إمانويل كانط وفلسفته النقدية

Views: 185

وفيق غريزي

كانط هو واحد من المفكرين الذين ترتد إليهم الانسانية، بين الحين والآخر، واثقة من انها لا بد واجدة عندهم شهادة فكرية حيّة، تجعل منهم دائما ابدا مفكرين احياء في كل عصر من العصور. وعلى الرغم من أن الفلسفة الكانطية قد استهدفت للكثير من الحملات، الا أن خصوبة هذه الفلسفة قد عملت على تجمع المفكرين المتأخرين حول كانط، وكأنما هو مركز اشعاع فكري تتلاقى عنده عقول الفلاسفة المختلفين، ويتحقق عن طريقه ضرب من الوصال بين الاذهان في الماضي والحاضر معا.

 

حياة كانط

ولد كانط في 22نيسان عام 1724 في مدينة كونغسبرغ، الواقعةعلى الحدود الشمالية الشرقية لألمانيا، من ابوين فقيرين، اذ كان ابوه يعمل سرّاجا، بينما امّه كانت من اسرة متواضعة، ينتمي الوالدان الى شيعة بروتستانتية تدعى الشيعة التقويّة، وتتمسك بالعقيدة اللوثرية الاساسية القائلةإن الايمان يبرر المؤمن، وترى أن الدين محته الارادة لا العقل، وتعلي من شأن القلب والحياة الباطنية.

في الثامنة من عمره دخل احدى المدارس التابعة للشيعة التقويّة، واتمّ برامجها في سن السادسة عشرة. وقد اظهر ما افاد منها امرين: اعجابا باللغة اللاتينية، وبالرواقية الرومانية، وما تتحلى به من نبل وشجاعة. وبعد المدرسة اتجه الى كلية الفلسفة بجامعة مدينته، ليدرس اللاهوت ليصير قسيسا، ولكنه عدل عن هذا القصد فيما بعد، تتلمذ بالكلية للرياضيات والفلسفة من اتباع التقوية ومن اتباع فولف.

عام 1746 تقدم برسالة جامعية حاول فيها التوفيق بين الفيلسوف رينيه ديكارت والفيلسوف ليبنتز في مسألة قياس قوة الجسم المتحرك. توفي والده، فرأى أن يكسب رزقه بالتعليم في اسرة غنية، وزاول هذا العمل في ثلاث اسر على التوالي عند اهل منطقته، قضى في ذلك تسع سنوات لم ينقطع خلالها عن التحصيل والتفكير. بعد ذلك حصل على درجتين جامعيتين، حتى ذلك الوقت كان تحت تأثير فولف ونيوتن ميتافيزيقيا وعالما طبيعيا.

ثم جاءت المرحلة الثالثة من 1760الى1770 شرع كانط فيها ينقد الفلسفة العقلية في النظريات والخلقيات قبل أن يستبين مذهبه. وابرز الكتب التي كتبها كانط هي:”نقد العقل الخالص”  و”نقد العقل العملي” و”ملكة الحكم”و”متافيزيقا الاخلاق”.

 توفي كانط عام1804 عازبا.

 

المعرفة عند كانط

المعرفة تتألف من عنصرين: مادة وصورة، بحيث لا توجد المادة في الفكر من دون صورة، ولا يكون للصورةاي معنى في نفسها إلا وظيفتها الاتحاد مع المادة. المادةموضوع الحدس الحسي، وليس من الحدس سواه؛ والصورة رابطة في الفكر تسمح بتركيب حكم كلي ضروري لأنها هي اوليّة. هناك اذن مادة للفكر ووجود خارجي، وكأنه لا يتابع التصوريّة المطلقة في انكار هذا الوجود او التشكيك به وإن يكن مذهبه يمنع من القول به. هنا نجد كانط يذهب الى ما ذهب اليه ارسطو، بان الكون هو الهيولي والصورة. ويحصر المعرفة في ما يأخذه من الخارج وما يضيف إليه الفكر، بمعنى آخر، أن المعرفة هي تركيب ما تراه وتحسبه الحواس مع ما يتخيّله الفكر.

رأينا أن هناك مصدرين للمعرفة البشرية في رأي كانط، الا وهما الحساسية والفهم؛ والمصدر الأول هو الذي يمدنا بالموضوعات، في حين أن المصدر الثاني هو الذي يسمح لنا بتعقل تلك الموضوعات. ولكن كانط حين يتحدث عن الحساسية، فانه يفرّق بين صورة الحدوث الحسية ومادتها، على اعتبار أن المادةهيموضوع الأدراك الحسي،أو هي ما يقابل “الإحساس” في صميم الظاهرة، في حين أن “الصورة” هي المبدأ الباطن في الذات العارفة، والذي يسمح لها بتنظيم مضمون الظاهرة، وفقا لبعض المعلومات الخاصة، ومعنى هذا أن المادة تمثّل كل ما يصدر عن الذات، وما هو بطبيعته كلي ضروري… فالمعطيات الحسيّة هي امدادات حقيقية ترد الينا من العالم الواقعي، وليست مجرد اوهام ذاتية من نسج العقل، كما وقع في ظن اصحاب المثالية الذاتية. ولكن ليست مهمة نقدالمعرفة سوى العمل على تبيين ما يرد الينا من الخارج، وما نضفيه نحن على المعطيات الحسية، عن طريق ما لدينا من صور أوليّة سابقة على التجربة، وبالنسبة الى المكانوالزمان باعتبارهما صورتي الحساسية، فان كانط يرى أن المكان والزمان هما صورتان اوليتان تخلعهما الحساسية علىشتى المعطيات الحيّة التي ترد اليها من الخارج، دون أن يكون لهما ادنى وجود واقعي في العالم الخارجي، باعتبارهما موضوعين قائمين بذاتهما.

إن الزمان ليس شيئا موضوعيا واقعيا، كما أنه ليس جوهرا او عرضا او رابطة، بل هو الشرط الذاتي الذي يجعل في وسع العقل البشري أن يحقق ضربا من التآزر بين جميع الموضوعات الحسيّة، وفقا لقانون محدد، فالزمان اذن حدث صرف. وهكذا الحال ايضا بالنسبة الى المكان، انما هو صورة تخطيطية ذاتية تصورية، تتبع وفقا لقانون ثابت، من طبيعة الذهن، وتجعل في الامكان تحقيق الترابط او التآزر بين جميعالموضوعات الحسيّة الخارجية.ولكن كانط لا يقتصر على القول مع ليبنتز، بان المكان والزمان مفهومان مجردان للامتداد والديمومة الحسيين، بل هو يذهب الى أن يقولإن المكان والزمان هما حدسان اوليان او صورتان خالصتان للحساسية، تنطبقان على مادة الخبرة، فتولّدان تمثل الامتداد والديمومة الحسيين.

 

من المعرفة الى الوجود

يذهب مؤرخو الفلسفة الى انه إذا كانت مشكلة الوجود هي الموضوع الرئيسي الذي اثار اهتمام الفلاسفة القدماء، فان مشكلة المعرفة هي المحور الاساسي الذي دار حوله تفكير الفلاسفة المحدثين. وعلى حين كان الأقدمون ينتقلون من الوجود الى المعرفة،اصبح المحدثون ينتقلون من المعرفة الى الوجود. ولكن، هل يمكن أن يكون ثمة انتقال من المعرفة الى الوجود عند كانط، بعد أن اعلن بصراحة استحالة تجاوز العقل لعالم الظواهر؟ ليست الميتافيزيقا في عرف اصحابها، انما هيادراك موضوعات خارجة عن نطاق التجربة؟ فكيف يمكن أن نسلّم بإمكان قيام علم يكون موضوعه هو “الوجود من حيث هو موجود”، في حين أن كلهدف النقد الكانطي قد انحصر في بيان استحالة الانتقال من عالم “الظواهر” الى عالم “الأشياء في ذاتها”.

إن كانط، صاحب الفلسفة النقدية، قد سلّم منذ البداية بانه ليس لدينا اي “حدس عقلي” نستطيع عن طريقه أن نرقى الى مستوى تأمل “الموضوعات المطلقة”،أو الحقيقة اللامشروطة،أو الجوهر بالذات، ومن هنا لا موضع للشك في أن كانط قد اراد أن يهدم الميتافيزيقا التي ظهرت منذ عهد افلاطون وارسطو حتى عهد ليبنتزوفولف، فأثارت بين اصحاب المدارس المختلفة خلافات عقيمة ومناقشات غير مجدية … نجد أن عجز الميتافيزيقا عن انتزاع اجماع المفكرين شاهد على قصور العقل البشري عن معرفة “الشيء في ذاته” او “المطلق” أو “اللامتناهي”.

ولقد قرر كانط أن لديه عن طريق التجربة الخارجية، شعورا بوجود الأجسام في المكان، كما أن لديه، عن طريق التجربة الباطنية، شعورا بوجود نفسه في الزمان،من دون أن يكون في وسعه أن يعرف هذه النفس، اللهم الا باعتبارها موضوعا لإحساس باطني يستند الى بعض الظواهر التي تكون حالة داخلية، بينما تظل ماهية النفس في ذاتها، باعتبارها عامة لكل هذه الظواهر، شيئا مجهولا لديه تماما.

 

الأخلاق عند كانط

تقوم الاخلاق عند كانط على اساس فكرة الواجب، وعلى فكرة الأمر المطلق. والأمر نوعان: مشروط ومطلق،أما المشروط فيقوم على اساس المبدأ القائل: من يتبع الغاية يبتغي الوسيلة، وهو مبدأ تحليلي،إذ يمكن استنباط الوسيلة من الغاية بطريقة قبلية. وحسب رأي الدكتور عبد الرحمن بدوي: ” فمن يبتغي المعرفة عليه بالتعلم، ومن يبتغي الثروة عليه بالتجارة والاستثمار،ومنيبتغي السلطةفعليه الخوض في السياسة، فالتعلم وسيلة الى غاية هي معروفة، والتجارة والاستثمار وسيلتان الى غاية الثروة، والخوض في السياسة وسيلة الى غاية هي السلطة،

اما المطلق فيقوم على الربط المباشر بين الارادة وبين القانون من دون شروطولا مقدمات ولا نتائج. ونحن هنا امام مبدأ تركيبي قبلي،إذ من المستحيل استنباط من أي مبدأ متميز، الأمر المطلق يقرر أن الفعل يكون خيرا من الناحية الاخلاقية لأنه يجب ايواءه، ولا يقرر أن الفعل يجب ايواءه لأنه خير من الناحيةالاخلاقية. ومعنى هذا أن الواجب “مفروضا” على الارادة الانسانية، هو قانون العقل المحض، لأنه قبلي وكلي. وعلينا أن نسلّم بفكرة الواجب تسليما مطلقا من دون أن نحاول استنباطه من مبدأ سابق له. ومن فكرة الواجب هذه يستنبط كانط ما يسمّيه مصادرات العقل العملي، انها مصادرات أو فروض، لأنها لا تقبل البرهنة العقلية كما قرر ذلك “نقد العقل المحض”، وانما هي موضوعات للاعتقاد فحسب، اي الايمان غير العقلي. وهذه المصادرات الثلاث: الحرية وتنبع من ضرورة اطاعة الواجب، ثم خلود النفس ومصدره أن الاخلاص التام للواجب لا يمكن تحقيقه في هذه الدنيا، ولهذا نميل الى الاعتقاد في امكان تزايد الكمال الى غير نهاية، وهو امر لا يتصوّر الا بافتراض أن النفس خالدة. لخلود النفس امر يقتضيه العقل العملي، وان لم يستطع العقل النظري اثباته. والمصدر الثالث وجود الله: والاعتقاد بوجود الله يصدر عن ايقاننا بان السعادة يجب أن تصحب الفضيلة، وبان السعادة مصاحبة للاخلاق.

الاخلاق اذا صورية محض عند كانط،أي أنها تتوقف على صورة الأفعال، لا على مضمونها،أي على كون الأفعال قد تمت وفقا للواجب والقانون. ويميز كانط بين حال النفس وبين النيّة، فان حال النفس تقع في منزلة اعمق من النيّة، حيث أن النيّة لا تكون بادىء الامر إلا تحت تأثير التجربة العابرة التي للشخص عن الحياة، وعلى الأخلاق أن تقبل التطبيق على كل موجود عاقل بوجه عام. وعلينا أن نصنع الخير، لا من اجل غاية او غرض، بل لذاته، لأن الخير الاخلاقي خير في ذاته.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *