قراءة أسلوبية في كتاب إبراهيم رسول “جديد الخطاب السردي في روايات ناتالي الخوري غريب”

Views: 1112

د. مصعب مكي زبيبة

من الكتب التي صدرت حديثا كتاب “جديد الخطاب السردي في روايات ناتالي الخوري غريب”، وهو دراسة نقدية للأديب إبراهيم رسول، عن دار البيان العربي للدراسات والنشر، في طبعته الأولى عام 2023. الكتاب يتعرض في دراسات ثلاث روايات من روايات الكتابة اللبنانية ناتالي الخوري، هي: حين تعشق العقول، دار سائر المشرق، 2015، ورواية هجرة الآلهة والمدائن المجنونة عن الدار نفسها عام 2016، والطريق الرابع عن دار نينوى عام 2021، والأديبة ناتالي الخوري أستاذة جامعية في الجامعة اللبنانية كلية الآداب والعلوم الانسانية، قسم اللغة العربية، مختصة في الأدب الصوفي والفلسفي.

الكتاب يبدأ من تساؤلات عدة، يحاول الناقد إبراهيم رسول الإجابة عنها، ضمن منظومة معرفية تسبر أغوار الخطاب، وتستشعر روح النص، وما يريد أن يقوله من خطابات فلسفية أو جمالية أو أدبية، هذا الاستشفاف لا يقبض على خصائصه، ويستجلي حقائقه إلا بما يمتلكه الناقد من أدوات وسبل تجعله متمكنا من هذا التحصيل وهذا الاستشعار، والأديب إبراهيم رسول استطاع أن يظهر ملامح الشخصيات في روايات ناتالي الخوري، والأحداث والأفكار والرؤى والحوار، كل ذلك جاء بقراءة متأنية موازنة بين ما هو واقعي خارجي وما هو خطاب داخلي في مطاوي النص.

يبدأ الكتاب من تساؤل معمق، هو: لماذا روايات ناتالي الخوري غريب؟. 

وإجابات الأديب إبراهيم رسول، لم تكن مراوغة أو غامضة؛ لأن الغموض النقدي يعبث بالأفكار ويشتتها، على خلاف الغموض الأدبي الذي يزيد التجلي الفكري، ويزيد من مديات التأويل والجمال.

 

القلق الوجودي وانهيار السرديات الكبرى

يقول الأستاذ إبراهيم في معرض الإجابة عن هذا السؤال: لأنها تمثل عينة مهمة من عينات لملامح الرواية العربية الجديدة، إذ تميزت روايات ناتالي الخوري بالقلق الوجودي، والهشاشة، وانهيار السرديات الكبرى.

ولا شك أن عدم النمطية والتجديد هو من مميزات الرواية الناجحة التي لا تسير على ما سار عليه الآخرون، فلكل روائي منهجه السردي، وطريقته المتفردة، وهذا ما تبحث عنه الأسلوبية، فالأسلوبية هي نظام التفرّد والتمايز والاختلاف.

ثم تتواصل الأسئلة في الكتاب، ليبث تساؤلا آخر هو: ما التقنيات التي سلكتها الرواية العربية الجديدة؟، وما الجديد في الخطاب؟.

وتأتي الإجابة أيضا مباشرة؛ لتكشف الحقائق، وتصور الجزئيات، وتظهر أسلوبية التفكير التي تجلت في مستويات الخطاب الروائي، إذ تقرر أن الرواية العربية الجديدة هي التي كسرت القيود، وتمردت عليها، وعبرت بذاتها إلى جهة أخرى، جهة متمردة متحررة غير منطقية، وكسرت السرديات الكبرى، فالحياة الجديدة هي تمرد، تشتت، وفوضى كبيرة. والهدم أول عمليات تصحيح المسار نحو المستقبل، فالخطاب ذلك الفعل المنتج للكلام المكتوب، أو المنتوج كلاميا، هو سمة من سمات التحرر والمتمرد الإيجابي، والتفاعل العضوي للتطور والاستجلاء.

أما عن الجديد في خطاب ناتالي فيقول: هو الموضوعات التي أصبحت الأكثر أهمية في ما بعد الحداثة، وهي الموضوعات التي باتت صفة الحياة الجديدة، التي هي في الحالة السائلة، وليس الصلابة في أي موقف، أو عقيدة، والرواية هي بنت الحياة الجديدة، والأدب الروائي هو الذي يتصدر المشهد الأدبي العام. وهو الذي لا يضع نبوءات تعتمد على التكهن، والخرافة والتشظي المعرفي، بل يتصالح مع الحياة الواقعية في قراءته للمشهد السردي الراهن، فهي قراءة واقعية عبر منظور فلسفي يغوص في المشهد، فيقرأه على وفق القراءة التي تقترب من عملية حسابية لا تخطئ النتائج. ولكن هذا الأمر فيما أرى لا يتحقق أبدا، فالحياة بمتناقضاتها وغرائبيتها لا تخضع للحساب والرياضيات، والمنطق والمعقول؛ وإذا كان الأدب ولا سيما الرواية هي صورة من صور الحياة، ليس صورة حرفية للحياة، بل هي فن إعادة الحياة، فيكون الأدب كذلك غير خاضع لتلكم المعايير المنظمة التي لا تقبل الخطأ أو النقاش.

والسؤال الذي يحاول أن يجيب عليه الأديب إبراهيم رسول، هل وصلنا إلى مرحلة الحداثة، حتى نتخطاها إلى مرحلة  “ما بعد الحداثة”؟؛ لأن الحداثة بحد قوله: هي ليست مذهبا أدبيا فحسب، وإنما هي نمط حياة، وتطور مجتمعي وممارسة اجتماعية واقتصادية وسياسية.

 

الخطاب الجريء

ثم يعرج إلى التعريف بمفهوم الخطاب الجديد، إذ يصفه بأنه الخطاب الجريء، الذي يناقش كل شيء، وفي كل شيء، هو خطاب يبحث عن قضايا مصيرية لها أهمية بالغة في حياة الإنسان المعاصر، والخوض بمواضيع محظورة وغير مستهلكة. وهو صادق من هذه الناحية النقدية، إلا أن الحياة في تطور دائم، والحياة ليست هي التقنية الحديثة فحسب، بل هي نمط التفكير، وطريقة المأكل والملبس، والتعقيدات المستحدثة التي ما كانت لتخطر على تفكير الإنسان في زمان ماضٍ.

وتحاول دراسة الناقد إبراهيم رسول الغور في وصفية الرواية الجديدة بصورة عامة، وروايات الدكتورة ناتالي الخوري بصورة خاصة، إذ أصبح الوصف لا يظهر في داخل السرد، بل هو السرد نفسه، مقرونا بالأقوال الباطنية للشخصية المدركة وتأملاتها، والوصف عند الكاتبة (ناتالي) لا يبدأ من نقطة استراحة سردية، بل هو ذاته يكون السرد، إنها تمتلك مرجعيات معرفية غنية أمدها بهذا الطرح الذي نالت به منزلة متميزة عند المتلقي، فهي تكتب بلغة فلسفية عميقة، وهذا راجع إلى كم القراءات الفكرية التي كونت منها كاتبة ذات نزوع فلسفي، أو ميل نحو الفكر النقدي (التساؤل)، وقد طغت هذه الـ “لماذا” في رواياتها، وهيمنت عليها أسلوبيا، إذ تُؤشر في خطابها هذه الهيمنة الأسلوبية، حتى لتصل إلى ما يسمى بـ “المقدس” الزائف في عقائد الناس، وهي تحاول أن تفعّل أثر العقل، وتستفزه عبر كلمات لها دلالات عابرة لما وراء النص.

 

باحثة ومفكرة وفيلسوفة

يقول الناقد إبراهيم رسول: “ترتكز الباحثة الروائية د. ناتالي على كم فلسفي واسع يمدها بالكثير من الرؤى والتوجهات التي تتبناها، هي في أنها فيلسوفة أقرب منها روائية، وهي باحثة مفكرة؛ أقرب منها أديبة”، 

وهنا يجب أن نتوقف قليلا في ظل هذه العبارة النقدية البارزة؛ لأن الرواية الفلسفية العميقة هي التي تقدم أفكارها بإطار حواري، لا يسحق الأدبية والشعرية في العمل الروائي، فلا تسير بوجوديتها نحو منحدر النظرية الفلسفية التي تتعقب والأفكار الجافة، وتخاطب النخبة من ذوي الاختصاص، وهي التي لا تنسلخ من الواقع فتبتعد عنه، وتهمله، وتتعالى عليه، الرواية هي ذلك النسق الفني الذي يوازن بين ما هو فكري وأيديولوجي وسياسي ونفسي وإمتاعي، وقد نجحت ناتالي الخوري في كل ذلكم بكفاءة المتمكن من أدبه وفلسفته، وخير دليل على ما ندعي تمرد روايات ناتالي خوري على الشكل البنائي، فهي غير خاضعة لشكل ثابت في التتابع أو التناوب الأفقي، ولا سيما في رواية “الطريق الرابع”.

ومن المعالم السيميائية البارزة التي يؤشرها الناقد إبراهيم رسول هي: وضع علامات الترقيم، المفرعة عن السيميائية التوضيحية، فهي تارة مستفهمة وأخرى متعجبة، فقد كانت بارعة في وضع العلامات التي تثير العقل وتحاول أن تنشطه وتستفزه.

ومن المعالم الأسلوبية الأخرى أيضا تعدد الأصوات لدرجة يصعب على أي قارئ أن يجمع الأصوات كلها ويميز بينها، ومن ثم مقارنتها مع صوت المؤلفة، فليس من اليسير دوما أن نميز بوضوح ما ينتمي إلى وجهة نظر الشخصية، مما ينتمي إلى وجهة نظر الراوي، وهذا التداخل بين وجهتي النظر يظهر جليا في الأفعال الدالة على العمليات الذهنية.

 

وتغوص الدكتورة ناتالي الخوري بسرد غرائبي نخبوي، إذ كتبت رواياتها بنفس ولغة وذوق فلسفي أو ما يسمى بـ “الفلسفة السردية”، فالحوارات المتعددة تضمر تأويلات عدة من خلال الحوار الشخصي، تقول في نص قصصي لها بعنوان “الغريبان”: “هاتفتها العرّافة قالت: لا تبحثي عن السر في الصندوق، ولا خلف الجبال، وفي الوديان، أو حتى في السماء السابعة، هو كامن أبدا في الغد الملعون، فلكل سر في كشفه ميقات، يضيء على ما كان ويكون، لكنها ما اقتنعت، فتحت الصندوق، فوجدت أوراقا بيضاء، وعود كبريت”، إذ يحمل النص تأويلات مختلفة، تأويلات الغرائبية التي ترهن واقعها مع ما هو غيبي يظهر في مطاوي الأحداث الحاضرة، وفي نص آخر تقول الروائية ناتالي: “تذكرت وصية العرافة، لا تذهبي مع شبان المدينة، ففي الأربع الجهات تيه، الدائرة مقفلة، وخريطة الدرب عقيمة، والتميمة لا تعمل، لكنها هربت ليلا، تحمل صمتها، وصرة الهزيمة”، الدلائل التي يمكن أن يستجليها النص هو القلق والتوجس والخوف في نزاع جودي أو صراع حيوي.

“والظلمة ضمن جدران خوف الداخل أشد هولا من حلكة الخارج” في وصف لحيرة النفس التي تتخبط في مطاي الحياة باحثة عن نقطة استقرار من هذا التشظي الذي صار سمة إنسان العصر الحديث.

هكذا استطاع الناقد (إبراهيم رسول) أن يغوص في أتون روايات الدكتورة ناتالي الخوري، ويرسم في جدران سردياتها لوحات الإبداع والجمال، ويسقط رؤاه وأفكاره على ما يرتهن من أحداث واقعية ويختلط من مشاريع فلسفية، ويؤشر التهاتف الأسلوبي بين الكاتب والقارئ، ويظهر وجهة نظره التي ربما كانت مختلفة مع وجهة نظر الكتابة في مواطن عدة، من دون تهيّب أو تردد.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *