المطران بندلي “العظة الحيَّة”* تخلَّى واتّضع .. فسَار على دربِ القدِّيسين !

Views: 253

د. مصطفى الحلوة

مدخل / كأنّه القَدَر .. من قدِّيسٍ إلى قدّيس!

ما إن فرغتُ من وضع مراجعة نقديّة لكتاب الأديبة اللبنانية/ الاسترالية د. بهيّة أبو حمد ، عنوانُهُ ” إلى الأب الذي افتقدتُهُ : قدّيسٌ أنت ، لم ولن تموت!”. وهو يدور حول أحد كبار مطارنة الكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية ، المثلث الرحمات المتروبوليت بولس صليبا (مطران سيدني ونيوزيلندا والفليبين بين عامي 1999 و 2017 ) ، حتى ساق إليَّ القدر كتاب “العظة الحيَّة” .

هو مؤلَّفٌ ثرٌّ ، يستعرض مسيرة مطران أبرشية عكار الأرثوذكسية السابق، المتروبوليت بولس بندلي (بين عامي 1983 و 2008) ، عبر أقوالٍ وشهادات وحكايات ، ترتقي به إلى مصاف القداسة !

وإذا كان الكتابُ الأوّل من صُنع فردي ، حبكتهُ يدُ امرأة أديبة، ارتقت بمطرانها إلى عليِّين ، فقد جاء “العظة الحيّة” ثمرة عمل جمعيّ ، شارك فيه دينيّون (مرجعيات دينية كنسيّة عليا) ، وعلمانيّون . وقد كان لكل واحدٍ من هؤلاء وأولئك قولٌ في إطار مشاهدة عيانيّة ، أو تجربة شخصيّة ، أو خبر منقول عن سواه …

هذه الأقوال والشهادات والحكايات حَدَت بالأمانة العامة لِـ ” حركة الشبيبة الأرثوذكسية ” (3 حزيران 2011 ) إلى القول إنّ ذلك المطران ” تخلَّى واتّضع، حتى رفعته يدُ الربّ إلى مُلتقى القدِّيسين ! ” .

… وضعًا للأمور في نصابها ، فقد وقع “العظة الحيَّة ” بين يديَّ ، يومَ اصطحبني صديقي الشاعر اللبناني الاسترالي ميلاد نقولا إلى الأب  فادي واكيم (أبونا فادي) ، بتاريخ 24 تشرين أول 2023 ، ليتسلّم نسخة من هذا الكتاب، أوصاهُ عليها قُدسُ الأب ديمتري بارودي ، الراعي السابق للكنيسة الأرثوذكسية في مالبورن – أستراليا .

إشارةٌ إلى أنني ، حين تسلّمتُ الكتاب ، قُلتُ من فوري وبشكلٍ عفوي “هذا الرجل أعظمُ مطران! ” . وقد أردفتُ ، في تعليق لي ، على خبر لقائنا، الذي نشره “أبونا فادي ” ، في صفحته على الفايسبوك : ” لقد سعدتُ بهذا الكتاب القيِّم، الذي يروي سيرة مطران ، قد لا تجودُ الأيام بمثلِهِ. فهو سليلُ عائلة ميناوية (ميناء طرابلس ) ، اشتُهِرَت بتقوى أبنائها ورفيع خُلُقهم ! علمًا أنني مدينٌ لعظيمٍ من هذه العائلة ، هو الشقيق الأكبر للمطران بندلي ، عنيتُ الدكتور كوستي بندلي (1926 – 2013 ) ، الذي تتلمذتُ عليه ، في ثانوية الملعب الرسمية للبنين (طرابلس) ، فأفدتُ منه علمًا وثقافةً وقيَمًا أخلاقية .

وقد أنهيتُ كلمتي بعهدٍ قطعتُهُ على نفسي: “.. ولسوفَ أضع مراجعة نقديّةً لهذا الكتاب ، في مُقبِلِ الأيام ، فصاحبُ السيادة مُستحقٌّ .. مُستحق”!.

ها أنذا اليوم أفي بما وعدتُ به وتعهّدت ، ملتزمًا منطوق الآية القرآنية الكريمة : ” وأُفوا بالعهدِ ، إنَّ العهدَ كان مسؤولاً ” (سورة الإسراء / الآية 34). 

 

..وقدّيسٌ “بندليٌّ” آخر!

بيد أن الكلام على المثلث الرحمات المطران بولس بندلي لن يتكامل، لديَّ، من دون إطلالة سريعة على شقيقه د. كوستي . فهو ، على غراره ، قدّيسٌ، من دون أن يتجلبَبَ ثوبًا كهنوتيًّا ! أَوَلَم يُطلق عليه رئيس دائرة اللغات (سابقًا) في جامعة البلمند د. سامر أنوس ، يوم رحيله ، صفة “قدّيس أنطاكية وسائر المشرق؟!

فمن خارج سياق بحثنا ، بل من داخل السياق ، أسمحُ لنفسي ، إسنادًا لأطروحتي وليس استطرادًا ، أن أعرِّج على د. كوستي ، ولي معه محطّاتٌ، لا يطويها النسيان !

هذه المحطّاتُ ، سبق أن وثّقتُها في مقال لي ، يومَ رحيله في العام 2013. وفي عِدادها مراجعة نقديَّة لكتابه “نضال عُنفي أو لا عُنفي لإحقاق العدالة/ الإنجيل على دروب العصر ،منشورات النور ، طبعة أولى 1988 ” وقد عَرَفَتْ هذه المراجعة طريقها إلى موسوعتي ” 80 كتابًا في كتاب/ مراجعات في الفكر العربي المعاصر ، الجزء الأول ، ص ص : 111 – 129 ، صادر عن جروس- برس ناشرون ، طبعة أولى 2018″.

ومن محطةٍ أخرى في فرنسا ، العام 1981 ، وكنتُ حينها أُحضِّرُ شهادة الدكتوراه بالفلسفة ، في جامعة (Jean – Moulin , Lyon 3) ، التي تخرّج منها المفكِّر بندلي ، فقد سألني أستاذي المشرف François tricault عن د. كوستي، حين عرف بأني من مدينة طرابلس (لبنان) . وقد تنزّل هذا السؤال بردًا وسلامًا عليَّ ، فشعرتُ بأن طيف د. كوستي إلى جانبي ، يعضدني . وإذْ أجبتُهُ أنّه أستاذي ، قام وجلبَ من رفِّ مكتبِهِ أطروحة من ثلاث مجلدات ، هي أطروحة د. بندلي ، التي نال عليها شهادة الدكتوراه . وتوجَّه البروفسور “تريكو” إليَّ بالقول : “كوستي بندلي هو أحد أعلام الفكر المبرّزين ! ” . وقد حمّلني إليه تحياته مع رسالة شفوية ، فحواها أنه بِصدد الردّ على بعض النقاط التي أثارها د.كوستي في أطروحته . علمًا أن البروفسور “تريكو” كان أحد أعضاء لجنة المناقشة (Jury) . كما أوصاني بأن أعود إلى د. كوستي في المسائل التي تستغلقُ عليَّ ، في كتابتي أطروحتي .

.. رُغم شهادة الداني والقاصي بالموقع الفكري الرفيع للدكتور كوستي ، فقد كان ذا تواضُع جمّ . فهو ، من خلال تواضعه ، يُشعركَ بحقيقتِكَ الدنيوية، فتقبض على بُعدِكَ الفاني ! وهو ، عبر إيمانِهِ الديني العميق ، يحطِّمُ لديكَ ما تحملُه من صنميّةٍ ، تخالُها تحرّرًا وعصرنةً وتقدّمية !

“العظة الحيَّة ” / مضامين ومحطاّتٌ للذكرى والاعتبار!

على مدى مائة وخمس وستين صفحةً ، شغلتها خمسة فصول ، تُطالعنا أقوال (آراء ) وشهادات وحكايات (جُلُّها طرائف معبِّرة ) ، مُستعرضةً سيرة رجل دينٍ استثنائي في حياة الكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية المعاصرة، حيث خفت صوتُ الدين لترتفع أصواتُ الطوائف والمذاهب والعصبيات ، من كلِّ فجٍّ عميق! .. هذا القدّيس راح يُعيد إلى الدين نقاءه واعتباره ، في منطقةٍ هي من أكثر المناطق اللبنانية حرمانًا ، عنينا محافظة عكار، التي تُقدِّم نموذجًا حيًّا في العيش المشترك بين مختلف مكوِّناتها وعوائلها الروحية .

لقد جاء ذلك القديس ليوثِّق عُرى هذا العيش المشترك ، مرتقيًا به إلى مصاف العيش الوطني الواحد !

هذا الكتاب ” العظة الحيَّة ” يضع النقاط على كل حرفِ من حروف سيرة بل مسيرة رجل ، نذَرَ نفسه ، حتى الرمق الأخير ، لخدمة الإنسان والمجتمع والوطن. وهو ، بذلك ، يُحقِّقُ رسالة الدين ، الذي ما كان إلاّ لسعادة الإنسان وسعادة البشرية جمعاء . وما أحوجنا اليوم إلى منظومات قيم الأديان ، في عصر التصحُّر الأخلاقي ، وفي زمنٍ فاقدٍ روحَهُ ، زمن اللا يقين والضّياع ، زمن الآلة التي بات لها طُغيانٌ طامٍ ، في مختلف مجالات حياتنا ، وقد كان لها أن “تُؤلِّل” الإنسان المعاصر ، جاعلةً منه رقمًا مُتناهي الصغر في المعادلة الكونية ! ولم يعُدْ ذلك الكائن ، الذي ” انطوى فيه العالم الأكبر” ، على حدِّ قول الإمام عليّ بن أبي طالب !

إشارةٌ إلى أن عنوان الكتاب “العظة الحيَّة ” ليس من بنات أفكار مُعدِّي هذا المؤلَّف ، بل استقوه من المطران بولس ، وهو يُخاطب تلامذته ، حول ما ينبغي أن يكونَ عليه الكاهن . ففي شهادة الأب إبراهيم أيوب نقرأ : ” كان أستاذي في مادة الوعظ ، وكان دومًا يقول لنا : على الكاهن أن يكون هو العظة الحيَّة !” (الفصل الثاني ، ص ص 55 – 56 ) .

أ- في المداخل إلى الكتاب

قبل أن نعبُرَ إلى فصول الكتاب ، بما تتضمّن من مُعطيات ، لا بدّ أن نستعرض ما ورد من كتابات تمهيدية ، بل مداخل أساسية إلى فِناءاته ، تُضيء على جوانب أساسية ، شكلاً ومضمونًا .

من قبيل الإيضاح ، فإنّ معظم الشهادات والتأملات الواردة في الكتاب، وفق المشرفين عليه ، تمَّ استلالُها من الصفحة الالكترونية الخاصة بالمثلث الرحمات المطران بولس بندلي ، وبعضها قليلٌ جدًّا ، تم استلامُهُ من أصحابه باليد، أو نُقِل من مواضع أخرى ، بموافقة كتّابها (ص ص : 13 – 14 ) .

وعن الهدف الأساسي للكتاب ، فهو “محاولةٌ للإضاءة على سمات المحبة والرعاية والتواضع والتخلِّي والقداسة لدى المطران بولس بندلي ” (ص 13) .

وبما يخصّ الشهادات المُدرجة ، في الفصول الأربعة الأخيرة، فقد تمَّت مراعاة التسلسُل الزمني ، وتوزّعها على الأصعدة ، التي تناولها الكتاب ، وهي على التوالي : الوداعة ، والرعاية ، والفقراء والقداسة . أما الشهادات غير المؤرَّخة ، فقد أُدرجت بعد الانتهاء من إدراج المقالات المؤرّخة . وخدمةً للأمانة العلمية ، لم تُدرج شهادات خطّية غير موقّعة ، مما يُعزِّز من صُدقية هذا المؤلَّف.

– لقد كان تمهيدٌ وافٍ وراءٍ (ص ص : 15 – 17 ) ، بقلم الأستاذ رينيه أنطون ، مُنسِّق الكتاب وجامع مادّتِهِ ، وهو أمين عام سابق لحركة الشبيبة الأرثوذكسية في لبنان .

لقد رأى السيد أنطون أن “العظة الحيَّة” لم يكن لأجل المطران بندلي فحسب- وهو مُستحِقُّهُ – بل هو أيضًا لأجل الكنيسة وأبنائها ، أي للاعتبار ولتمثُّل قيم صاحبه ، بحيث يكون تساؤل عمّا يُعاش ما في الإنجيل ، وفي العالم اليوم . ناهيك عن تذوُّق حلاوة الرسالة وإشراقة الخلاص . وإذْ يعترف بعجزه عن إيفاء المطران بندلي حقّه ، يرى أنّ مَن هم على شاكلتِهِ ، لا تزيدهم الكلمات شأنًا ، ولا يُحدُّ عبورُهم بأزمنة ، ولا يُختصر إرثهم بشهادات . (ص 15 ) .

وإذْ فيه سِماتٌ من يسوع ، يحتسبُهُ السيد رينيه أنطون ، عبر النوادر التي تُروى عنه ، “كائنًا إنجيليًّا  ” .

وفي توصيف مُكثَّفٍ ، لهذا المطران الاستثنائي ، الذي يجمع من الصفات عظيمَها ومن الأفعال أجداها ، فهو أيّان حضر ، ومن أي موقع أطلّ وكيفما خطا: مُصلٍّ ومجاهدٌ وراعٍ وحاضنٌ ومفتقدٌ وشاهدٌ ومتخلٍّ وفقيرٌ ووديعٌ ولطيفٌ ورحومٌ. وهو ، كمعلِّمهِ مُتوَّجٌ دائمًا بالشوك . وإذا قُدِّر لك أن تجاوره ، فإنّك لا تجاور غير ظلّ المسيح فيه ! (ص 16) .

وعن المحبّة ، التي فُطِرَ عليها ، فهي “ليست منه ، بل من الذي يُحيي ولا يُميت! ” (ص 17) .

ويختم الأستاذ رينيه أنطون هذه المطالعة ، وهي من جوامع الكَلِم وفصل خطاب ، فيرى أننا بإزاء سيّدنا بولس ، نحن ” في حضرة وجه راعٍ ، نومُهُ ترحالٌ وصلاة ، علمُهُ تبشير ، حياتُهُ خدمة ، مالُهُ للفقراء ، سريرُهُ من صخرةِ المغارة ، حُلمهُ الوداعة ، تعليمُهُ دمٌ و ماء ، ولا عشق لغير مسيحهِ (..) عرّى بشاعة ما نحنُ عليه من مألوف! ” (ص 17 ) .

– ومن جوامع الكلِمِ أيضًا ، كانت مقدّمة ( ص ص : 19- 21 ) ، حبّرها د. جان توما ، يتقاطعُ فيها مع الكثير من مفاصل التمهيد ، فرأى إلى المثلث الرحمات “رجل صلاة ، عاش على خلاف كثيرين من معاصريه. لقد واجه بسكينةِ صلاتِهِ ضجيج العالم ، وواجه بانحناءِ تضرُّعِهِ كبرياء الكون” ( ص 19).

ومن عظيم فِعالِهِ ، فقد كان ” مسحة زيت للمجروحين ، وسُبحة رجاء للمنكسرين ” . وعن “ميناويتِهِ” ، وما طبَع فيه مسقِطُهُ من سماتٍ مميّزة ، فقد “كان بولس خرّيج معارج المدينة البحرية العتيقة ، هو آتٍ من وجوه صيّاديها، وانتفاخ شرايين عمالها المياومين (..) وإلى عكار، راعيًا ومَلاَكًا ، تلمَّسَ أكُفَّّ الفلاحين، فصار ، في كل بيت رعاهُ ، غصنَ زيتونٍ بصلواتِه ! ” (ص 20) .

ويتساءل جان توما بحق عن عجز الأبجدية ، في استعراض تاريخ هذا الإنسان “المشّاء على دروب الربّ ، إذْ لم يمنعه ظرفٌ صحّي أو مُناخ من أن يكون أخا سفرٍ ، جوّابَ أرض ٍ ، يزرع فيها جلول محبّة وخدمة” (ص 20).

وعن قداستِهِ ، “فهو القديس السائر ، الذي يتقاسمُ المؤمنون سيرته، أولئك الذين عرفوه ، أو سمعوا به ” (ص 21 ) .

ب- في فصول الكتاب / معطياتٍ وأبعادًا

في الفصل الأول / فصلٌ تأسيسي ” تنظيري” لسائر فصول الكتاب

إلى الأبعاد التأسيسية لشخصية المطران بندلي ، التي توقّفنا عندها مليًّا في المطالعة “التمهيدية” ، التي وضعها الأستاذ رينيه أنطون ، كما في المقدمة التي أبدعها د. جان توما ، فإن الفصل الأول ، الذي تصدّرته العبارة الآتية : وشهادتهم حق” (إنجيل يوحنا 35:19) ، هو فصلٌ تأسيسيٌّ تنظيريّ بامتياز . بل إنه يضع اللبنات الأساسية والخطوط الواضحة لمسيرة المطران بندلي وسماتِهِ الشخصية وتشكيله الفكري، عبر ست شهادات لخمسِ مرجعيات دينية كبرى، تتفاوتُ في تراتُبيتِها ومسؤولياتها الكنسية . وتفصيلاً ، ضمّ هذا الفصل شهادات لكل من المثلث الرحمات البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم، والبطريرك يوحنا العاشر(الأسقف حين الإدلاء بشهادته) ، والمطران جورج خضر، وشهادتين لمطران عكار الحالي باسيليوس منصور ، وأخيرًا شهادة للمتروبوليت أفرام كرياكوس المطران الحالي  لطرابلس والكورة وتوابعهما للروم الأرثوذكس .

وإذْ نستشفّ تلاقيًا وتقاطعًا بين هذه الشهادات جميعها ، فقد آثرنا استلال الصفات الجامعة ، مُدرجينها تحت الآتي :

  • أُثِِرَ عنه هدوء الطبع ، مُجسِّدًا ما قاله القديس يوحنا السلمي :”الهدوء صخرةٌ جاثمةٌ على شاطئ بحر الغضب ! “
  • هو شديد الصبر والتحمُّل / لا يُبدي تذمُّرًا ، في أي وقت من الأوقات.
  • اتّسامُ خطابِهِ بالتهذيب ، تكاد لا تسمع صوته إذْ يتكلّم، ولا يحمِلُ هذا الخطاب أي سِمة من سماتِ العنف ، في كلماتِهِ أو في طريقة تحدُّثِهِ.
  • هو إنسان تواصلي ، عرف كيف يتفاعل مع الجميع ، ويدخل إلى قلوبهم . فقد أنهضَ الكثيرين بالمحبة ، مستمعًا إلى آلامهم! وغدا الخادم ، وهو في أعلى مقامات الخدمة في الكنيسة .
  • كان قويًّا في الحق ، على رُغم التواضع المأثور عنه ، بخلاف ما كان يظنّ البعض وهو لا يُساوم في الحقّ البتّة ، وكانت كلمتُهُ مسموعة عند الجميع .
  • نذر نفسه لأبرشيتِهِ ، بل زوّج نفسه لها ، جسديًّا وروحيًّا.
  • محبّتُه للإنسان نابعةٌ من محبتهِ لله ، خالق الإنسان ! كان هاجسُهُ دائمًا الآخر ، فالآخر ليس الجحيم ، كما يقول الفيلسوف الوجودي سارتر!
  • في محبّتِهِ الآخر ، كان يلتزم ما جاء في إنجيل مرقس (35:9) : “إذا أراد أحدٌ أن يكون أوَّلَ ، فليكُنْ آخر الكلّ وخادمًا للكلّ “.
  • التواضع المقرون بالوداعة ، فهو يُخاطب الآخر من أعماق قلبه ، بلطافة ودموع.
  • تأصُّل فرح العطاء لديه ، ملتزمًا قول يسوع : ” إنّ العطاء مغبوطٌ أكثر من الأخذ ! ” .
  • هو الفقير المستغني بفقره عن العالمين ، بل هو الغنيّ الذي يُغني الآخرين .
  • هو المؤسّساتي “الإعماري” ، مُقيمُ الصروح والمؤسسات التربويّة والصحيّة . وكل ما كان يُتبرّع به له ، كان يضعه في حساب هذه الصروح والمؤسسات .
  • هو من أرسى مداميك أبرشية عكار ، الواحد تلو الآخر ، وأضفى عليها روحًا ، بتعبِهِ وصبره .
  • هو المبتعد عن السلطوية ، مُجسِّدًا ، بسيرتِهِ ، المعنى الحقيقي للإدارة في الكنيسة .
  • كان إنجيليًّا خالصًا ، يغتذي من الكتاب المقدّس ببساطة ليحيا ، وقد رأى إلى الدنيا سُلَّمًا إلى الآخرة ، التي هي ، لديه ، خيرٌ وأبقى !

في الفصول الأربعة للكتاب / أقوالٌ وشهاداتٌ وحكايات

في الفصول الأربعة ، التي تلي الفصل الأول ، الذي توقفنا عندها موجزين شهادات المرجعيات الدينية الكنسية ، فقد بلغ عدد الأقوال والشهادات والحكايات مائة وأربعة وأربعين (144) ، موزّعة ، على الوجه الآتي : الفصل الثاني (45)، الفصل الثالث (55) ، الفصل الرابع (31) ، الفصل الخامس (13) ، وقد أعقبت هذه الفصول خاتمة ، سوف نُفردُ لها حيِّزًا في ختام بحثنا .

بما يخصّ الفصل الخامس ، فقد جاء خلوًا من الحكايات والطُرف ، مما يجعلُهُ على تماسٍ مع التمهيد والمقدمة ، ومع شهادات المرجعيات الدينية الكنسية (الفصل الأول) .

وإذْ يصعبُ الاستعراض التفصيلي للفصول الثلاثة (الثاني والثالث والرابع)، فإنا سننتقي بعض الأقوال والحكايات النموذجية ، بما يُعرِّفنا أكثر إلى مسيرة المطران بولس بندلي ، ويغطي جوانب مختلفة من شخصيتِهِ ، بأبعادها المتعدّدة .

في الفصل الخامس : تصدّرت هذا الفصل عبارة ” أعطِ دمًا وخُذْ روحًا”، وهو يضمّ ثلاث عشرة شهادة ، سنتخيّر من كل شهادة بعض كلماتٍ ، ترفدُ ما استللناه من التمهيد والمقدمة وشهادات الفصل الأول :

  • الارشمندريت توما بيطار : ” جَدْولِ الوصايا ، وقابِلْها بسيرة الرجل ترَ تطابقًا أخّاذًا بينها وبينه ! .. في الفقر ، في العفة ، في الطاعة ، في الإمساك، في الوداعة ، في الاتضاع ، في عدم المساومة ، في الغربة عن محاباة الوجوه ، في لطف الكلمة ، في طيب القلب ..” هذا ما حدّثه به صديق ! (ص 134) .
  • الأستاذ جان رطل : “.. لم يفصل بين النظري والعلمي والتربوي إلى جانب البُعد البشاري ، وحياته الخاصة . فكانت تصرفاته وحركته اليومية منارة لمعتقداتِهِ ، وليس العكس . من هنا أطلق عليه الكثيرون صفة القدّيس ” ( ص 137 ) .
  • الأستاذ جورج رزق : ” كانْ يعتبِرْ نفسو مسؤول عن أيّ فقير بيصادفو أو بيطرق بابو (..) غيَّرَ الصورة المتوارثة عن رجل الدين ، كمسترزق من الهيكل ، إلى خادم الهيكل” ( ص 139) .
  • السيدة فلوريا رزق : “.. يومَ دخلتَ عكار ، وكانت الكنيسة خَرِبة، جاهدتَ حتى الدم ، واصلاً الليل بالنهار ، لتُعلِّم الشعب أنّ الأرثوذكسية ليست كلمات ، بل حياةٌ ، تواضعٌ ، بذلٌ ودربُ جلجلة ، تقود إلى القيامة (..) فأنت من جنس الملائكة وليس فقط من البشر “(ص 140).
  • د. فرج زخّور : “استيقظت معه الأبرشية من سُبات عميق ، بعد أن كانت (دشرًا) .. أشهدُ بأنَّ أبرشية عكار الأرثوذكسية قد استعادت ، في عهد رعايته ، رونقها وارتدت حلّتها الوطنية المشرقية ” (ص 141).
  • السيدة ماكي مخّول : “.. بولس بندلي المتوغّل في القداسة حتى الثُمالة! (..) نعمنا بنهضة روحية وكنسية كبيرة (..) عملتَ من دون تعب أو ملل ما عجزَ عن فعله حكومات بأسرها ! ” (ص 142) .
  • د. جوزف زيتون : “.. مُترفِّع عن البيروقراطية ، كأنه يعيش في زمن سابق لعهده ، أو كأنه كاهنٌ أو راهبٌ بسيط (..) أعطانا دروسًا في التواضع ونكران الذات ، وفي كيف يتوجَّب أن يكون الإكليروس ، والأساقفة خاصةً ” (ص ص 143 – 144 ) .
  • السيد طارق حسين : ..” لم يكن سيِّدنا المطران بندلي مرجعية مسيحية فحسب ، كان مرجعية للكثيرين من المسلمين ، الذين كان يُساعدهم في كثير من الأحيان ، وخاصة في مجال الاستشفاء ! ” (ص 145) .
  • الدكتور يوسف الرشكيدي : “.. إنّ احترام إخواننا المسلمين لمثلث الرحمة المطران بندلي كان كبيرًا (..) إن أحد الشيوخ المسلمين ، في إحدى المناسبات الكنسية ، ذكر ، في كلمة ارتجلها للمناسبة ، أنه كان يشعر في نفسه ، في حضرة المطران بولُس ، وكأنه يقرأ الفاتحة!” (ص 146) .
  • المهندس نضال طعمة : “.. بثّ الحياة في شرايين الأبرشية ، وفُتحت الكنائس ، وأُنشئت الجوقات ، وانطلقت مدارس الترتيل ، وفي الوقت عينِهِ ، لم تبقَ التلّة الجرداء على جماد وعرها ، بل استحالت ميدان تربية(..) استطاعت المدرسة الوطنية الأرثوذكسية في الشيخطابا أن تجذب التلاميذ من مختلف المناطق العكارية ومحيطها ، وأن تُقدِّم لهم المستوى التربوي اللائق ” .. وإلى إنشاء المطران بولس المدرسة ، فقد أقام مركز القديس بولس للخدمات الشاملة ، وكذلك تأسيس المعهد المهني ، الذي بدأ بفرع العلوم التمريضية ” (ص ص : 147-148).
  • الأستاذ إبراهيم رزق : “.. يحضر إلينا مباشرةً من زمن الإنجيل(..) أتانا مُتسلّحًا بالحب ، حتى البذل ، لأنّ المعلّم هكذا أحبّ وبذلَ ذاته ” (ص 150 ) .
  • الأستاذ شفيق حيدر : ” عرفت قيصر بندلي ، منذ صباي، في مُستهلّ دراستي الثانوية (..) فأخذتُ عنه يقظة الضمير ورساليّة المهنة (..) كنتَ ثابتًا ، ما غيَّرك منصبٌ تبوّأته أو مركزٌ شغلته . لم يُؤثِّر فيك تصرُّفٌ قوبلتَ به . كنت الثابت والمتغيِّر في آن ، وأنت أنت على الدوام ، وحدها التوبة تجدِّدُك باستمرار ” (ص ص : 152 – 153 ).
  • العميد المتقاعد الياس روحانا : إثرَ لقاء معه ، وهو من الكورة الخضراء : “كان اللقاء مُفيدًا لي جدًّا ، لأنِّي تأكّدتُ من أن كلّ ما قيل عنه ، ونُقِلَ عن بساطته في الحياة ، وحُبَّه للفقراء ، هو نصفُ الحقيقة!” ( ص 155 ) .
  • الأستاذ رامز النبّوت : ” .. حُلوُ الكلام ، شديدُ التواضع ، تقرأ نقاوة قلبه في حديثه وعينيه (..) يضحك ببراءة الطفل (..) سمع كلام الفادي فسارَ على خطاه ، مُجاهدًا في خدمة الناس ، حتى آخر لحظة من حياته ” ( ص ص : 156 – 157 ) .

 ج- مختارات نموذجيّة من الفصول (الثاني والثالث والرابع)

ليس مَن يعبُّ من النبع فيرتوي ، كمن يشربُ بعض نقاطٍ من قدح!

انطلاقًا من هذه المقارنة ، فإنّنا ، إذْ نوردُ بعض النصوص النموذجية ، من الفصول الثلاثة (الثاني والثالث والرابع) . فإن هذه النماذج لا تغني عن العودة إلى جميع النصوص ، فنتدبَّرُها ، وهي تتضمّن الكثير الكثير من المرويّات والطرُف والنوادر ، التي تضعنا بإزاء رجل / إنسان ليس من “خامتنا” ، بل ليس من هذا العالم ! رؤاه غير رؤانا ، ومنظومةُ قيمِهِ ، هي من العظمة والرِفعة ، بحيث لا تُشبه منظومات القيم ، التي درجنا عليها ، نحن البشر العاديين !

من الفصل الثاني تخيّرنا ثلاث طُرف / شهادات :

  • روت ريما موسى زود (ص 39): حدث مرّة ، في إحدى السهرات الإنجيلية ، أن جلس ، بقرب المطران بولس ، طفلٌ له من العمر أربع سنوات . نظر الطفل إلى حذائه ، فرأى شريطه مفكوكًا ، فما كان منه، وببراءة الأطفال، إلاّ أن رفع قدمه ووضعها في حضن سيّدنا بولس ، وطلب منه أن يربط له شريط حذائه ! فنهرت أم الولد ابنها ، فما كان من سيّدنا إلاّ أن جاوبها : “أرجوكِ ، لقد طلب مني أنا أن أربط له حذاءه ، وأنا سوف أربطه ” ، وفعل !
  • روى حنّا جميل حنّا (ص 41) : لدى بناء المدرسة الوطنية الأرثوذكسية ، كان سيدنا بولس ، يتفقّد الأعمال في أحد الأيام . وقد وجد عاملين جالسين من دون عمل .. سأل عن السبب ، فقال له “المعلّم” المسؤول : طردتهما لأنهما لا يعملان بشكل جيِّد ، طلبت منهما إدخال 200 حجر خفّان ، ولم يُدخلوا سوى النصف ، والنهار يكاد يمضي! فما كان من سيّدنا إلاّ أن قال للمعلم : “أنا بساعدهم حتى يكفّو الباقي” ، وبدأ بحمل الحجارة . فما كان من المعلم إلاّ أن أرجع العاملين، وطلب من سيّدنا التوقّف !
  • روى عماد حصني (ص 62) : توجَّه الراوي مع أحدهم إلى مطران عكار ، ليستأذنه في إقامة مخيمات صيفية لحركة الشبيبة الأرثوذكسية في المدرسة الوطنية الشيخطابا ، ولما لم يجداه في مبنى المطرانية، توجّها إلى منزل المهندس نضال طعمة ، حيث كان سيادته هناك (تلعباس غربي ). وعندما انحنى الراوي طالبًا البركة ، عاجلَه المطران، وأمسك بيده يُريد تقبيلها . ويُعلّق الراوي حنّا حنّا : “إِنذهلتُ كثيرًا من تواضع نادر غير مألوف ، وشعرتُ أني أمام ملاكٍ مُنحنٍ !”.

من الفصل الثالث ، اخترنا هذه النماذج الثلاثة أيضًا :

  • روى الأستاذ رينيه أنطون (ص 70) : أثناء توجُّه المطران بولس من عكار إلى طرابلس ، برفقة المطران جورج خضر ، تعرّضت سيارته لحادث سير كبير ، وأصيب سائق سيارته “أبو ربيع ” ، فرافقه المطران إلى المستشفى ، ووقف مع الأطباء ، في غرفة الطوارئ ، وهو يُلِجُّ عليهم للاهتمام بالسائق . وحين سُئل عمّا إذا كان هو مصابٌ ، طمأنهم ، إلى حين رأى الأطباء بقعةً من الدماء تحت رجليه ، وتبيّن لهم أنّه مُصابٌ بجروح في رجليه ، وكِسْرٍ في يده ، فألزموه ، حينها ، بالخضوع للعلاج ! .
  • روى السيد بسّام الضيعة (ص 73) : قصدهُ الراوي إلى المطرانية ليعطيه دروسًا في التعلّم على الكومبيوتر ، فوجد سريره مرتَّبًا ، ما جعله يظنُّ أن سيادته لم ينم تلك الليلة . وإذْ استفسر عن ذلك ، قال له : بسبب الأحداث الأمنية في إحدى البلاد الإفريقية ، فرَّ الكثير من أبناء عكار وآواهم في مبنى المطرانية ، وسهر طوال الليل ، وهو يُدرّسهم ولم ينم ، تعويضًا لهم عما فاتهم من دروس !

ويُردف السيد الضيعة ، مُعلّقًا ، هو (أي المطران) المثقف المتعلّم ، الذي كان يوزّع معاشه الشهري ، كأستاذ ، في مدرسة جبران مكاري الرسمية في أنفه ، في أوّل يوم من الشهر ، ويعود إلى منزله سيرًا على قدميه ، حيث أنه لم يترك لنفسه ، ولا حتى تعرفة التاكسي (قبل أن يصبح مطرانًا ) .

  • روى الأستاذ جورج رزق (ص ص : 89 – 90) : كان سيادة المطران يهمّ بمغادرة المطرانية ، برفقة الراوي لإحياء سهرة روحية ، في إحدى القرى العكارية ، وإذا بهاتف المطرانية يرنّ . وما كاد المطران بولس يقول “ألو” ، بصوته الهادئ حتى انهال عليه المتصل بالصراخ والسباب. وكان الشاب يسمع بأذنيه الشتائم ، لشدة ما كان صوت المتّصل وصراخه عاليين ! استمر الوضع على ما هو عليه مدة ربع ساعة، وصاحب السيادة لا ينطق ببنت شفة . وعندما أغلق المتصل الخط ، تنهّد المطران بولس وقال : “حرام ، كان المتصل إنسانًا يحتاج إلى من يسمعُهُ ، ليفرِّغ ضغوطه الكثيرة ” !

ومن الفصل الرابع ، اخترنا هذا النص الشهادة

  • روت ريما موسى زود (ص 109) : عن إحدى راهبات دير مار يعقوب، دِدّه هذه الحادثة : في أحد الأيام زار سيّدنا الدير ، فلاحظت الراهبات أنه يعرج في سيره . سألتهُ عن الأمر ، ومثل عادته ، لم يشأ أن يخبرهنّ ، وعندما ألححنَ عليه ، أخبرهنّ أنه ينتعل حذاء فيه مسمار، وعندما يسير يغرز المسمار في رجله ! وقد علمت الأخوات ، خلال الحديث مع سيّدنا ، أنه كان يملك حذاءً جديدًا ، فأهداه إلى أحد الفقراء!”.

 

  • خاتمة الكتاب .. والخاتمة / إلى إعلان القداسةِ سِرْ!

لا ريبَ أن المسار الذي سلكه الكتاب “العظة الحيّة ” ، بالمقال التمهيدي والمقدمة ، وبفصوله الخمسة ، سيفضي نهاية المطاف ، إلى تطويب المطران بولس بندلي قدِّيسًا ، من لدُن المجتمع المقدّس للكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكيّة . ولقد كان لخاتمة الكتاب أن تحمل هذا الهمّ ، بل تُجسِّد هذه الرسالة ، بقلم الأستاذ إيلي الحاج عبيد ، فكانت بعنوان : ” إلى رجل الله بولس بندلي ” .

هي عبارةٌ عن مناجاةٍ ، مُترعةٍ حميميَّةً ، يستهلّها بـِ “لازمة” ، يُردّدها لمرّات خمس ” أبي وسيِّدي بولس ” .

لعلّ أبرز ما جاء فيها ، وهو يتوجَّه إلى المثلث الرحمات بولس ، ما تعكف عليه الكنيسة الأرثوذكسية ، لجهة إعلان قداستِهِ : ” أبي وسيِّدي بولس.. لعلَّهُ واصلٌ إلى مسمعكَ ما نحن عاكفون عليه ، في كنيستنا الأرثوذكسية الأنطاكية، من توثيقٍ لحياتك وشهادتك بجهادك ، توثيق نودعُهُ المجمع الأنطاكي المقدّس، عسانا نبلغ إلى يوم يُعيِّنُهُ الربُّ ويرتضيه ، يوم تقول فيه أنطاكية قداستك ، فنستشفعكَ ، بما لَكَ من دالّةٍ عند الله ! ” .

وإذْ لا يرقى الشكّ إلى ما سيُقدمُ عليه ” المجمع المقدّس” ، يجزم السيد عبيد بأنّ الرئاسة الروحية ” وإنْ استمهلت الخطوات ، إلاّ أنّها لا تُهمل – وينبغي ألاّ تُهمل – الإصغاء إلى الروح القُدُس المتكلّم في شعب الله ، والعاضد لهذا العمل المبرور ” ، وليضيف ” إنّ الكنيسة (..) لن تخترعك قدّيسًا ، ولكنها ستُعلن قداسةً فيك ، كنت تعيشها في سرِّ المسيح والكنيسة ” .

إنّنا من جهتنا ، نُشارك السيد الحاج عبيد رأيه بل اقتناعه ، لجهة ما سوف يُقدِمُ عليه ” المجمع المقدّس” ، وهذا دأبُهُ . فمنذ أيام قليلة ، وتحديدًا في 19 تشرين أوّل 2023 ، أعلن آباء “المجمع المقدّس” ، في دورتهم المجمعيّة العادية الرابعة عشرة، قداسة كاهنين شهيدين أنطاكيين ، هما الأبّ نقولا خِشَّة ، الذي استُشهدَ في مرسين سنة 1917 ، وابنه بالجسد الأب حبيب خِشّة ، الذي استُشهد ، في جبل الشيخ عام 1948 . وقد ثبّت الآباء تذكارهما السنوي الجامع في 16 تموز من كل عام .

.. إذا كان أهل التصوّف يذهبون إلى القول : ” ألسِنةُ الخلق أقلامُ الحق ..، فإنّ الناس ، بحسِّها العفوي ، بمعايشتها هذا الرجل ، الذي يشي بقداسةٍ، في كل ما يفعله وما يقومُ به وما يُمارسه ، أعلنت قداسته ، وقالتها بالفم الملآن. فها هي سمر رضوان ، تقول : ” .. أعتقد أنّ هذا الرجل كان يتمتّع بمقدارٍ من التواضُع والحبّ ، يجعلان بإمكانِهِ نقل الجبال من مكانٍ إلى آخر . إنّه قدِّيسٌ حقيقيٌّ، عسى أن الله يُريحُ نفسه في ملكوته ” (الفصل الثالث ، ص 93 ) .

.. ومن شهادة سائق سيارة ” عمومي ” مُسلم ، خُلاصتُها أنّه في يوم عاصف ممطر ، أراد المطران بولس أن يعود إلى الميناء من طرابلس، فدخل إلى سيارة في موقف “السرايا العتيقة ” ، في منطقة التل ، وبينما هو ينتظر اكتمال “طلب السيارة ، طلب إليه فقيرٌ حسنة ، فأعطاه ما في جيبِه ! وإذْ أدرك أن جيوبه غدت خاويةً من المال ، نزل من السيارة وراح مشيًا على أقدامه . وفي منتصف الطريق لمحه السائق ، فأدرك أن المطران بولس لم يعُدْ معه ” ربع ليرة” أجرة الراكب ، فتوقّف السائق وأصرّ على أن يصعد الأبونا معه ، حتى ولو لم يعُد لديه المال ، وأوصله إلى منزله ! هذا السائق علّق ، قائلاً لوالد فادي بيطار، الذي يروي هذه الحادثة : ” هيدا الأبونا قدّيس .. نيّالكم فيه ” (الفصل الرابع ، ص 107).

وها هو حبيب جورج حصني ، في شهادته ، يقول : “.. هو المتواضع ، المنسحق القلب ، الطفل الوديع ، ملاكُنا ، وحبيبنا القدّيس .صَلِّ لأجلنا في محافل القديسين ! ” (الفصل الرابع ، ص 128 ) .

.. ويحلو لي ختامًا أن أتوجَّه إلى المثلث الرحمات المطران بولس بندلي، بما كان قد توجّه به شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة (29/6/1953) إلى الأرشمندريت ديمتريوس شحادة ، في سوق الغرب ، في حفلة تعليق وسام “جمعية الروس البيض ” الذهبي على صدره : ” نعم يا أبَتِ ، يا من دعتك السماء ، فكنتَ من رُسُلها الأخيار وأبنائها البررة ! يا نعمةً عطرِيَّةً من أجيال المسيحية الأولى، ويا بقيَّةً من ذخيرة الإيمان والقداسة ، ويا تلميذًا حبيبًا لمعلّم المحبّة السامية ، ويا غريبًا بين أبناء الكنيسة !”. ( عبد الله شحادة ، المجموعة الكاملة ، الجزء الرابع، ص 65 ، منشورات ” مُنتدى شاعر الكورة الخضراء” ، طبعة أولى سنة 2020 ).

***

 * الكِتاب صادر عن “تعاونية النور الأرثوذكسية للنشر والتوزيع” طبعة أولى 2023.

وقد أقيم حول الكتاب ندوتان ، أولاهما في طرابلس (الميناء) في 16/ 9/ 2023 ، والثانية في بيروت  في 11/ 10/ 2023، وذلك بدعوة من “حركة الشبيبة الأرثوذكسية / مركز طرابلس ومركز بيروت . 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *