“كما يرانا جنجر ” (قصص قصيرة… وكلمات) جديد زياد كاج عن دار نلسن
صدر عن دار نلسن في بيروت كتاب “كما يرانا جنجر ” قصص قصيرة… وكلمات للكاتب زياد كاج، أهداه إلى إلى علمانيي هذا البلد الذين ما بدلوا تبديلا. من الكتاب نختار قصتين: “كما يرانا جنجر” و They Slept Their Way Down.
كما يرانا جنجر
أحب هذه العائلة الصغيرة وأستلطفها على رغم غرابة سلوكيات أفرادها أحياناً! أعيش معهم منذ أكثر من سنة ولم أرَ منهم سوى حسن المعاملة والرعاية والدلال. أسعد لفرحهم فأستغل الحالة لقطف مزيد من المداعبة، وأزعل لزعلهم شفقةً ولإهمال سيصيبني. الجميع يحبني في هذا البيت؛ ولاسيما الشاب والصبية؛ وهما الأقرب إلى قلبي. الأب يعمل طوال أيام الأسبوع؛ يكون في البيت يومي السبت والأحد. يجلس الرجل الضخم دائماً على كنبته المفضلة أمام جهاز مربع الشكل يصدر أصواتاً تتحرك فيه أشكال من أضواء ملونة ويسمونه التلفزيون. تمضي الأم معظم وقتها في المطبخ تعد الطعام وتجلي الأطباق والأواني؛ رائحة طبخاتها طيبة، ولاسيما عندما تصنعها من دجاج وسمك فتكون ذات رائحة لا تُقاوَم. مرة واحدة في السنة فقط تجتمع هذه العائلة على طاولة العشاء لشهر (يسمونه رمضان المبارك)، يأكلون فيه عند غياب الشمس صحن الفتوش والبطاطا المقلية وشوربة العدس. أما في بقية الأشهر، فيتفرقون من دون زعل. الولدان يمكثان معظم الوقت في غرفة الصبي، فيما يمضي الوالدان سهرتهما في الصالون. الأب يقرأ من وقت إلى آخر، وقد يتابع بعض البرامج على التلفزيون، والزوجة تتابع المسلسلات التركية. يختتمان سهرتهما بكوب شاي. يدخل غرفة النوم باكراً، وأبقى أنا والأم في الصالون حتى بعد منتصف الليل. أحياناً، يُصَاب الأب بالأرق، فيعود إلى الصالون، يعد كوب زهورات ويتابع معنا السهرة إلى أن يشعر بالنعاس.
نادراً ما يخرجون معاً في نزهة أو إلى مكان عام. الأم تحب الزيارات العائلية وزيارات البيوت. وهي تزور بيت شقيقتها لأيام في الجنوب مرة أو أكثر في الشهر، ولاسيما في الصيف. عندما أسمع كلمة “الخيام”… يسكن قلبي الإحساس بالوحدة والاكتئاب. سيغيب الولدان مع أمهم عن البيت لثلاثة أو أربعة أيام؛ فيما أبقى أنا وحيداً مع الأب الممل الذي بدوره يندر تواجده في البيت خلال النهار. يخرج إلى البحر أو للقاء أصدقائه في إحدى المقاهي. أمضي يومي بين النوم والاستلقاء حيث أشتهي متنقلاً بين الغرف. أحياناً ينسى الأب وضع الطعام الخاص بي على رغم توصية الأولاد له مراراً بأن يتذكر. في المساء، يجلس في الصالون وحده مع كتبه وأمام الشاشة الكبيرة وبين يديه هاتفه وآلة لونها أسود يواصل التكبيس فيها إلى أن يلفت انتباهه فيلم يقرر متابعته. أحاول المواء والالتصاق به، لكنه ينهرني ويسمح لي بالاستلقاء إلى جانبه أو على البلاط الرخامي. يا له من متواضع! يروح إلى المطبخ ويجيء منه حاملاً أطباقاً وحنكه يتحرك. أسمع بوضوح صدى شحاطته على الأرض. أشتاق إلى حنان الصبي والبنت ومداعبتهما لي. عندما يطفئ الضوء، أعرف أنه قد دخل إلى غرفة نومه ولن أراه إلا في صباح اليوم التالي.
نادراً ما يُقرعَ باب دار هذه العائلة! وإذا ما حصل ذلك، يكون الطارق إما الناطور أو بائع مياه الشرب، أو شقيقة الأم التي تأتي في الأغلب لزيارتها. نشأت بيننا علاقة ود ومحبة؛ هي تحب أبناء جنسي وتداعبني بطريقة توقظ فيّ أرواح أجدادي المشاغبة. لم أرَ يوماً أحداً من الجيران يزور هذه العائلة المسالمة ولا هي تفعل. حتى إنني عندما أقف على الشرفة للتفرج على الناس والشارع تحت، أشعر بأنني أعيش مع بشر يختلفون عن أهل الحي عموماً. ربما الأم لا تشعر بالغربة هنا كما يشعر الأب والأولاد. أظن أنهم قد تعودوا على وضعهم الحالي مع المحيط وتعايشوا معه.
لي ذكريات طيبة وعزيزة في هذا البيت الهادئ نسبياً. على رغم أن الرجل وزوجته يختلفان أحياناً ويعلو صراخهما. لماذا يختلف بنو البشر؟ وعلى ماذا؟ أحياناً أشعر أن الحق مع الأب؛ وأحياناً أستنتج أن الأم مظلومة. يتحدثون كثيراً عن حقوق المرأة في هذا البلد. المشاكل كثرت أخيراً في المؤسسة الزوجية بسبب ضيق الأحوال. لقد تعب رجل وامرأة هذا البيت من المشاكل ويبدو أنهما قررا تقبل بعضهما بعضاً كما هما والعيش بسلام وحب وهدوء. قلباهما طيبان. عمرا بيتهما بعشرة طويلة وقرش حلال ونوايا صافية. أحياناً، أشبههما بمصارعي “السومو” في اليابان. يتصارعان، وعند التعب، يبتعد كل منهما إلى الزاوية المقابلة لالتقاط الأنفاس استعداداً لجولة مقبلة!
الصبية والصبي هما منحاني اسم جنجر بسبب لون وبري الأشقر. كنت صغيراً حين حملاني من عيادة الطبيب البيطري في شارع بدارو. أكره مشوار السيارة. تنقلب معدتي. صرت لعبتهما المفضلة في البيت. لكنني لا أنسى يوم قررت العائلة أن تخضعني إلى عملية تعقيم. كدت أموت من الرعب. لماذا يفعلون بي هذا؟ يحرمونني من حياتي الجنسية!؟
“نخصيه” سمعت الأب والأم يتفوهان بها مع ضحكة مكبوتة. هل أنا مسخرة؟ وضعوني في قفص في السيارة وأخذوني إلى العيادة. طوشتهم من المواء طوال الطريق. بعد استيقاظي من البنج، وجدت نفسي في البيت. أصابني الحرد والاكتئاب. بقيت مختبأً لفترة طويلة تحت الأسرّة وفي الخزانة وقاطعت وجبات الطعام. نوع من التمرد على واقع مرير لا رجوع منه. أحسست بالعجز والخواء.
أعيش وسط هذه العائلة اليوم سعيداً مكرماً. لا يضربني أحد منهم. أكلي وشربي مؤمنان؛ وطبابتي أيضاً. كنت أرغب بأن يكون معي في البيت قط آخر أتسلى معه، وهذا ما طالبت به البنت والشاب. لكن الوالدين رفضا وعلا صراخهما بسبب ضيق الأحوال المادية وارتفاع سعر الدولار أمام العملة المحلية. هما صارا يتذمران أخيراً من ارتفاع تكلفة التراب حيث أقضي حاجتي وأكياس حبوب الطعام الخاص بي. خشيت من أنني لم أعد مرغوباً بي فيرميا بي في الخارج. تلك الفكرة أرعبتني، ولاسيما عندما أرى القطط الوسخة والمهملة والنحيفة في ساحة الكراج الخلفي للبناية.
منذ سنة لاحظت أن هذه العائلة أصبحت أكثر توتراً ولازمت البيت لفترات طويلة. صاروا يتحدثون عن جائحة اسمها “كورونا” ولا يخرجون إلا بعد وضح كمامات على وجوههم. شخصياً، سررت لبقائهم في البيت. أما الأب، فكان في الأغلب يخرج بعد الظهر لممارسة رياضة المشي التي كان يستحيل أن يستغني عنها. الأولاد كانوا أكثر وعياً وتشدداً بالنسبة إلى إجراءات الوقاية. عاشت العائلة عزلة اجتماعية قاسية بسبب منع التجول.
على رغم الظروف الاقتصادية الصعبة، تحاول عائلتي البشرية الاستمرار والصمود. أُوقِفت الأم عن العمل؛ فصار عليهم الاكتفاء بمدخول الأب. جربوا تخفيف مصروفهم قدر المستطاع. أسمعهم يتحدثون يومياً عن ارتفاع الأسعار الجنوني. قرروا التخفيف من استهلاك اللحوم وكثير من الكماليات. حتى الأب قرر إتباع حمية وخسر 16 كيلوغراماً من وزنه. الولدان قلّلا مجبرين من طلباتهما من الأهل. توقفت دراستهما الجامعية، لكنهما استمرا بالدرس على جهاز صغير يشبه ذلك الموضوع في الصالون ويصدر أضواءً وأشكالاً تتحرك يسمونه الكمبيوتر. أفرح كثيراً عندما يأتي أصدقاؤهم إلى زيارتهم؛ يضج البيت بالحياة وأجد نفسي محمولاً من حضن إلى آخر وأسمع اسمي يتكرر “جنجر… جنجر…”؛ أحب الدلال، لا أنكر. الطبيب البيطري قال للأب مرة في عيادته عن أبناء جنسنا “هم أكالون… نكارون!!”. تأملني الأب، الذي كان يفضل اقتناء كلباً، وهز برأسه مراراً من دون أن ترتسم على وجهه علامات ذات معنى.
أنا جنجر قط هذه العائلة الطيبة التي لا تزال على رغم كل الصعوبات تؤمن لي طعامي والبحص والملجأ الآمن لئلا أُرمَى على قارعة الطريق. أتمنى لهم كل الخير؛ وأدعو الله أن يحمي هذا البيت وأهله ويبعد عنهم وعن أمثالهم كل شر من بني البشر.
هناك طريقتان للتخفيف من مآسي الحياة: الموسيقى واقتناء القطط.
They Slept Their Way Down
الخلط بين الأمور الشخصية والعاطفية وشؤون الوظيفة والمصالح الخاصة في مكان العمل ليس بالأمر الجديد في العالم كله، لكنه يبقى علامة فارقة في مجتمع من مجتمعات ما بعد الحروب الأهلية، متعدد الطوائف، في بلد كلبنان.
كان يوماً عادياً في “المؤسسة” المرموقة التي تضم المئات من الموظفين والموظفات. أما في دائرة “المشتريات” فكان متوقعاً أن يكون يوماً “استثنائياً” سيشهد منافسة حامية على مركز شاغر: مساعد المديرة. الجميع حضر قبل الدوام وجلس خلف مكتبه بانتظار المديرة التي حددت موعد الاجتماع عند الساعة التاسعة صباحاً. معظم الموظفين – أغلبيتهم من الذكور – كانوا يعلمون مسبقاً بأن المديرة الشابة والقليلة الخبرة قد اتخذت قرارها مسبقاً. ترى من يكون؟ سرت شائعات وانتشرت ثرثرات… وحدها بإمكانها الحسم.
على غير مألوفها – وربما عن تعمّد – حضرت متأخرة نصف ساعة بدت لهم ساعات. فالجميع كان طامحاً إلى هذا المركز. قرعوا بابها وقدموا أفضل ما لديهم وملأوا الطلبات، وعرضوا الخدمات… لكن قلبها وعقلها كانا قد رسيا على واحد منهم. كانت لديهم شكوكهم بسبب تكرار دخوله وبقائه في مكتبها بصورة متقطعة وأحياناً لفترات طويلة. لكن ما لم يعرفونه كان أن المديرة والموظف الطامح كانا يتواعدان بعد الدوام ويلتقيان في المقاهي والأماكن البعيدة عن مكان المؤسسة.
“بونجور”، قالت بصوت ناعم تعودوا سماعه كل صباح على وقع دعسات “كندرتها” ذات الكعب العالي. كانت بحاجة إلى أن تبدو أكثر طولاً – تحديداً في هذا اليوم. بدت فاتنة، مغرية على غير عادتها، في عيونهم التي رافقتها إلى باب مكتبها المعلقة عليه لوحة صغيرة كُتِب عليها: “اقرع الباب قبل أن تدخل”. تركت الباب مفتوحاً ونادت: “تفضلوا”.
صاروا في المكتب الواسع والفخم وبدوا مترددين حائرين يتأملون وجوه بعضهم بعضاً. كررت الدعوة لهم إلى الجلوس، فسارعوا إلى جر الكراسي الجانبية وجلسوا أمام مكتبها في شكل نصف دائري، وبقي الزميل – الحبيب السري – واقفاً إلى جانب كرسي مديرته وبسمة صفراء ترتسم على وجهه شبه الدائري.
“كلنا اليوم منعرف ليش مجتمعين”، قالت بصوت متردد وهي تحاول قراءة وجوه موظفيها الذكور الذين كانوا أكبر منها عمراً وخبرةً. عشعشت في رأسها فكرة واحدة: أن تتزوج الشاب الذي يقف إلى جانبها والذي سيكون يدها اليمنى في مواجهة هؤلاء. أمضت شبابها في الدراسة وحصلت على شهادة الماجيستر من واحدة من أفضل الجامعات. أما حان الوقت لكي تقطف ثمار تعبها؟ أليست هي المديرة العامة والمؤسسة تمنحها الحق باختيار مساعدها الخاص؟ عليهم أن ينصاعوا ويتعايشوا مع الوضع الجديد. فقبولها لطلباتهم وإجراؤها المقابلات كانت للتعرف على كل واحد منهم وجس نبضه على انفراد.
مرت لحظات سريعة من الترقب والموظفين يتطلعون إلى بعضهم بعضاً وفي رؤوسهم سؤال. الأقدم بينهم والأكثر حنكة وخبرة في شؤون المؤسسة وشجونها كان يعرف أكثر من غيره أن اجتماعات كهذه تبقى شكلية لأن القرار عادة يكون متخذاً من قبل. تأمل الزميل الواقف قربها الذي كان يحتقره كونه يعرف انتهازيته ووصوليته وضحالة ثقافته.
“يا حضرة المديرة”، بادر بين المزح والجد، “طالما القرار مُتخذ… لماذا إضاعة الوقت؟”.
ابتسمت ابتسامة صفراء وزمت شفتيها الرقيقتين؛ ألقت نظرة سريعة وأخيرة على وجوه الحضور فبدت كأنها تترنّح بين التردد والخوف من رد فعلهم. هي لا تريد أن تتأثر دائرتها سلباً فتحدث المشاكل والفوضى. رؤوسهم حامية وسيصعب عليها السيطرة عليهم.
“أنا أخترت فلاناً مساعداً مباشراً لي”، وأشارت بيدها اليمنى الممسكة بقلم إلى الشاب الواقف إلى جانبها. ساد صمت لدقائق وبدأت التمتمات تعلو لتتحول إلى صراخ وبضعة شتائم.
“رجاءً لنكن محترفين في شغلنا”، صرخت بعصبية وضربت سطح طاولة المكتب أمامها فوقعت بعض الملفات والأقلام على الأرض. أسرع المساعد المعين حديثاً إلى لملمة الأغراض وإعادة كرسيها ذي العجلات إلى مكانه بعدما تسبب وقوفها المفاجئ باصطدامه بالحائط الخلفي.
“أنا قراري اتخذته بالتشاور مع دائرة الموارد البشرية وخلص”.
لم تتوقف أصوات الاعتراض. فالبعض كان أكثر كفاءة من الزميل الذي اختارته والبعض كان أكثر أقدمية. لن يسكتوا على المسألة وسيشكون الأمر إلى المسؤولين الأعلى من حضرة المديرة الشابة التي غيّرها “الكرسي” وأعمى قلبها وبصيرتها. البعض هدد باللجوء إلى النقابة. بدا المشهد شبيهاً باجتماع قيصر مع نبلاء روما قبل دقائق من طعنه، ما أفقدها أعصابها أكثر فطردتهم من المكتب وهي تصرخ: “يلي مش عاجبه يدق راسه بالحيط!”.
بعد جلبة تحريك الكراسي الجلدية المزودة بعجلات ودعسات مستعجلة للخروج من المكتب، وجدت نفسها واقفة وجهاً لوجه أمام مساعدها وحبيبها و”زوجها المستقبلي”. بنظرة خاطفة إلى الباب وجده مغلقاً. لن يعود الآن أحد منهم ويجرؤ على الدخول. كان أطول منها قامةً وشفتاه أغلظ من شفتيها. حضنها بقوة وقبلها بعنف لطالما أحبته وذابت به. شعر بأنه منذ اليوم ستكون الكلمة الأولى له في الدائرة، سيكون المدير الفعلي وليس مجرد مدير مساعد، وستكون له علاقات على مستوى مع المديرين جميعاً وسيفرض احترامه على الجميع. كان يخطط لمشروعه منذ أن سمع بأنها ستحل مكان المديرة المغادرة إلى أميركا، فقرر قطف الفرصة و”الطحش” على قلب الشابة الآتية من أجواء الدراسة الجامعية والكتب والمثاليات. صفحة بيضاء وله أن يخط ما يشاء عليها. صار يجلب لها وردة في مناسبات أو من دونها، ثم أخذ يدعوها إلى جلسات المقاهي والدردشات. صارت هي تبادر إلى دفع الفاتورة بعدما ألمح مراراً إلى ضيق حاله المادية وكثرة مشاكله الزوجية. بسهولة وشطارة جعل من نفسه الضحية وهي المنقذة الوحيدة. وهل من طريقة أفضل من كسب تعاطف امرأة سوى الإكثار من الشكوى وفتح الجروح؟ بكى أمامها فأبكاها. قصص الحب التي لطالما قرأت عنها في الكتب السميكة في سريرها قبل النوم أصبحت هي إحدى بطلاتها في حياتها الحقيقية.
كم هو لذيذ الحب حين يُعَاش؟ قررا الزواج سراً والتحضير لكل تفصيل قبل الإعلان عن ارتباطهما على رغم أنهما كانا ينتميان إلى طائفتين مختلفتين: هو مسلم وهي مسيحية. قبرص قريبة وهو لطالما حلم بالطلاق من زوجته التي كان يمقتها لكثرة المشاكل بينهما. “وحياتك لح طلقها”، كان يحلف أمامها.
كانت يمتلك شقة خارج بيروت، فاتفقا على “نفضها” وتجديدها وفرشها على حسابها الخاص ومن مدخولها الشهري للعيش فيها بعد الزواج. بنيا عشهما الزوجي بعيداً عن أعين الناس، ولاسيما الزملاء في المؤسسة والأصدقاء والأقارب. حساباته كانت مادية بعدما وجد فيها خشبة خلاص من زواج فاشل يعاني منه أطفاله، ومن ضيق حال، وزوجة معقدة لا تحتمل، جل همها المظاهر و”المشاوفة” بأنها اشترت أثاث بيتها من عند “سليب كومفورت”… تتلفظ بها مع “نتعة” رأس إلى الوراء، كما كان يقلدها مكشراً عن أسنانه البيضاء، فتضحك حبيبته السرية حتى الدمع.
كلما دخلت قطعة مفروشات جديدة إلى “عشهما” المستقبلي، قويت علاقتهما وصارت أكثر حميمية. كان ذلك يثيره حتى الجنون، فتحتضنه كوردة ربيعية تمج رحيقها في سكرة من اللذة كانت تنسيها مشاكلها وماضيها المأزوم. الجنس مغناطيس الرجل والمرأة، ووسيلة الرجل صاحب المصلحة وصنارة صيده الثمين. لم يتركا مكاناً يعتب عليهما: الشقة خارج العاصمة، فنادق جونية الرخيصة، شقق الأصدقاء… وصولاً إلى مكتبها الخاص بعد الدوام. كان مكانه المفضل على مكتبها ولو تمنعت. يجتاحها كما تجتاح موجة تسونامي قرية هادئة على شاطئ سياحي. تقع الأوراق والملفات والأقلام والهاتف الثابت على الأرض… وهما في عالم آخر ولا يتنبهان إلا بعدما تكون اللذة قد غادرتهما. فتنشغل المديرة بململة الأغراض فيما يدخل هو إلى الحمام، يتأمل وجهه المنتصر في المرآة.
لم يتأكد موظفوها من شكوكهم إلا عندما رأوها تدخل ذات صباح وقد أجرت عملية تجميل لأنفها. الحب يفعل المستحيل ويدخل إلى غرفة العمليات. فانتقاد الحبيب وإن عن طريق المزاح والتلميحات التي تخدش كبرياء الأنثى يفعل فعله. قررت إجراء العملية لإرضائه. كثرت الثرثرات في المكتب، وحاولت المديرة استيعاب الموقف وإرضاء موظفيها باللين وبعض الإجراءات لتحسين رواتبهم. كسبت الرضا من البعض والحقد والكراهية من البعض الآخر – الذين كانوا ينتظرون الفرصة للانتقام منها ومن مساعدها الذي كان مقبولاً في العلن ومكروهاً في السر. كثر لعبوا على التناقضات بينهما ورموا إشاعات.
وقع المحظور… وانفجر فجأة الخلاف بين المديرة ومساعدها وكانت الشماتة سيدة الموقف في المكتب وتسربت إلى مكاتب المؤسسة كلها. فتحول المكتب إلى مكان للمناكفات والمشاكل بين “روميو وجولييت” وجمهور الموظفين يستمتع بالمشهد اليومي ويصبّ الزيت على النار شامتاً من دون رحمة وينقل الأخبار مضخمة إلى خارج المكتب لتنتشر كالنار في غابة أججتها عاصفة الأخبار عن العلاقة المشبوهة بينهما. صارا حديث نشرة أخبار المؤسسة اليومي على ألسنة الجميع.
ماذا حصل؟
وصلت إلى مسامعها وشوشات أنه يواعد امرأة أخرى من طائفته. في البداية لم تتأثر، لكن شكوكها قويت حين لاحظت تبدلاً في سلوكه وشيئاً من البرودة نحوها. غيرة النساء قاتلة.
“حبيبتي، معليش اليوم مش قادر شوفك بعد الدوام”، قال في مكتبها وطبع على فمها قبلة اعتقد أنها ستكفيها زاداً لوحشة المساء.
تصنعت الرضى وقررت لحاقه بسيارتها لتتأكد بنفسها. على الطريق الفرعية والخلفية لمبنى المؤسسة شاهدت ما لم يكن في الحسبان: امرأة أخرى تصعد إلى سيارته لينطلقا إلى شقتهما خارج بيروت. قادت سيارتها إلى منزل أهلها وهي غير مدركة للزحمة ولإشارات المرور وصفارة شرطي السير. بدت كالمجنونة خلف المقود لا ترفع يدها عن الزمور كأنها تنقل مريضاً في حالة طارئة إلى المستشفى. تدافعت الصور والتخيلات في عقلها: هو وتلك المرأة في فراشها وفي البيت الذي دفعت جنى عمرها لكي يكون منزلهما الزوجي. لم تستطع صد مشاهد حميمية… صارت تصرخ من الغضب وأجهشت بالبكاء. وصلت إلى بيتها في حالة مزرية؛ دخلت إلى غرفتها وأغلقت الباب بالمفتاح وارتمت على فراشها تتأمل السقف وهي غارقة في خيبتها.
كان الجو في المكتب دراماتيكياً في اليوم التالي.
علا الصراخ بينهما في المكتب المغلق ووصلت الأصداء إلى الخارج. فترك الجميع مكاتبهم واقتربوا من الباب لاستراق السمع. أحدهم وضع أذنه على الباب فاتحاً فمه كردة فعل على الدهشة.
“يا واطي”، كان صراخها أعلى، “أنا ساعدتك وخليتك تصير بشر وأنت عم بتخوني ببيتي يلي عم بفرشه من تعبي يا حيوان!!”.
“حبيبتي أنت أكيد غلطانة”، قال بصوت متقطع خائف، “هي بس مندوبة عطورات…”.
“رد لي كل مصرياتي”، لم تدعه يكمل، “والا لح إتشكى عليك”.
المال نقطة ضعفه. قرر التصعيد وتسرع بالإجابة: “ما إلك معي شي… روحي بلطي البحر”.
خرجت المديرة عن طورها ورمته بمزهرية زجاجية التقطتها من مكتبها الفاصل بينهما. استطاع تجنبها فأصابت الحائط الخلفي. فتح الموظفون الباب وتدخلوا بدافع رؤية المشهد المنتظر لأن الصوت لم يعد كافياً لإرضاء حشريتهم. فخرجت المديرة غاضبة وبقي هو واقفاً كالأبله وسهام نظرات الشماتة السامة تمطره من كل صوب.
انتشرت أخبار الفضيحة ووصلت إلى الإدارة العامة، فقرر المدير العام الدعوة إلى اجتماع عام في مكتبه للنظر في الموضوع وحله على وجه السرعة لأن قضية “روميو وجولييت” المؤسسة صارت حديث الصباح وبدأت تنتشر إلى الخارج وباتت سمعة المؤسسة على المحك. في اليوم المحدد حضر الجميع: موظفو الدائرة المعنية، ممثلون عن النقابة، المدير العام، و”المتهمان”. كان موقفهما محرجاً أمام الحضور، ولاسيما المديرة التي بدت على وجهها علامات الندم والتعب وقلة النوم. بدأ المدير العام الحديث عن قوانين العمل في المؤسسة وأخلاقيات المهنة. محاضرة لا بد منها في مناسبات كهذه. أُعطِيت المديرة الفرصة أولاً بالكلام فقدمت اعتذارها وأقرت بخطئها الإداري لكنها أنكرت حصول علاقة جنسية بينهما كما حُكِي في دوائر المؤسسة.
وقف “روميو”، وكأن كلامها قد مس رجولته، وقال شاهراً تلفونه النقال:
“عندي الدليل”.
ساد صمت الصدمة.
“ماذا تعني؟ أوضح”، سأله المدير العام.
“أنيي… أنيي”، قال بتردد وحماقة، “صورت فيديو لمّن كنّا عم نمارس عندها بالمكتب من دون ما خبرها”.
اختفى وجهها بين راحتي كفيها وبكت سوء حظها.
“بتخرس وبتسكر نيعك”، وقف رئيس النقابة صارخاً به. “هيدا الفيديو هلق بتمحيه والا بدي كسّره عا راسك”.
قررت الإدارة نقل المديرة إلى دائرة أخرى من دون المساس برتبتها أو راتبها. وأعِيد “المدير المساعد” إلى وضعه السابق كموظف عادي. كان عليه أن يتحمل شماتة و”تلطيشات” الزملاء لفترة طويلة قبل أن ينسوا الموضوع. أحد الزملاء تطوع لحل الخلاف المادي بينهما، فاتفقا على أن يقسط لها المبلغ شهرياً عبر الوسيط. أما الشقة خارج بيروت فدخلتها “بائعة العطور” زوجة رسمية.