينيها، قائلةً: “إلى اليمين “بناية المصروعة” المهجورة هي نفسها. طالما سمعت تريز تذكر أنّ جملة “جورج يرق مرّ من هنا” التي كتبها أخي بالدهان الأسود لم تزل في واجهة المبنى”. يذكّرنا تصريحه هذا بنمط المخرج البريطاني ألفريد هتشكوك الذي اشتهر بتوقيع كلّ عمل من أعماله من خلال ظهوره العابر والسريع في مشهد صغير من الفيلم الذي يُخرجه؟ أرادنا جورج يرق أن نعرفَ الحقيقة في البداية بمجهودنا الشخصيّ، ولم يصرّح بها إلّا بعد اجتيازنا القسم الأكبر من الرواية.
نتابع السرد على لسان جورجيت، الشخصيّة الأساسيّة في الرواية التي تنقل لنا كلّ تفصيل رغم كونها أصيبت بالعمى بسبب مرض السكّري الذي تعاني منه منذ طفولتها، وقد نقتنع بشكلٍ بديهيّ أنّ فقدانها بصرها هو سبب وجيه لاهتمامها وحرصها على وصف كلّ زاوية وتفصيل شاهدته قبل أن تخسر نعمة الرؤية. أيضًا أوردت خلال سردها الأحداثَ أسماءَ لامعة لشخصيّات مضت (أبو ملحم وأم ملحم، حكمت وهبي…)، وغيرها ما زال أصحابها حاضرين وبارزين كلٌّ في مجاله (ماغي فرح، عقل العويط، عبده وازن…) وأسماء مدن وقرى ومؤسّسات مألوفة لكثيرين منّا؛ وأحداثًا عشناها أو سمعنا عنها، لا سيّما خلال الحرب اللبنانيّة. فنتابع كلّ هذا السرد وكأنّنا نشاهد تلفزيون الواقع وهو ينقل لنا حياة جيلٍ بكامله، فالبيت الذي عاشت فيه هذه الصبيّة العمياء مماثل للعديد من البيوتات الفقيرة، بكلّ ما تحتوي عليه من أثاث وأغراض متواضعة ولكن أساسيّة لكلّ بيت.
قد يتبادر إلى ذهن القارئ التساؤل عن الفائدة المرجوّة من الاستماع إلى هذه التفاصيل، واعتبار ما تخبرنا به أمراً عاديًّا، فالأشياء التي تصفها قد تبدو مألوفة للعديد من الناس، يعرفونها ويحفظون شكلها، ولا بدّ رأوها سابقًا في بيوتهم أو بيوت جيرانهم، في طفولتهم أو في صباهم، ولا جديد فيها، إلّا أنّها تشكّل مشهديّة كاملة لزمن ما، وأسرة ما، وحقيقة ما، كانت قائمة يومًا، في زمن من الأزمنة، بكلّ تفاصيلها الدقيقة، ما يجعلها واقعًا مدوّنًا في ذاكرة الزمن، يعود إلى الوجود كلّما استعدنا الكلمات التي تدلّ عليه، فنراه حاضرًا أمامنا كما لو أنّه لم يغب يومًا؛ فهل تكون بطلة الرواية التي تنقل لنا الصورة كما هي، حقيقيّة؟ أم أنّها كذبة، خلقها خيال الكاتب وأتت التفاصيل لتدعمها وتمرّرها علينا، فنصدّق أنّها عاشت هنا يومًا، في حين أنّها لم توجد إلّا في ذهن كاتبها، وضعها ضمن المطارح التي أعاد بناءها خصّيصًا لها، وألبسها جلباب فكره وحمّلها هواجسه؟!
يبهرنا جورج يرق بـ”تقمّصه” المتقن لشخصيّة الفتاة العمياء، وتوليده الأفكار من فكرة تراودها، وتوصيفه شعورها وما تسبّبه لها مواقف الآخرين البسيطة من حزن وجراح لا تَحدّ من اندفاعها في سرد الأحداث بشكل متواتر؛ فشعور أهلها بالشفقة عليها يولّد لديها الشوق إلى شقيقها المُبعد، وابتعاده يشدّها إلى التراتيل والموسيقى، وهذه تدفعها بدورها إلى الحديث عن التحضيرات لقربانتها الأولى، وعن الفتى الموهوب الذي يعزف على البيانو والذي “يعمل والده في ستديو بعلبك حيث سجّلت السيدة فيروز أغانيها” (ص 74)، ثمّ تشير إلى الترانيم التي تحبّها بصوت فيروز، وتكرّر الاستماع إليها حتى يتلف الشريط… وهو ما يحثّها للحديث عن الأشياء المقدّسة كصور القدّيسين والقدّيسات، وضرورة الحفاظ عليها وإن كانت ممزّقة… وتتوالى الأفكار التي تتوالد من بعضها من دون أن تخرج عن طبيعة التفكير البشري، فلا تشذّ عنه بما لا يتطابق مع حقيقته، بل تعرض أفكارًا قد تكون راودت – أو يمكن أن تراود – كلّ من عاش أمورًا مشابهة لما يخبرنا به على لسان جورجيت.
تزخر رواية “موت متواصل” بالتأمّلات والتساؤلات الوجوديّة التي لا تخلو من الفلسفة رغم بساطتها، كقوله: “الأمل من أجمل نِعَم السماء. دواء يمنحنا الله إيّاه بلا ثمن. نعلّق حياتنا به، فإذا انطفأ فينا تصدّعت هذه الحياة وانهارت.” (ص 79)، أو قوله على لسان جورجيت أيضًا: “لماذا يخلق الله الناس ما داموا سيموتون؟” (ص 83) ثمّ في موضع آخر يبدو أكثر إيجابيّة، ما يعكس التخبّط في حياة البطلة ونفسها وتقلّبها بين اليأس والأمل، حيث يقول: “الله لا يترك أحدًا، يرسل إليه منقذًا في الوقت المناسب. لم تخلُ الدنيا من أصحاب القلوب الطيّبة وفاعلي الخير.” (ص 94).
يمكن لمن تسنّى له متابعة قصّة “الخروج من الفُقّاعة” للطبيب والكاتب المصري إبراهيم شلبي، أو كتابه “يوميّات امرأة انتصرت على السرطان”**، أن يلاحظ شبَهًا كبيرًا بين أسلوب شلبي في إصدارَيه المذكورين ويرق في روايته هذه، من ناحية اعتمادهما نمط التوعية الاجتماعيّة غير المباشرة، بتسليطهما الضوء على معاناة المريض النفسيّة التي تضاف إلى معاناته الجسديّة وتزيدها سوءًا، مستهدفَين برسالتهما هذه مجتمعًا كاملًا كان يعتبر المرض أمرًا يسيء إلى عائلة المريض وسمعتها، فيحرّم لفظ اسم المرض مكتفيًا بالإشارة إليه، إمّا خجلًا به أو خوفًا منه، ممّا يلقي على عاتق المريض أعباء تضاف إلى أعبائه، وتجعل واقعه صعبًا تتقاذفه أمواج الوجع وتصفعه رياح الألسنة المسلّطة عليه. وكما نقل لنا الطبيب المعالج لمرضى السرطان إبراهيم شلبي واقع مرضاه النفسي وسلوك أسرهم وجيرانهم وأقربائهم والمحيطين بهم، بهدف تصويب المسار ومعالجة الأجواء المسمومة التي تحيط بهم، نجد جورج يرق يسلّط الضوء من خلال بطلة روايته “موت متواصل” على مرضى السكّري، وما يواجهونه من مصاعب ناتجة عن نظرة المجتمع إليهم.
قد نُعيب على رواية “موت متواصل” خروجها عن قواعد الرواية لا سيّما تساهلها مع العقدة واجتيازها لها ببساطة قبل الوصول إلى النهاية، وعدم منح حدث الشفاء الحاصل في وسط الرواية الأهمّيّة التي يستحقّها، بل خلْق عقد أخرى صغيرة قد لا توازيه – في نظر القارئ – أهمّيّة. ولكن، من قال إنّ الإبداع يخضع للقواعد المتعارف عليها؟ أليس الأسلوب هو الكاتب؟ وقد فرض جورج يرق أسلوبه الخاصّ في عرض سيرة جورجيت التي توحي لنا أحداثها بأنّها جزءٌ من سيرته، وأخذنا في رحلة تبدو في اتّجاه واحد، فلا صعودَ مبالَغ فيه ولا هبوطَ مدوٍّ، وإنّما مجرّد أحداث متوالية، لا نقع فيها على ما يفجعنا، أو ما يحرّك غرائزنا، أو ما يولّد الخوف في نفوسنا، ففي كلّ ما نسمعه يهيمن شيء من الواقعيّة المألوفة، وشيء من القدسيّة؛ فهو يعرض أحداث حياة هذه الأخت بعيدًا عن الأهداف التجاريّة أو البحث عن النجوميّة وحصْد أكبر عدد من القراء، فالهدف منها إنسانيٌّ بحت… لذا يتجنّب في سرده الوقائع التطرّق إلى مواضيع تؤجّج الغرائز، أو تتناول المفاسد، مكتفيًا بسرد سيرة حياة فتاة بسيطة، حملت آلامها بصمت، واختصرت في شخصها واقع كثيرين، وقد أبقاها حيّة ترزق حتى بعد رحيلها؛ وكأنّه يخبرنا أنّ الموت ليس هو النهاية، مجيبًا بذلك عن تساؤلاتها السابقة.
قد يكون الهدف الأساس لدى جورج يرق أن يكرّم من خلال روايته شخصًا عزيزًا رحل ولم يتسنَّ له أن يخبرَه كم يقدّر معاناته ويحبّه، واختصر فيه تاريخًا يخصّه، وأفكارًا يؤمن بها، كقوله: “نحن من أولئك الذين يتّكلون على الصلوات وشفاعة أهل السماء لتخطّي متاعب الأيّام” (ص 180) أو قوله: “ليس صك الملكيّة الذي يثبت أنّ هذا المكان أو ذاك هو بيتك.” (ص 202)، أو آراء تغيّر واقعًا كما في قوله: “يجب أن يستعين كل مستشفى بمتخصّص في زرع الأمل بالنفوس (كذا) التي فقدت الأمل. فليسمَّ طبيب الأمل على غرار طبيب العيون وطبيب الأعصاب وسواهما. وسوف يكون في انتظاره عمل كثير.” (ص 239) ولكنّه، إضافة إلى كلّ ذلك، أكّد لنا أن القاعدة ليست أساسًا، والإبداع وليد الابتكار وغير المألوف.
***
* جورج يرق، موت متواصل، مختارات، تواصل للنشر، طبعة أولى 2023
* *يمكن العودة إلى مقالتي في هذا الكتاب التي نشرت في جريدة النهار بتاريخ 11/7/2022، تحت عنوان: “يوميّات امرأة انتصرت على السرطان” للدكتور إبراهيم شلبي ضوء جديد ينير طريق كلّ مريض

* “النهار” 30-10-2023

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *